بالزاوية : يسقط تسليع الغذاء تسقط الرأسمالية
كان أستاذي في علم الاقتصاد الزراعي أيام دراستي الجامعية يحدث طلابه عن بداية حياته المهنية كطبيب بيطري وكيف كان يتقاضى كثيرا من الأجور والأتعاب على شكل مواد عينية، لقاء الخدمة الفنية التي كان يقدمها لزبائنه من الفلاحين.وكان الكثيرمن الطلاب يستغربون ذلك في البداية ولكن في النهاية كانوا يتفهمون مقصده ويتجاوبون مع طلبه. فقد كان يسوق بحماسةٍ بالغة حججاً منطقية حيناً، ولكنها تفتقر إلى المنطق أحياناً أخرى. وذلك ليقنعهم برأيه ونتائج تجاربه الاقتصادية في الريف. فما الداعي مثلا لتقاضي النقود ثم الذهاب للمتجر لابتياع البيض أو الألبان أو الخضار أوغيرها من المواد الغذائية بينما هي متوفرة في المزرعة بشكل مباشر؟ وإذا كان سوق الأغذية ضرورياً للمواطن العادي فما لزومه لمن يعيش وسط العملية الإنتاجية وفي قلب الريف! وكم من الوفرة تتحقق عند مقايضة المنتجات الغذائية ببعضها؟ وما المانع من مبادلة المواد غير المتوفرة في البيئة المحلية بمواد أخرى تنتج محلياً؟ فلا نلجأ للسوق إلا في النهاية.
وهكذا كان أستاذنا يتم صفقاته الصغيرة على الرغم من التعليقات الساخرة التي يسمعها أحياناً والاتهامات بالرومانسية والمثالية، أوالحنين لماض متخلف لا يمكن استعادته!
قبل فترة نشر كاتب برازيلي يساري كتاباً لطيفاً للغاية يمزج فيه الأدب بعلم الاقتصاد السياسي يتحدث عن تاريخ تجارة الغذاء في العالم ويروي حكاية الرحلة المثيرة للمواد الغذائية من منتجيها وصولاً إلى موائد الناس، وكيف أن الغذاء المنتج بعرق ودم العمال والفلاحين يصل الناس ليهين كرامتهم الإنسانية بثمنه الباهظ! يصل الموائد بعد مروره بحلقة واسعة من تجارة الاستغلال والاحتكار والتي باتت تنظمها اليوم شركات ضخمة، يرتبط الكثير منها بدوائر الغرب الإمبريالي وتلعب أحياناً أدواراً قذرة في تجويع الشعوب التي تشق عصا الطاعة عن الغرب والأنظمة التابعة. يقول الكاتب في مقدمة كتابه: تجارة الغذاء هي نوع ملطف من تجارة الحرب والموت التي هي ديدن الرأسمالية.
وهنا يشترك هذا الكاتب مع أستاذي في شعار إنساني بات اليوم ضرورة حقيقية: ليسقط تسليع الغذاء والحاجات الإنسانية! فلتسقط الرأسمالية!