ألوان الجنة.. صبغة الله
«قال لي أستاذي إن الله يحب الضرير أكثر، لأننا لا نرى .. ولكنني سألته لو كان كذلك إذا لماذا خلقنا الله ضراراً ؟ هل خلقنا هكذا حتى لا نراه ؟ . أجابني، إن الله لا تدركه الأبصار وإن الله في كل مكان تستطيع أن تراه بإحساسك، تستطيع أن ترى قدرته عندما تلمس الأشياء بيديك.. ومنذ ذلك الحين وأنا أتلمس الأشياء والى أن يأتي اليوم وتلمس يدي يداه .. لكي أخبره بكل شيء، وبكل ما في قلبي من ألم وحزن»
هذا ما يقوله الطفل «محمد» في لحظة درامية متصاعدة تنقطع معها الأنفاس والقدرة على استيعاب جمال «محمد» وعمق حزنه. يضعنا المخرج الإيراني «مجيدي مجيدي» أمام فيلم غني بأشكال مختلفة من عناصر السينما الإيرانية، ثالث أهم سينما في العالم، في فيلمه «ألوان الجنة» مستخدماً الطفولة كأحد حوامل أعباء أزمات الراشدين. وكان منطقه أن صناعة فيلم للعائلة يمس الكبار، أكثر صعوبة من آخر يشعر به الأطفال فقط.
يشبه «ألوان الجنة» لوحة انطباعية متحركة، وكعادته قدم المخرج صورة بانورامية لحياة طفل ضرير، ورؤية تشعر المتابع بالعجز أمام قدرات الطفل وإبداعه، وألقى الضوء على عادات الريف الإيراني الملون..
«محمد» خالق لغة الطبيعة والقادر على فهمها، الشاهد على صبغة الله، يدرس في مدرسة للمكفوفين وسط المدينة،وعندما ينتهي العام الدراسي، يتلون الريف في قلبه وتنمو سنابل القمح بين أيديه، من خلال مساعدته «محمد» عصفور حديث الولادة على الرجوع إلى أمه بعملية معقدة ومشهد مطول يركز على تصميم هذا الطفل الصبور، في زمن لم يصبر أحد على وجوده في مكانه، وتناقضه مع والده الذي يحاول إبعاده عن عشه، وعن حلمه في عيش حياة طبيعية يتناسى فيها أنه ضرير،
يتآلف الطفل مع الطبيعة، ويناجيها، عبر لغة لن يفهمها والده الذي لا يعرف من أصوات الطبيعة سوى الخوف، ربما لن يجهل «محمد» ألوان زهر الحقول التي لعبت في الدلو مع الصوف لتشكل سجادة عجمية ريفية بأنامل جدته، ولكنه بالتأكيد تخيلها أجمل مما هي عليه.. وربما أجمل مما شاهدناه في صور «مجيد مجيدي» السينمائية المذهلة التي ميزت الفيلم من خلال تصعيدها للإثارة الحسية. واستطاعت الكاميرا التقاط تفاصيل الفعل التعبيري وقربته، بحيث يستطيع المتلقي ملاحظته بسهولة.. كالحراك الفيزيائي لأصابع الطفل الناعمة، لوجه أخته الصغيرة، أو جدته... ألوان الحقول.. وقراءته للسنبلة، ومحادثة نقار الخشب والنوارس، مشاهد مشحونة بعاطفية مؤثرة، تضفي عليها الألوان الإلهية المتراقصة المستخدمة في هذا الفيلم تميزاً خاصاً، بينما تعيدنا مشاهد أخرى إلى الواقع المر، مكثفة سوداويته بشكل متقن وحرفية عالية، كمشهد انكسار الجدة بعد غياب الطفل، لتتحول الصورة بعده لاستخدام الألوان الكامدة معبرة عن الحزن الذي لون قلب الطفل والجدة والخيارات الصعبة التي آلت إليها حالهم....
ألوان الفردوس هنا هي صبغة الله كما عبر عنها المخرج وجسدها الطفل الأعمى حقيقة محسن رامزاني ..
فيلم غني بالقيم الإنسانية بمسحة جمالية تحترم القيم وتجسد التراث بلغة بسيطة وممتعة كما اعتدنا عليها في السينما الإيرانية.
حيث نجد الهوية الثقافية الشرقية والمستمدة من الواقع الاجتماعي للريف هنا، تمثيل يدهشنا في واقعيته للجدة والأب وطبعاً الطفل، مهارة الكاميرا في التركيز على الحس الجمالي حتى نشعر أننا أمام سجادة إيرانية مفعمة بالألوان والنقوش معبراً عن شاعرية الإنسان الإيراني وعاطفيته....يقول مجيدي مجيدي عن فيلمه وعن السينما الإيرانية :
«إن القفزة السينمائية الإيرانية راجعة إلى وجود احتياطي هائل من المواهب والمواضيع وتحولت إلى عنوان جودة بسبب دعم الدولة. وأضاف أن الغرب اهتم بها بشكل فريد لأن بها قيم يقدرها، وتقدم له أوجه أخرى من الحياة والثقافة في إيران البلد غير المعروف جيدا والمنغلق شيئا ما أمام الغرب.» أما عن الأطفال فيؤكد:«إن هناك أموراً لا يمكن أن تقال أو تظهر مباشرة نتيجة الرقابة ولهذا ينتهج المخرجون أسلوبا يعتمد على شخصيات الأطفال في الأدوار الرئيسية يقدمون من خلالهم مشروعهم و بطريقة رمزية تتجاوز الدلالات مصير الأطفال لتشمل المجتمع ككل. أما الألوان فلها صبغة خاصة في المجتمع الإيراني يتعامل بها الناس باعتبارها وسيلة إيحائية لتمرير الأحاسيس أو المعلومات».
فيلم ألوان الجنة إنتاج 1999
إخراج مجيدي مجيدي