صلاح جاهين .. الشاعر الفنان المفكر
سيظل اسم صلاح جاهين مضيئاً معطاءً في سجل الإبداع الثقافي المصري بكافة أشكاله وألوانه؛ فهو فنان متعدد المواهب، ابتكر عدداً من شخصيات الكاريكاتير الشعبية، وأثار برسوماته معارك سياسية وفكرية كبيرة، وهو أحد رواد الكتابة لمسرح العرائس في مصر، بل في الوطن العربي،
كما كتب استعراضات كثيرة للتلفزيون وسيناريو وحوار للعديد من الأفلام، وأيضاً كان لأدواره التمثيلية في الأفلام السينمائية طبيعة المصري الشهم المنتمي إلى أرضه وناسه ومجتمعه.. ويتجلى ذلك في أفلامه: "المماليك"، "اللص والكلاب"، و"لا وقت للحب".
وقد نال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، كل ذلك إلى جانب عمله الصحفي الذي بدأه في عام 1952، وتألقت أعماله الفنية في "روزاليوسف"، واشترك في إصدار مجلة "صباح الخير"، ثم انضم للأهرام عام 1964.
ولد صلاح جاهين في الخامس والعشرين من ديسمبر 1930 بحي شبرا بمحافظة القاهرة لأب يعمل قاضياً، اضطره عمله إلى أن يتنقل والأسرة، بين محافظات مصر، ولذلك فقد نال ابنه صلاح الابتدائية من محافظة أسيوط، وشهادة الثقافة من محافظة المنصورة، والتوجيهية من محافظة الغربية (طنطا)، ولم يكمل تعليمه في كلية الحقوق التي ظل بها ثلاث سنوات، بيد أنه اتجه إلى تصميم المجلات وسرعان ما تفجرت موهبته الإبداعية في كافة ضروب الفنون، فظل اسما براقاً مبدعاً إلى أن توفاه الله في السادس والعشرين من إبريل/نيسان عام 1986.
***
وبرغم تفوق صلاح جاهين في كل أنواع الفنون السالفة، إلا أن اسمه كشاعر كاف لأن يجعله واحدا ً من أبدع شعراء القرن العشرين في مصر، وواحدا من أهم شعراء الإنسانية في العالم نظرا ً لما قدمه من إبداع شعري إنساني صادق وجديدٍ ومعبرٍ عن روح إنسان العصر وقضاياه من خلال خيال شعري جريء مغاير لما يجري عليه الشعر العربي، ويؤكد على ذلك ما جاء للناقد رجاء النقاش في دراسته بعنوان "صلاح جاهين الشاعر والإنسان":
"والفن العربي عموما، يشكو من النقص في جرأة الخيال وطموحه، فليس في أدبنا كله أكثر من موقفين أو ثلاثة تدل على تحليق الخيال العربي، وهذه المواقف هي فكرة أبو العلاء في (رسالة الغفران)؛ فقد تجرأ خياله الأدبي وتصور عالم الجحيم والجنة، وبنى صورة لهذا العالم، وهناك قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل التي تصور فيها إنسانا يعيش في جزيرة منعزلة يبحث عن معنى المجهول وسر الحياة، وهناك أخيراً بعض قصص (ألف ليلة وليلة).
ولكن الطابع العام للخيال الأدبي عند العرب والخيال الشعري على وجه خاص هو القصور، والعجز عن التحليق، ولذلك لم يظهر في أدبنا شاعر مثل ملتون أو بيرون، اللذين تصورا عصيان الشيطان في صورة التمرد والبحث عن المنطقة، وربطا بين فكرة التمرد وبين الطموح، وليس عندنا شاعر مثل شكسبير أو دانتي، فالشائع في شعرنا العربي أن الشاعر يطير بجناحين صغيرين، لا يقدران على التحليق فالخيال كسول قاصر الطموح محدود بالواقع المادي، مشغول برسمه وتنظيمه عن طريق الحكمة والفلسفة".
