شين غرين.. مين تسو.. وين مينغ..
لا يعرف معظم الناس معاني تلك الكلمات الثلاث، وينطبق الحال على العديد من الناس حول العالم وفي أمريكا وأوروبا، وللعلم، كان استخدام هذه الكلمات «محرماً» في وقت من الأوقات، رغم أن معانيها واسعة الانتشار ودائمة التداول
لم تكن المشكلة أبداً مع ما تحمل تلك الكلمات من المعاني، فالقضية تتلخص في استعمال تلك المفردات بالذات خارج حدودها، في الغرب على وجه الخصوص بعد أن تتم ترجمتها إلى الإنكليزية على سبيل المثال، هي ثلاث كلمات صينية عمرها آلاف السنين لخصت المحاولات الإمبريالية الدائمة لحصار الثقافات وطمس الهويات وفرض المفاهيم الفكرية الخبيثة على العقول، إنه نوع جديد – قديم من السطوة الإمبريالية، إنها إمبريالية اللغة
أصبحت الصين اليوم مخيفة أكثر من أي وقت مضى، وبدأت القوى الغربية تعد العدة لصدام متوقع بين ثقافتين تحملان الكثير من التناقض، تداول كثير من المفكرين الغربيين سيناريوهات «متشائمة» لمستقبل باهر ينتظر تلك الإمبراطورية الصاعدة، إذ ساهمت الأزمة الرأسمالية بإزاحة الولايات المتحدة الأمريكية عن قمة الهرم، ولم يعد خافياً على أحد أن الصين ستحتاج إلى سنوات قليلة لتتفوق على الولايات المتحدة للمرة الأولى في مجال البحث والتطوير العلمي ولتتجاوز الدول الأوروبية، مما سيمهد لسيطرة فكرية على مفاصل صناعة المعلومات، وينقل مركز الثقل إلى مكان آخر، إلى الشرق الذي استمات الغرب على طمس معالمه الفكرية على الدوام.
احتواء مقصود
إذاً، ماهي المشكلة التي تعاني منها لغة أكثر من مليار نسمة في العالم؟ يأتيك الجواب عندما تحاول ترجمة تلك الكلمات إلى مقابلاتها في اللغات الأخرى، حيث تتم ترجمة الكلمات الثلاث تلك إلى «فيلسوف» و«ديمقراطية» و«حضارة»، لكن الترجمة لن تبدو منصفة أبداً لأي صيني مثقف، فقد ضاع الكثير في الترجمة، وتحولت المفاهيم الأصلية التي تحملها اللغة الأم إلى مفاهيم أخرى بعيدة كل البعد عما تقصده تلك الكلمات، فقد فضل الغرب ترجمة هذه المعاني بالشكل الذي يريدون، دون أن يحاولوا إضافة تلك الكلمات كما هي كما جرت العادة، وأضافت اللغة الإنكليزية أكثر من 35000 كلمة وجملة باللغة الصينية إلى قاموسها اللغوي، أضافت الكلمات التي صعبت ترجمتها كمفهوم الـ«ين» و«يانغ» واسم رياضة الـ«كونغ فو» وأساليب «فونغ شواي» بالإضافة إلى آلاف الكلمات باللغة السنسكريتية مثل: «بودا» و«غورو» والكثير غيرها.
من جهة أخرى خضعت بعض الكلمات لترجمة «منقوصة»، وعن قصد، كي يتم طمس المعاني الحقيقية لها، المعاني التي يفتقدها المجتمع الغربي، المعاني الفاضحة لعيوب المجتمعات الاستهلاكية الرازحة تحت السطوة الرأسمالية والبعيدة كل البعد عن العدالة الاجتماعية التي تنشدها مجتمعات الأرض، فكان الحل بتشويهها ومحاولة إلغائها من التاريخ الغربي، أو العالمي إن كان بالمستطاع ذلك.
