أبي.. ماذا فعلت في الحرب الكبيرة؟؟
اشتهر ملصقٌ للدعاية الحربية البريطانية في الحرب العالمية الأولى، صممه (سيدني ليوملي) ونشر عام 1915، يصوّر فتاةً تجلس على ركبة رجلٍ، وتمسك في يدها كتاباً مفتوحاً وتسأل وهي تشير بإصبعها إلى صورة في الكتاب: «أبي، ماذا فعلت في الحرب العظيمة؟ »
ويبدو على الرجل ملامح الحسرة والحزن في حين يظهر في كادر اللوحة طفلٌ (ربما يكون الأخ) وهو يلهو بدمى لجنودٍ ومدافع.
تبدو مقولة الملصق شديدة الوضوح، من حيث محاولته اللعب على وتر المكانة الاجتماعية أو المجد الشخصي والعائلي للفرد واستخدام «مشاعر الذنب» كمحفّزٍ للاشتراك بالحرب. كما لو أنه يقول لكل من يراه: «انتبه، قد تجد نفسك في المستقبل يوماً ما أمام السؤال ذاته ».
يكفي للمرء أن يلقي نظرة سريعة على تاريخ الدعاية الحربية وأدوات الحرب النفسية حتى يدرك أن المقولات التي وُظِّفت واستخدمت لحمل الرجال على القتال وخوض الحرب هي ذاتها لم تتغير من أكثر تلك الحروب بدائيةً حتى النووية- كما هي حال دوافع الحرب وأسبابها- لكن ما تطوّر حقاً هو أساليبها، وأدواتها ومدى دهاء القائمين عليها!
لطالما عملت الدعاية الحربية لتحقيق هدفين أساسيين: أولهما إقناع الأفراد الاشتراك في الحرب (التجنيد) وثانيهما المحافظة على الروح المعنوية وتثبيت المقاتلين في أماكنهم ضمن أشد ظروف الحروب خطورةً ورعباً، في حين كانت أشد المفارقات سخرية: كيف تستهدف الدعاية الحربية دفع البعض للقتال في حين تعمل الحرب النفسية على تحقيق النقيض تماماً: إقناع الخصوم بالاستسلام والتوقّف عن القتال!
كانت الوعود بالخلود الأبدي أو المجد الشخصي والوطني والحوافز المالية أبرز أساليب الضغط عبر التاريخ، ولم يوفّر رجال الدعاية -من الكهنة وحتى رجال العلاقات العامة- أداة لإيصال رسائل دعائية بدءاً من الأساطير ومروراً بالتماثيل والقطع النقديّة وحتى الجنائز والأعياد. في الوقت الذي تمّ اللعب فيه على الأوتار النفسية للشخصية البشرية باعتماد الإرهاب والتخويف مروراً بالإقناع العقلي والمنطقي أو الضغط العاطفي الوجداني.
أخفقت بعض تلك الوسائل في حين نجحت أخرى، وكُتب لبعض المحاربين النصر، والهزيمة لآخرين، وبقي السؤال ذاته لدى المهتمين في مجال الدعاية الحربية: ماذا كان دورها في كل ذلك؟ هل يمكن نسب النصر لمن امتلك الدعاية الأفضل؟ أم أنها مجرّد «متغيّر وسيط» ضمن ميزان القوى الضخم الذي حرّك آلة الحرب عبر التاريخ؟
لكن المؤكّد أن أقوى تلك «الدعايات» تاثيراً كانت تلك التي استهدفت إقناع المقاتلين بعدالة القضية التي يحاربون لإجلها، وبأنهم إلى جانب الخير والحق والعدالة، أنهم المنقذون الأبطال والمخلّصون. ولا يهم إن كانت تلك هي الحقيقةُ فعلاً، أو ماذا سيكتب التاريخ فيما بعد، طالما أن المقاتلين يصدقون ذلك.
سيشكل الحدث السوري فيما بعد مادةً دسمة لدارسي الدعاية الحربية، كمٌ هائل من الصور ومقاطع الفيديو والشعارات سيتم تحليله ونقده، ستلخص الجداول والإحصاءات كمَ ونوعَ الجهدِ الذي بُذل في سبيل هذه الحرب، كما لو أن جميع الجهات المتصارعة سألت السوريين بآلاف الصيغ والأدوات والكلمات «ماذا فعلت من أجل هذه الحرب؟» في حين سأل قلةٌ فقط : «ماذا فعلت لإيقاف هذه الحرب؟».
تم الإستعانة بكتاب : قصف العقول(الدعاية للحرب منذ العالم القديم وحتى العصر النووي)، فليب تايلور، العدد 256من سلسلة عالم المعرفة، عام 2000