والقارىء لإبداع صلاح جاهين الشعري يتأكد له ما جاء في سطور رجاء النقاش من خلال قصائد الدواوين الشعرية: "كلمة سلام" ـ 1955، "موال عشان القنال" ـ 1956، "عن القمر والطين" ـ 1961، "رباعيات" ـ 1963، "قصاقيص ورق" ـ 1966، و"قصائد حب من مصر القديمة".
وفي ديوان "كلمة سلام" قدم صلاح مضموناً شعرياً مغايراً للمتعارف عليه فاستطاع أن يعبر عن الإنسان المصري البسيط ومشاعره ومعاناته؛ ففي قصيدة "زي الفلاحين" يقول:
القمح مش زي الدهب
القمح زي الفلاحين
عيدان نحيله جدرها بياكل في طين
زي اسماعين
ومحمدين
وحسين أبو عويضه اللي قاسى وانضرب
علشان طلب
حفنة سنابل ريَّها كان بالعرق
عرق الجبين
القمح زي حسين يعيش ياكل في طين
أما اللي في القصر الكبير
يلبس حرير
والسنبلة
يبعت رجاله يحصدوها من على
عود الفقير"
نلمح من خلال هذه القصيدة الإحساس العميق بطبيعة هذا الفلاح المصري وعلاقته بالقمح المحصول الزراعي الأساسي لحياة المصريين، وكيف استطاع صلاح جاهين الربط بينهما وتفجيره لصورة كل إقطاعي يمص دم الفلاحين دون مقابل.
وفي قصيدة "الشاي باللبن" من ديوان "كلمة سلام" أيضا يقدم لنا صورة من صور الحب الأسري النبيل ويؤكد أن بالحب نصل إلى السلام، وتأمل قوله:
"أربع إيدين على الفطار
أربع شفايف يشربوا الشاي باللبن
ويبوسوا بعض ويحضنوا نور النهار
بين صدرها وصدره وبين البسمتين
ويحضنوا الحب اللي جمعهم سوا
على الفطار
ويحضنوا الشمس اللي بتهز الستار
وتخش من بين الخيوط وبعضها
مع الهوا
للأودة ترسم نفسها على أرضها
على البساط اللي اشتروه مع الجهاز
على الغرام اللي اشتروه من غير تمن
وعلى القزاز
ويشربوا الشاي باللبن
في فنجالين
على الفطار أربع إيدين
ودبلتين
بيصحّوا قلبي كل ليلة في المنام
وبيكتبولي بلون منور فزدقي
على الهوا الأسود وع الجفن اللى نام
كلمة "سلام"
وفي قصيدته "الزباين" بنفس الديوان يقول:
"ناس كتير ف البلد دي زيك وزيي
كلنا مولودين في أحوال تعيي
الفرق مشترك في حيك وحيي
في الحسين والإمام وغمره وشبرا"
يتوحد مع كل فرد من أفراد الشعب ويشعر بهمه وأناته ويصوغها شعرا ً فيقدم لنا الناس وصورهم وهو مضمون إنساني صادق.
وفي "موال عشان القنال" يعبر عن فرحته بانتصار مصر وخروج المحتل الغادر، وأمله الكبير المنعقد على ثورة 1952 في تحقيق كل آمال المصريين فيقول:
"سلامات يسعد صباحك
دي بلدنا
خد براحك
يا حمام افرد جناحك
تسلم إنشا الله"
"يا ما راح نسمع بشاير
طلي يامه
يا م صابر
مابقاش ع الجسر غادر
ماشي يتسلى"
"ما بقاش ع التل غيرنا
والحبايب
بتناصرنا
يا حمام انزل في خيرنا
والقط الغلَّه"
نلاحظ استخدامه الموفق للمفردات "سلامات/ يسعد صباحك/ يا حمام/ بشاير/ خيرنا/ الغلَّه)، وكلها مفردات تعكس الدلالة على الأمل والانتصار والأمان والخير الذي تنتظره مصر بعد قيام ثورة 1952.
