أين البطل
سألوا عنترة العبسي: «بماذا كنت البطل الفرد ؟ و أنت العبد؟!»
فقال لهم: «أنا لست بعبد أنا أكثركم حرية!.. أنا في فقري أغناكم، أنا في ضعفي أقواكم، أنا لم يستعبدني شيء، خوف أو طمع أو جاه !»
على مفارق طرق الإنسانية، و في أزمان التحولات الكبيرة، تنجب لحظات الغليان والصخب، أشخاصاً من نوع استثنائي، تتحدد مواصفاتهم، وتتمايز صفاتهم عن أقرانهم، ويذكر التاريخ بصماتهم وتسكن قصصهم وعي الناس جيلاً بعد جيل، تتناقلها الألسن في حبور أو حسد، في طقس قد يخلو من الواقعية، لا تحركه أية قوى أخرى غير أحلام وأمنيات الشعوب.
المصدر الأول والأخير لفكرة البطولة يرجع إلى إعجاب الشعب بفكرة البطل، فالحياة بجوانبها المختلفة لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بفضل عناصر بطولية تغلبت على الشر وتغلبت على عناصر الضعف والنقص حتى شارفت الكمال. فقد تصور الشعب بطله مخلوقاً غير عادي يصنع الأساطير، وأخذ يصور حياته، من ولادته إلى وفاته تصويراً فيه من الخيال الشيء الكثير، لكن البطل الفولكلوري قد خلا في حكاياتنا الشعبية من أية ذاتية خاصة به، ليصبح خلاصة نقية للجماعة، يتجاوب مع روح الطبقة التي ينتمي إليها، وأصبحت قصص الأبطال المتوارثة متحيزة لوجهة نظر معينة، هي أولاً وآخراً وجهة نظر الطبقة التي تبتدعها وتتداولها، لنرى البطل وقد تخطى حدود الطبقة بالخيال محققاً طموحه في تحطيم الحواجز الاجتماعية، وكلما اشتد حرمان الطبقة المسحوقة قويت فيها الأحلام على هيئة صور خارقة بعيدة عن واقع الحياة. فلم يصبها من الواقع إلا الشر. وتلك الأحلام منحتها متنفساً وهمياً لما تعانيه.
يستطيع القارئ الملم ببعض جوانب التاريخ الابتعاد قليلاً عن صورة البطل الفولكلورية في الموروث الشعبي، وبإمكانه تعداد مئات الأمثلة عن أبطال أكثر واقعية وبعداً عن الأحلام والأمنيات، و يحتفظ التاريخ الإنساني في ذاكرته بهؤلاء الأشخاص الاستثنائيين من أنبياء ومصلحين ومفكرين وأدباء روائيين وشعراء وخطباء، ومخترعين وزعماء دول وثوار ضد الاستعمار، ولم يكن لهؤلاء الأبطال في معظم الحالات أن يأخذوا مكانهم لولا طبيعة وخصوصية المرحلة التي عاشوها. التي مكنتهم من استثمار مواهبهم وقدراتهم، وهم في النتيجة لا يتساوون في قوة تأثيرهم، إذ لا يستطيع أي قائد تجسيد مفهوم «البطولة» في محيطه ما لم يتمتع بالجاذبية والمقدرة التي يمتلكها نظيره.
وهذا ينقلنا إلى قضية أكثر أهمية تتعلق بدور الصورة في صناعة البطل، المرتبطة بعصر التقدم التقني وما حمله من تغييرات على مفاهيم ثقافية متكاملة، فكلما تطورت صناعة التلفزة، وتضاعف عدد مشاهديها، تطورت أكثر فأكثر صناعة البطل. وهنا تأتي النقيصة الكبرى في تلك الصناعة، حيث تغيب الحاجة إلى الموهبة والإبداع في الهدف المراد الترويج له، وتضطلع الصورة بالتعويض عن ذلك. لتتخلى الصورة عن حياديتها، ويصبح استخدام الصورة في صناعة البطل وسيلة لتحقيق هدف أو جملة من الأهداف السياسية أو الاجتماعية التي لا يمكن ضمان نقاء توجهها وليمتد هذا التأثير السلبي على جموع المتابعين من الجيل الصاعد الباحثين في لاوعيهم، عمن يمثل تطلعاتهم ويتحدث باسمهم من «أبطال» عصرنا «الكرتونيين» البعيدين كل البعد عن الصورة المثلى للبطل الحقيقي رائد التغيير وملهم انجازاته.