معجزات عادية قيد التحقق!
«الحزن ضريبة المعرفة»، قالها هادي العلوي المفكر والمناضل الراحل. وليس لأحد أن يلومه في ذلك، فجلّ حياته ونضاله عاشهما في عصر الهزائم..
عصر كان غزيراً بشعارات وأحلام كبرى، ألقيت لعموم الناس تقتاتها، بينما واقع الحال تراجع وتقهقر وهزيمة تترصد خلف الأبواب، وتتقدم شيئاً فشيئاً، ثم ودفعة واحدة، تقفز إلى الضوء: ينهار الاتحاد السوفييتي ومعه قيم العدالة والحرية والإخاء بين الشعوب، وتنتصر الولايات المتحدة ومعها الفردية والجشع والظلم الكوني المستبد حتى آخر الحدود وما بعدها.
وبذلك سقط الناس من علو أحلامهم وآمالهم إلى قعر واقع بائس حزين. كثيرون لم يستفيقوا حتى الآن من هول الصدمة وقد مرّ عليها ربع قرن. قبل الانهيار، كان من حق العارف أن يحزن، فبينما الناس ثملة بخمرة وهمية، فإنه هو، العارف، ولأنه يعرف أو يحدس، فإنّه يرى ويلاً سحيقاً ينتظرهم، ولا يسعه أن يبعدهم عنه، فيحزن.. ويكون حزنه ضريبة معرفته.
منذ ربع قرن، وحال الناس الطبيعي هو الحزن: (زمن قاس بيده سوط. يسوقك من بوابة البيت إلى مستنقع الوظيفة، ثم إلى الشارع والأمكنة الأخرى، مهرولاً تحت غمامة كثيفة توشك أن تمطر كذباً وخدائع. يكاد صوت رعدها يدوي فيك، فيه، فيهم: أحد ما ليس في مكانه الطبيعي. أحد ما لا يستطيع أن يكون ما يود أن يكون!) حيدر حيدر- الزمن الموحش، حتى ترقّى الحزن، على لغة الصوفية، من حالٍ إلى مقام، فبات اليأس منطلق الناس والفردية منتهاهم. حتى لقد غدا الإنسان «السوي» والواقعي، هو الإنسان الحزين.. أما وقد ولدت خلال الأعوام القليلة الماضية، من رحم هذا الحزن بالذات، حركة شعبية عالمية تصبو إلى عالم جديد، فإنّ استمرار الحزن واستمرار اليأس، أصبحا ضريبة أيضاً، ولكن ضريبة لعدم المعرفة!
في عصر ولادة الحركة الشعبية، وانفتاح الأفق مجدداً على الأحلام الكبرى، فإنّ الحزن واليأس ضريبتا عدم المعرفة، ليس كذلك فحسب، بل إنّهما يهددان المولود الحي، يهددان الحركة الشعبية، بالوأد حيّة.. ذلك أنّ العالم القديم لا يقف متفرجاً على ولادة موته، بل يتنكر بدور القابلة ليخنق المولود: (تقيأت بابل العظيمة بصوت كأنه الحرية! وسعلت بصوت كأنّه العدالة! وضرطت بصوت كأنه الرخاء! وحملوا طفلاً صارخاً إلى الشرفة ملفوفاً في ملاءة دامية ليعرض على الشعب بين رنين الأجراس، وكان الطفل هو الحرب! وكان له ألف أب.)، برتولد بريخت من قصيدة «بابل العظيمة تلد».
لذا فإنّ مهمة العارفين اليوم، هي حماية الوليد، مهمتهم أن ينتزعوا الناس من مقامهم الحزين، وأن يسيروا معهم نحو الضوء، ليخلقوا من الشيء الحي شيئاً أكثر حياةً.. (يستطيع الإنسان صنع تمثال من حجرٍ ميت ثم يفخر به إن كان عمله ناجحاً. لكن حين تصنع من شيء حيٍ شيئاً أكثر حياة! هذا هو العمل الإبداعي!)، يفغيني شفارتس من مسرحية معجزة عادية.
معجزة عادية بدأت بالتحقق، معسكر الظلم يتراجع، والناس تحطم شرانقها واستكانتها لتصرخ أعلى وأعلى.. هي معجزة لأنّ قعر الحزن السحيق الذي وصله الناس يبدو بعيداً عن الضوء كل البعد، وهي عادية لأنّ واقع الحال هو تراكم أزمات الظالمين وتفاقمها وانفجارها..
الحزن اليوم ضريبة عدم المعرفة، وبناء الأحلام الواقعية والمعجزات العادية هو العمل الأكثر إبداعية، وما ينبغي معرفته وإدراكه جيداً أننا بأمس الحاجة لبنّائين مهرة، لأنّ (المصيبة، كلّ المصيبة هي كون البنائين الماهرين المتضافرين غير موجودين عندنا بعد، هي كون الحجارة توضع في غالب الأحيان كيفما اتفق دونما اكتراث بالخط العام، هي كونها توضع مبعثرة فيكفي العدو أن ينفخ عليها لتتناثر وكأنها ذرات رمل لا حجارة.) لينين- من كتاب ما العمل. واقع الحال أن البنّائين المهرة موجودون، إلى هذه الدرجة أو تلك، ولكنّ تضافرهم ليس موجوداً بعد، ولنقل أنّه ليس موجوداً بالحد الكافي.. ولذلك فإنّ على الثوريين الحقيقيين، على بناة المعجزات العادية والأحلام الواقعية، أنّ يتحدوا وينظموا صفوفهم، عليهم أن ينظموها أكثر وأكثر، عليهم أنّ يلتقطوا كل صراخات المظلومين التي تملأ الفضاء هائمة فيه بلا مستقر، وأن يحرثوا بها الأرض الملّوثة لتنبت العالم الجديد..