ويبدو لنا مما سبق أن صلاح جاهين هو صوت الشعب يطل من خلال قصائد عبرت عن تراث هذا الشعب المصري العريق، وهو بذلك يمثل ذاكرة الجماعة والتعبير عن إرادتها ومرادها وأحوالها. ويؤكد ذلك ما جاء في دراسة الناقد شوقي عبدالحكيم بعنوان "المشاركة في الغلب" كمقدمة لديوان "كلمة سلام":
"من فضائل صلاح جاهين تمثله (اللا واعي) لما يسميه علماء الأساطير بـ "ذاكرة الجماعة" تلك التي تسمو بالشعر والشاعر حيث تعلو هامته إلى الآفاق العلوية للأسطورة، ويبدو هذا فيما اختزنه صلاح من وحدات وأفكار وتضمينات الفولكلور المصري، حين يتحدث عن الطببب والبين والعليل وعيون البقر وغدر الزمان والسحالي وملل أيوب والراقصة الخرساء ومش الخبايز والباب المقفول، وذلك القرف المشترك العام في قصيدته الزباين".
وهذه الطاقة الشعرية للشاعر صلاح جاهين التي جسدت لنا حقول الشعر الفولكلوري والأساطير والمخزون الهائل من آيات ومعارف ورموز العالم القديم تتضافر بجرأة الخيال الشعري وتصل إلى قمة الإبداع الشعري في قصيدة قصيرة، كبيرة الأثر بعنوان "بكائية"، يقول فيها:
"نزل المسيح من ع الصليب
نزل ونام
في مرج دمع
من غير قميص
وتلج شمع
والمجدلية تميل عليه وتنوح تنوح
تنده عليه
تلاغيه
تولول
تحضنه
تندب عليه وكأنها بتهنِّنه
تجدل له مهده من جدايل شعرها
وتدفنه في صدرها
ما رضعش منها إلا جرح من الجروح"
فنزول المسيح من فوق الصليب ونومه في "مرج دمع" تعبيراً عن الحزن، والمجدلية نبع من منابع الحنان والحب واتساع الخيال الشعري في هذا الربط وحسن التعبير عنه شعريا من خلال القدرة على رسم الصورة الشعرية وبناء الموقف الشعري الذي يعكس لنا التأمل الفكري من خلال الحلول الشعري.
***
وقد وجد جاهين نفسه في البناء الدرامي الشعري، وذلك من خلال العديد من الأوبريتات أو الصور الغنائية وأهمها: "الليلة الكبيرة"، و"المكن".. ولقد كُتَب لـ "الليلة الكبيرة" الشيوع والانتشار والنجاح المبهر، بعد أن تغنّى بها الشعب وأحبّها وأصبحت بعض جملها الشعرية معادلا موضوعيا لوجدان هذا الشعب وعلى سبيل المثال:
"اللي شاف حمص ولا كلشي
حب واتلوع ولا طلشي" ...
أو
"يا عريس يا صغير
علقة تفوت ولا حد يموت
لابس ومغير
وحتشرب مرقة كتكوت"
ولعل السر في نجاح هذه الصورة الغنائية ـ التي تناولت صورة "المولد" والتي تعكس عادات وتقاليد الشعب المصري في هذا الموقف ـ يعود إلى قدرة صلاح جاهين في اختيار الشخصيات المصرية وإبداعه في التعبير عن حوارها من خلال ألفاظ وجمل نابعة من سمات هذه الشخصيات وأبعادها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، لذا التصقت بروح هذا الشعب فرددها وتغنى بها وأيضا يحسب له بناؤه الدرامي الشعري المحكم لهذه الصورة الغنائية بحيث لا يقدر المتابع لها أن يختزل منها جملة أو عبارة بل يظل مشدودا لها حتى نهايتها.
