رحلت شاهندة مقلد أسطورة الحب والثورة
النيل عطشان يا صبايا للحب والحنين والشط لا ناي ولا نسمة ولا نور ولا عود ياسمين.. يا شاهنده وخبرينا يا أم الصوت الحزين.. يا أم العيون جناين يرمح فيها الهجين.. إيش لون سجن القناطر وإيش ون السجانين... وإيش لون الصحبة معاكي نوار البساتين.. كل المحابيس يا بهية وعيونك زنازين… وغيطانك الوسيعة ضاقت على الفلاحين
هكذا عبر الشاعر الراحل احمد فؤاد نجم عن المناضلة شاهندة عبد الحميد مقلد.
تلك السيدة ذات الشخصية الفريدة التى يبخل الزمان ان يجود بمثلها ولدت في عام 1938 في قرية كمشيش من أب ضابط وطني. اختارت منذ نصف قرن مناصرة فقراء الفلاحين ضد قوي الظلم والفساد والقمع، حيث تروي شاهندة قائلة” لن انسي ابدا ما كتبه أبي في الاوتوجراف الخاص بي، إذ قال …ابنتي العزيزة. اتقي الله في كل كبيرة وصغيرة. لا تفعلي سرا ما تخشينه علنا ودافعي عن رأيك حتي الموت…. قائم مقام عبد الحميد مقلد
كان والد شاهنده القائم قام عبد الحميد مقلد ضابطا وطني الاعتقاد وفدي الانتماء. وكانت الأسرة ذات ثراء يكفي لكي نصفها بأنها من أغنياء الفلاحين. فجدها لأبيها هو الشيخ علي مقلد عمدة كمشيش. وجدها لأمها البكباشي محمد خالد الضابط في سلاح الحدود. الأم متعلمة، والأب القائمقام مثقف على عادة ضباط هذا الزمان، يقرأ كثيرا ويتحدث في السياسة دون خوف. ولا يخفي الأب احترامه لحزب الوفد وسياساته، وهو عاشق للموسيقي وعازف ممتاز علي العود. وبسبب “وفديته” تعرض للمطاردة على الدوام في فترات ابتعاد الوفد عن الحكم. وهكذا تعين علي الضابط الوفدي أن ينقل من مكان سيئ إلي مكان أسوأ مصطحبا معه زوجته وابناءه الستة بين أسوان– منفلوط -اسيوط- الفيوم – قنا – دير مواس- طلخا وبلدات أخري وصل عددها إلي أربع عشرة. وقامت حكومة الوفد بنقل الضابط العاشق للوفد كمأمور لمركز سمنود مسقط رأس النحاس باشا.
حصلت شاهنده علي شهادة المدرسة الاعدادية، ولكنها لم تكمل الدراسة. توفي الأب وهي في سن السادس عشرة عاما. وبعد وفاة والدها فقدت الزهو بأنها «بنت البيه المأمور». وعندما الغي النحاس باشا معاهدة 1936، شاركت في المظاهرات بحماس . وكانت تلاحظ أنه عندما تندلع اية مظاهرة يقوم والدها “البيه المأمور” برفع سماعة التليفون لكي لا يتلقى أية أوامر بفضها. ويتفتح إدراك شاهنده ويزداد وعيها أثناء حرب فلسطين عام 1948 (ولدت في عام 1938). وعندما قامت ثورة 23، تحرر الأب بعض الشيء من قيود الوظيفة ووجه برقية إلي محمد نجيب يقول فيها «مادام الدستور رائدكم، وصالح الأمة مقصدكم فإلي الإمام والله يرعاكم. بكباشي عبد الحميد مقلد….مأمور مركز سمنود».
شاهندة والاشتراكية
ونعود إلي شاهنده وهي تلميذة في ثالثة اعدادي بمدرسة شبين الكوم. ففي هذه المدرسة التقت بمدرسة يسارية هي «أبله وداد متري»، وهي مدرسة يسارية تفيض حماساً وحيوية. شاهنده أحبت أبله وداد ، لكن همسات من زميلاتها تقول إن «أبله وداد شيوعية»، مما جعلت شاهنده تتعلق بها وتطاردها لتعرف ماهية الشيوعية. أبله وداد اعطتها كتاب “أصل العائلة”، لكنها لم تفهم حرفا من الكتاب المعقد، فأعطتها كتاباً آخراً أكثر تعقيدا. ولاحظ صلاح إبن عمتها ذلك فأعطاها كتاب الاقتصاد السياسي من تأليف ليونيتيف. واستطاعت أن تقرأ وتفهم. وهكذا اقتربت شاهنده من ابن عمتها صلاح حسين. تقول شاهنده في حديث لها مع أحد المراسلين” إن أول ما قرأت هو كتاب الصراع بين الصين وروسيا، وقرأت كتب حول الاشتراكية، كما قرأت كل الكتب اللي موجودة في السوق في الفترة دي…قرأت كتاب رأس المال لماركس وقرأت كتب ما العمل للينين وقرأت كل الكتب دي.. أنا مسلمة ولكن بأؤمن بالتغيير وأؤمن بالمعرفة”.
