عقدة «العلمانية».. وضرورة تجديد المفهوم
لا يقتصر تداول كلمة علمانية في الكتابات والنقاشات المختلفة على أوساط النخب السياسية والفكرية والثقافية في بلداننا اليوم، بل تستخدم هذه الكلمة حتى في أحاديث بعض الناس العاديين حيث توحي بمعان ٍعديدة متناقضة تبعاً للوسط الذي يتناولها والمصلحة التي قد تلبيها لهذا الوسط أو ذاك، فإذا كانت تعني بالنسبة لبعض النخب فصل الدين عن الدولة وإزاحةً تامة للتخلّف عن المشهد الاجتماعي والوصول إلى حالة من التحرر والانفتاح بما يتلاءم مع المستوى العلمي والمعرفي الذي وصلت إليه البشرية حتى الآن، فهي تعني بالمقابل انقلاباً كاملاً على إرث العادات والتقاليد الذي يحمل من الثمين والقابل للحياة مثلما يحمل من الغث البائد كما هو الحال بالنسبة للأوساط الأقل علماً وثقافة، وهذا يكشف عن جانب من التناقضات في المطالب والتصوّرات بين النخب والجماهير بما يعزز القطيعة بينهما ويزيد من عزلة النخب ويضعف تأثيرها على الجماهير.
فصحيح أنه ليس المطلوب أن تهبط النخب بوعيها إلى الوعي العفوي أو الشعبوي، الذي هو ليس بالضرورة وعياً صحيحاً، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن الكثير من عناصر هذا الوعي آتية من الذاكرة السياسية وتاريخ المعاناة الطويل للجماهير في القرن الماضي مع (علمانية) الحكام العسكريين المرتبطة مصالحهم بحكومات الغرب الاستعمارية، كما هو الحال في مصر وتركيا وإيران الشاه ما قبل الثورة الإسلامية، مما صرف الجماهير في تلك البلدان إما بالاتجاه الأصولي الظلامي، أو باتجاه ما يسمى بالتديّن المعتدل، وما هذا إلا تعبير – سلبياً كان أم ايجابياً – عن تعارض مصالح تلك الجماهير مع الفئات الحاكمة في نهاية الأمر.
وفي ضوء تناقضية هذا المفهوم والإشكاليات التي يثيرها في عصرنا هذا في الأوساط المختلفة، تنشأ ضرورة البحث عن محدداته وإسقاطاته العملية على أرض الواقع، ومن ثم قابليّته للحياة وقدرته على حل الأزمات الاجتماعية والأخلاقية المختلفة. وهذا البحث لن يتم بمعزل عن قراءة الوظيفة السياسية والاجتماعية للعلمانية في ضوء تجارب الحكم المختلفة التي وصفت بالعلمانية، بما يخضع هذا المفهوم لضرورات التجديد وإيجاد البدائل.
لقد جاء نشوء العلمانية تاريخيا كمفهوم وكمطلب سياسي اجتماعي مع صعود البرجوازية الناشئة في أوربا، وفي سياق صراعها مع الإقطاع ومؤسسته السياسية المتمثلة بالكنيسة التي أضحت هيمنتها على مفاصل الحياة الاجتماعية معيقاً أساسيا لتطور القوة المنتجة الجديدة آنذاك، وكانت نتيجة هذا الصراع انهياراً كبيراً للكنيسة كمؤسسة سياسية مثّل نهاية المرحلة الإقطاعية وبداية العصور الحديثة.
فالعلمانية كمفهوم –شأنها شأن غيرها من المفاهيم- هي نتيجة واقع وظروف تاريخية محددة كنشأة وكوظيفة، وبحاجة دائمة لتحديد محتواها التاريخي الطبقي الذي هو المعيار الأساسي في الحكم على الظواهر الاجتماعية المختلفة من حيث قدرته على فرز المفاهيم والمعطيات على أساس المصالح الاجتماعية المختلفة والمتعارضة، وليست قيمة مجرّدة عن السياق التاريخي (الاقتصادي الاجتماعي)، فدلالتها اللغوية -مشتقة من العالم وظواهره المادية أي بعكس الدين والكهنوت مباشرة- هي دلالة ضدّية وسجالية أكثر من كونها تاريخية وفكرية، وغير كافية لتغطية كل جوانب هذا المفهوم ووظائفه.
أما في الشرق، فمنذ أواخر القرن قبل الماضي تلقف المنوّرون والمفكرون دعاة التحرر (الكواكبي – الأفغاني – محمد عبده...) العلمانية كمشروع نهضوي - من حيث فهمه نظرياً وإعادة إنتاجه بما يتلاءم مع البيئة المحليّة- على أرضية ضعف الأمبرطورية العثمانية وتراجع دورها ونهوض الوعي التحرّري في الشرق.
ولعبت العلمانية- كمطلب أساسي ضروري للتحرر ولتصفية التخلف الاجتماعي- دوراً كبيراً في السجال الفكري والاجتماعي في بلدان العالم الثالث قبيل وبعيد الحرب العالمية الأولى على أيدي المنوّرين والمثقفين والأحزاب السياسية الوطنية، فقد كانت هذه البلدان الخارجة لتوها من ربقة الاستعمار، في حالة تحديد هويّتها الوطنية وعياً وتشريعاً وثقافةً، وبحاجة إلى كنس التركة الثقيلة من واقع الجهل والخرافة الذي خلّفته التبعية وأدواتها الثقافية المختلفة.