الصين.. تلك العائلة الكبيرة
يوضح عالم اللغويات الصيني «جو زين كوان» المعنى الحقيقي لكلمة «وين مينغ»، بأنها «حالة روحانية عليا من الأخلاق الحميدة والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع الواحد»، ترجمت هذه الكلمة إلى الإنكليزية فأصبحت «Civilization» أي «حضارة» والحضارة تعني تجمعاً متطوراً من الناس مادياً وتكنولوجياً، فإذاً تم استبدال كلمة عمرها أكثر من ألفي سنة بكلمة لم تبلغ مئتي عام من السنين، يتابع العالم كلامه: «المرادف الصيني لكلمة حضارة هو كلمة...»، يبتسم ثم يقول: «تشينكشيجيشوا زوي» ينظر إلى متابعيه ويضحك: «أعلم أنها صعبة، وين مينغ أفضل، لكن بلا ترجمة، كما هي».
أما «مين تسو» فقد ترجمت إلى «democracy» أو «ديمقراطية» اليونانية الأصل، وما يتبعها من مفاهيم حقوق التصويت وأساليب الحكم التي تسمح بإنشاء نظام سياسي عادل ومتوازن، بينما المعنى الحقيقي للكلمة الصينية مغاير تماماً، وعلى درجة أعلى من التعقيد والرقي، وهو السبب في حفاظ الصين على نظام اجتماعي يعتمد على تبجيل التماسك الأسري وإسقاطه على جميع جوانب الحياة، فـ«مين تسو» هو من ساهم في تخليد قانون أخلاقي يحفظ للجميع حقوقهم دون الحاجة حتى إلى سن القوانين، فالجميع أسرة واحدة، وفي الأسرة الواحدة لا داعي للشجار، هناك تفاهم وثقة تسمح بإنجاز الأعمال دون أن تتقدم المصلحة الفردية على مصلحة الجماعة. لم ينظر الأوروبيون إلى الصين على أنها «حضارة» حتى بداية القرن العشرين، بينما كان الصينيون على الدوام يقولون إن الغرب ينقصه «وين مينغ» ويحتاج إلى «مين تسو»!!
أما «شين غرين» فقد ترجمها الغرب إلى «فيلسوف»، لكنها تعني الشخص المبجل المحترم في العائلة الكبيرة، صاحب الحكمة والمعرفة، ومن يستأنس برأيه عند الشدائد، ومن جديد، يتعامل الصينيون مع بعضهم مجازاً على أنهم عائلة كبيرة، ليتم إسقاط هذه «الفلسفة» على كل جوانب الحياة، فيتلاشى الجشع وتتحول المنافسة بين الأقران إلى عملية بناء وتطوير للمنزل الكبير الذي يحوي تلك العائلة، الصين نفسها.
إمبريالية اللغة..
حذر الأديب الألماني الحاصل على جائزة نوبل «هيرمان هيسه» أبناء قومه قائلاً: «علينا ألا نصبح صينيين، وإلا ستعلق علينا مفردات تلك الحضارة ولن نستطيع إزالتها»، وهذا بالضبط ما حدث، لقد نفر المجتمع الغربي من الثقافة الصينية لأنه لا يفهمها، لكنها تفهمه وتفضح عيوبه، مما دفع الإمبريالية الغربية وأدواتها الفكرية إلى احتواء المعاني الغنية التي تحملها لغات الحضارات الأخرى عن طريق الترجمات المنقوصة والمحرفة بدلاً من احتضانها في مفردات اللغات الأخرى، يقول الكاتب الألماني «ثورستون باتبرغ»: «الإمبرياليون والسياح متشابهون في بعض الأمور، إنهم لا يتعلمون، يحبون تسمية الأشياء الجديدة بالأسماء التي اعتادوا عليها، ويحاولون إقناع العالم بذلك عندما يكتشفون بأنهم على خطأ..!!».
لكن حان الوقت كي يفكر الجميع حول العالم في الوصول إلى الـ«وين منيغ» في مجتمعاتهم ليتبعها تطبيق ناجح لـ«مين تسو» يعمل على الحد من الخلافات الدموية العرقية والمذهبية، لكن ذلك قد يتطلب وجود الكثير الكثير من «شين غرين».. وهم قلة.