وكان صلاح كأمه يفيض حماسا وثورية، سافر إلي فلسطين عام 1948 ليحارب الصهيونية. ثم سافر إلي القنال عام 1951 ليحارب الإنجليز. وفي عام 1956 شكل كتيبة من فلاحي كمشيش ليواجهوا العدوان الثلاثي. وعاش مع الفلاحين ليدافع عنهم ولينشر الوعي بحقوقهم في صفوفهم. تعلقت شاهنده بصلاح وكان يكبرها بعشر سنوات، وتزوجته رغم أنف الجميع. وبفضل «أبله وداد» اصبح صلاح وشاهندة ماركسيين علي الطريقة الكمشيشية، اي يعيشان مع فلاحي كمشيش ويناضلان معهم يوما بعد يوم. والتهب النضال الفلاحي ضد عائلة الفقي ودوي الرصاص وسقط قتلى ثلاثة بلطجية استأجرتهم عائلة الفقي. ومرة أخري يظهر السادات ويقرر اعتقال 27 فلاحا وأن ينفي صلاح والفقي إلي الاسكندرية.
مقتل صلاح حسين
وتصف شاهندة تفاصيل مقتل زوجها على النحو التالي: “بعد ستة أسابيع من ولادة بسمة وفي صباح يوم شم النسيم انطلق صلاح إلى القاهرة ليلتقي بممثلي فلاحي كمشيش في مبنى الاتحاد الاشتراكي. وصاغ معهم بياناً موجهاً إلى عبد الناصر يناشدون فيه الرئيس تقديم الدعم لهم فيما يتعلق بإقامة مستشفى محليّ ومركز ثقافي في منزل صلاح الفقي، لأنّ المنزل سيكون خالياً عما قريب بعد أن شيّد صاحبه منزلاً جديداً له خارج كمشيش. وعرفت فيما بعد بأن هذه العريضة تناولت تفاصيل أكثر مما كان مقرراً لها، لأن صلاح لم يوقف مطالبه على هذه القضية وحدها، إنما انتقد فساد الجهاز الحكومي. وتنبأ قبل كلّ شيء بوقوع هجوم إسرائيلي على بلدنا. ثم اتصل بي صلاح بعدما فرغ من العريضة. وقال إنه سيصل إلى الدار مساءً. لكنه سيمرّ بكمشيش قبل ذلك ليبلغ الفلاحين بتفاصيل المركز الثقافي. غير أنه لم يعد إلى الدار حتّى بعد أن تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل”.
ولم تعترف عائلة الفقي بتدبير حادث الاغتيال، وأعزته إلى مشاجرة عائلية واتهمت الحكومة المصرية بتزييف الوقائع لمجرد أن صلاح حسين كان عضواً في الاتحاد الاشتراكي المقرّب من عبد الناصر. والقت الشرطة المصرية على عشرات المتهمين بعملية الاغتيال. وذكر أنّ عدد المعتقلين بلغ آنذاك ثلاثمئة وأربعة عشر شخصاً. بيد أن القاتل الذي ألقي عليه القبض واعترف بجريمته لم يمض في السجن سوى سنوات قليلة ثم أفرج عنه.
هذه الواقعة المأساوية لم تثن شاهندة مقلد من مواصلة نضالها من أجل قضية الفلاحين ومحاربة الإقطاع، مستلهمةً هذه المرّة روح التضحية والشجاعة التي أظهرها زوجها القتيل، خاصةً بعد استلام السادات السلطة ووقوفه المباشر إلى جانب الإقطاع وأسرة الفقي بالذات التي كانت تربطه بها علاقة شخصية بحكم الجوار. فكُتب على الأرملة أن تخوض الصراع بمفردها وتربي أبناءها الثلاثة في الوقت نفسه، وذلك بإمكانات مالية شحيحة وفي ظلّ ظروف صعبة وسلطة جائرة كانت غالباً ما تخضعها إلى الإقامة الجبرية أو السجن، ولاسيما في عهد الرئيس أنور السادات.