ومع صعود حركات التحرر الوطني والاتجاهات الثورية في العالم الثالث فيما بعد، بدأ يتضّح أكثر فأكثر لحكومات الغرب الاستعماري ضرورة خلق نموذج سياسي ليبرالي مرتبط بها بديل عن حركات التحرر الوطني والقوى الثورية الداعمة لها، نموذج له القدرة على المنافسة من حيث القبول الاجتماعي والجماهيري، ولمّا كانت العلمانية مطلباً يلقى ذلك القبول، تحولت إلى غطاء يضفي تحرراً شكلياً لأنظمة رجعية في جوهرها، مرتبطة بالغرب، غالباَ ما كانت مدعومة من جيوشها كما هو الحال في علمانية الجيش التركي أو حكومات أمريكا اللاتينية التي جاءت بها الانقلابات العسكرية في مواجهة القوى الثورية اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي. أي أن العلمانية بمعناها المجرد عن المحتوى الطبقي ما كانت إلا شكلاً لحكم العسكر في بلدان العالم الثالث، وكانت مرتبطة بأنظمة الحكم الديكتاتوري العسكري عملياً، وليس بالديمقراطية (بالمعنى الرأسمالي) كما هو بديهي وسائد في أوساط النخب وأشباهها، حيث غالباً ما يكون الربط ما بين العلمانية والديمقراطية والتحرر ربطاً صورياً معزولاً عن تجارب التاريخ ومنطقه.
هنا نجد تناقضاً مابين الوظيفة السياسية للعلمانية ووظيفتها الاجتماعية يفرض علينا ضرورة تجديدها وإعادة إنتاجها وطنياً بما يتلاءم مع ثقافتنا ووعينا. فصحيح أن التوظيف السياسي للعلمانية الذي تم شرحه آنفاً، لا يعفينا من استحقاقات التحرر الاجتماعي التي تواجهنا كمثقفين وسياسيين، ولكن طالما أن السياسي مرتبط بالاجتماعي أشد الارتباط، فلن نستطيع أن نفهم مثلاً أن العداء لحركات المقاومة للمشاريع الأمريكية والصهيونية تحت يافطة العلمانية ما هو إلا دعوة للتخلف الاجتماعي، عبر تسويق العجز والرهان على فشل الشعوب في إيجاد أدواتها البسيطة في الصراع مع أعتى الطغم في التاريخ. ولن نستطيع أن نفهم أن إحلال (العلمانية- وتحرر المرأة...) بديلاً عن الأهداف الإستراتيجية الكبرى -كالاشتراكية مثلاً- في وعي وبرامج بعض الأحزاب (اليسارية) إلا دليلاً على الخروج من المعادلة السياسية والعزلة عن الجماهير التي يتقدم وعيها العفوي، المتكون بوحي من مصالحها، شيئاً فشيئاً على وعي تلك الأحزاب.
ومما تعانيه العلمانية أيضاً في طروحات النخب اغترابها عن ثقافة وتراث بلدانها، ويظهر هذا في محاولة طرح (النموذج الجاهز) الغربي، الأمر الذي يعني الوقوع في مطبّ النظرة الاستشراقية أو الأورومركزية التي طالما نظر الغرب إلينا من خلالها، فذلك الانقطاع عن التراث والماضي يعني الانقطاع عن الوعي الاجتماعي الذي يلعب التراث دوراً مستمراً في تكوينه..
فلا يمكن الحديث عن أي مشروع للتحرر الاجتماعي دون الأخذ بعين الاعتبار التراث كأحد مكونات الوعي الأساسية، ودون إعادة قراءته من المنظور المادي التاريخي على غرار ما فعله الباحث حسين مروّة، الذي حدد معركة التحرر العربي بمسألة الحسم في موضوع التراث، أو في محاولات هادي العلوي في إبراز، والكشف عن ملامح الوعي التقدمي والتحرري في دراساته التراثية المختلفة وإعادة تحديثها.
فهل فكّر دعاة العلمانية في مسألة التحرر الاجتماعي ضمن سياق مشروع سياسي وطني يلحظ واقع هذه البلدان وخصوصياتها وتراثها، أم أكتفوا بترديدها على مسامع الجماهير حتى ثَقُل وطؤها عليهم، فحوّلوها إلى دين جديد مجرّد يصادر آراء الناس ومعتقداتهم ضمن المنطق الديني نفسه الذي ترفضه العلمانية وأصبحت قناعاً لتزيين الديكتاتوريات العسكرية، أو النيوليبرالية لاحقاً، والالتحاق بالغرب؟؟.
إن طرح هذا المفهوم للناس بشكله القديم يستدعي ظهور النقيض مباشرة - كما هو الحال في عراق اليوم المنقسمة قواه السياسية مابين (علمانية) الليبراليين الجدد من جهة، وأمراء الطوائف وشيوخ القبائل من جهة أخرى،- ومن شأنه أن يعطي مفاعيل عكسية، ويُحلّ الثانوي محل الأساسي، فيدفع الناس إلى مزيد من النفور والتشرنق بالموروث أياً كان، نظراً لما لحق به من تشويه في الذاكرة والوعي.