كمشيش القرية التي نالت شهرة عالمية
وحظيت حادثة الاغتيال السياسي باهتمام كبير داخل مصر وخارجها، في وقت كانت فيه مصر منغلقة نسبياً أمام الصحافة العالمية. فكتب مراسل وكالة “تاس” السوفيتية يفغيني بريماكوف الذي أصبح رئيساً للوزراء في روسيا بعد ثلاثين عاماً من هذه الحادثة تقريراً من كمشيش، ونشر الصحفي المصري الأصل جاك رولان الذي كان يرتبط بعلاقة شخصية مع عبد الناصر، صفحةً كاملةً في جريدة “لوموند” الفرنسية تعرض فيها لعملية الاغتيال. وبعدما أطلع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على هذه الوقائع قرر مع سيمون دي بوفوار زيارة قرية كمشيش. وشاءت الصدفة أيضاً أن تلتقي شاهندة مقلد بأشهر مناضل ثوري عرفه التاريخ الحديث وهو أرنستو تشي غيفارا. وقد حدث اللقاء على النحو التالي: كان عبد الناصر يرافق غيفارا ليطلعه على إنجازات “ثورة يونيو” فدعي الاثنان لتناول طعام الغداء في منزل السادات بقرية ميت أبو الكوم لينتهي برنامج زيارة الثائر العالمي بمؤتمر يعقد في قرية شبين الكوم.
شاهندة تسلم رسالة الفلاحين لعبد الناصر وغيفارا وتتحدث إلى سارتر
وكان على الموكب أنّ يمّر بقرية كمشيش المجاورة. فاستغلت شاهندة مقلد الفرصة وأحضرت مع عدد من الفلاحين المتعلمين لافتة ووقفوا على جسر في طريق الموكب كتب عليها: “نحن معزولون عنك منذ سنوات يا جمال عبد الناصر، وممنوعون من الكلام معك. ونحن نمثل هنا قريةً ثورية ونقف إلى جانبك”. وعندما توقفت سيارة عبد الناصر عند الجسر هتفت به شاهندة مقلد “نريد أن نتحدث إليك يا عبد الناصر”. فانتفض عبد الناصر من مقعده. وبعدما اقتربت شاهندة من سيارته المكشوفة رأت غيفارا يجلس إلى جانبه. وقد جاء الثائر العالمي ليؤسس جيشاً أفريقياً لتحرير الكونغو وبدعم من الرئيس المصري. وصافحت شاهندة عبد الناصر وضيفه وسملت رسالة الفلاحين إلى الرئيس ثم خاطبت غيفارا بالقول: “نحن فلاحو قرية كمشيش، وهم سكّان القرية الثورية!” وبعدما ترجم كلامها إلى غيفارا هبّ واقفاً ورفع قبضته تحيةً لها، فاطلق الفلاحون عاصفة من الهتافات والتصفيق دون أن يعرفوا هوية الضيف الثوري الأسطوري.
سارتر يزور كمشيش متضامنا مع أهلها
وإذا ما كان اللقاء بغيفارا لقاء عرضياً، فإن زيارة سارتر كان مخططاً لها تماماً وكادت تقتصر على قرية كمشيش وحدها، والإعراب عن التضامن مع أهلها ومع شاهندة مقلد بصورة خاصة والتي حضّرت للفيلسوف الوجودي الشهير عدداً من الأسئلة المتعلقة بهموم الفلاحين وقريتهم. ومنها: كيف اطلعت على أوضاع قريتنا؟ وبأي شعور أتيت إلى كمشيش؟ فأجاب سارتر بأنه قرأ تقريرا عن كمشيش في صحيفة فرنسية، فأراد أن يعرف حقيقة ما يحدث هنا في هذه القرية. وقال إنّه جاء بمشاعر متناقضة، فكان يشعر بالحزن من ناحية، بسبب مقتل أحد قادة الفلاحين برصاص أحد كبار الإقطاعيين. لكنه أظهر إعجابه بشجاعة الفلاحين من ناحية أخرى، لأنهم لم يستسلموا للأمر الواقع. وقال إنه سعيد للغاية في وجوده بينهم ورؤية إصرارهم على مواصلة النضال. وعندما طرحت شاهندة مقلد على سارتر سؤالاً يتعلق بموقفه “من نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني” لا سميا وأنّه كان مناصراً للثورة الجزائرية، أجاب بشكل غير مباشر بأنه “يتضامن مع جميع المناضلين من أجل الحرية في جميع أنحاء العالم.
كذلك جمال عبد الناصر أشارَ في خطابه السنوي بمناسبة “عيد العمّال” إلى حادثة اغتيال صلاح حسين واعتبرها “دليلاً مؤلماً على عدم تقدير الحكومة للخطر الذي يمثله أعداء الثورة” على حدّ تعبيره. بيد أن السيرة الذاتية لشاهندة مقلد اتخذت منحى أكثر مأساوية من ذي قبل، بعد استشهاد شقيقها في حرب الاستنزاف مع إسرائيل في عام 1970 وكان طيّاراً، ومقتل ابنها الأصغر في ظروف غامضة.
الانتقام من كمشيش واعتقال شاهندة مقلد
وعلى إثر نكسة حزيران عام 1967، شكلت شاهنده كتيبة من 50 من فلاحي كمشيش، وسافرت معهم إلى بورسعيد. وبعد رحيل عبد الناصر جاء السادات، وقرر الانتقام من كمشيش، وحوصرت القرية وهُدم النصب التذكاري لصلاح حسين
وصدر قرار من وزير الداخلية بإبعاد 20 شخصا، منهم ثلاث نساء وعلى رأس الجميع شاهنده، إلي خارج القرية. ويبقي المبعدون مشتتين لمدة خمس سنوات حتي صدر حكم من محكمة القضاء الإداري بعدم دستورية قرار النفي. وفي عام 1975 وعقب المظاهرات الشهيرة اعتقلت شاهنده، ويتوالى الاعتقال ثلاث مرات، وفي المرة الرابعة هربت شاهنده. وكرد على هروبها تم اعتقال ابنها الأكبر ناجي، ولكنها واصلت نضالها وهي هاربة.
ومع تأسيس حزب التجمع شاركت شاهنده في نشاطه ومعها فلاحو كمشيش . وتصبح شاهنده أول أمينة للحزب في المنوفية. وواصلت شاهنده معارك الفلاحين في صفوف اتحاد الفلاحين ومعاركها في صفوف حزب التجمع.
شاهندة مقلد تتحدث عن ثورة 25 يناير
جعلتني أقف على رجلي».. هكذا تصف شاهندة مقلد ثورة 25 يناير، التي قام بها الشعب وانضم إليها الجيش، كما ترى، تضيف بحماس «كنت في الميدان أغلب الأيام، كنت أحس بجمال وعظمة مصر في الميدان، كنت فرحانة وحاسة إني لازم أبقى جنبهم، كنت أجرى وسط الناس لما يحصل هجوم على الميدان، أقولهم: ما تخافوش». دائما ما كانت تهتف عندما يجرى المتظاهرون في الميدان «الجدع جدع والجبان جبان»، وكانت ترفض فكرة الصعود على المنصات للحديث دا مش من حقي»، كانت من أوائل من هتف «الشعب والجيش إيد واحدة»
خاضت شاهندة انتخابات مجلس الشعب ثلاث مرات، قررت بعدها ألا تخوض التجربة مرة أخرى، إذ رأت التزوير بعينيها، وأدركت أنه «لا علاقة بين النجاح السياسي والجماهيري والنجاح في صندوق الانتخابات في بلادنا». شاركت في تأسيس حزب التجمع اليساري عام 1976، وفي تأسيس اتحاد الفلاحين المصريين عام 1983 الذي ظل تحت التأسيس حتى قيام ثورة يناير، حيث انتخبت أمينة عامة له في 2011، كما شاركت في لجان شعبية عدة، واختيرت عام 2010 المنسقة العامة لحركة «مصريات مع التغيير»، وشاركت في ثورة يناير. وفي أحداث قصر الاتحادية في ديسمبر 2012 تعرضت للاعتداء بتكميم فمها. وهى حالياً عضو جبهة الإنقاذ. وعند إجراء هذا اللقاء معها، كانت عائدة لتوها من مؤتمر نسائي عقد بمدينة دياربكر التركية، وقبلها من تونس للمشاركة في المنتدى الاجتماعي العالمي. وكانت ابنة الـ75 عاما تستعد بحماس للمشاركة في تظاهرات 30 يونيو لإسقاط مرسي الذي فقد شرعيته بنظرها
وظلت شاهندة مقلدة إلى آخر ومضة في حياتها تعشق الفلاحيين وتراب مصر.
المصدر: شبكة الوطني