ويعترف صلاح جاهين بفضل فؤاد حداد عليه شعريًّا؛ فقد أشاد بتجربته الشعرية الرائدة وقوة مضمونها التي وقف أمامها وأفاد منها كثيرا.
وقد شكّل صلاح جاهين مع مجموعة من الشعراء الذين يكتبون بالعامية المصرية، مدرسة جديدة في الشعر المصري، وهم سيد حجاب، عبدالرحمن الأبنودي، وفؤاد قاعود، وعبدالرحيم منصور، وفريدة إلهامي، ومجدي نجيب.. وتتجلى روح هذه المدرسة في التعبير عن وجدان الشعب المصري، إلا أن صلاح جاهين قد تميز وسط هؤلاء بعديد من الميزات أهمها هو القدرة على التأمل الفلسفي وربطه بالمضمون الشعري، وقد تجسد ذلك في رباعياته التي أشاد بها الأستاذ يحيي حقي في دراسته الأدبية بقوله:
"لم يهدد أحد اللغة الفصحى كما هددها صلاح.. ضع في كيس واحد كل ما كتب من أزجال وقصائد وأغان، فلن يصعب عليك أن تلقيه في أول كوم زبالة يقابلك في سوق التوفيقية، حتى بيرم التونسي لم يشكل خطرا على الفصحى لأنه اقتصر على المحاكاة والوصف، أما صلاح فقد رفع العامية بعد أن طعمها بالفصحى وثقافة المثقفين ـ فهي في الحقيقة لغة ثالثة ـ إلى مقام اللغة التي تستطيع أن تعبر عن الفلسفة شعرا، وهذا خطر عظيم، ومع حبي لهذه الرباعيات أتمنى من صميم قلبي أن تكون عاقرا فنحن في غنى عن هذه البلبلة التي لا بد أن تصيب حياتنا الأدبية؛ فالإجادة في هذه اللغة الثالثة لن تكون إلا فلتة من الفلتات، فلو استخدمها كل من هب ودب تحول غذاؤنا كله إلى بضاعة دكان التسالي.. لب وفول وحمص وفشار. ونحن من علمنا بهذا الخطر لا نستطيع أن نتجاهل هذه الرباعيات وإلا كنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال".
ويتضح لنا مدى الأثر الفني لرباعيات صلاح جاهين وتطورها من حيث المضمون وأيضاً الصياغة الأسلوبية التي جعلت الأستاذ يحيى حقي يقر بأنها لغة ثالثة يصعب أن تُحاكى أو تُقلد.
ولقد عبرت هذه الرباعيات عن أغراض إنسانية ومضامين حياتية وألوان فلسفية عديدة يصعب حصرها ولكن على سبيل المثال منها، هذه الرباعية التي ترفض التعالي والكبر، وتعترف بأن كل ابن آدم من أصل طين وللطين مهما ارتفع سيعود:
ياطير يا عالي ف السما طظ فيك
ما تفتكرش ربنا مصطفيك
برضك بتاكل دود وللطين تعود
تمص فيه يا حلو.. ويمص فيك
عجبي!
ونلاحظ هنا دقة استخدام مفردة "طظ فيك"، وهي لفظة عامية جرى العرف على شيوعها بمعنى لا جدوى منك، وأصلها كلمة تركية بمعنى "الملح" حيث كانت هناك ندرة شديدة في الملح أيام الولاية العثمانية على مصر فكان شرط المرور من البوابات هو أن يأتي من يريد المرور بالطظ أي الملح. وهي في هذه الرباعية تستخدم بمعنى لا أهمية لك أو لا جدوى منك، وقد أحسن صلاح استخدام المعادل الموضوعي من خلال الطير العالي للدلالة على الارتفاع والتحليق في السماء، وهو يعكس لنا شخصية الإنسان المتكبر المتعالي، ولكنه يؤكد على أن ارتفاع هذا الطير مهما طال مرده إلى الأرض.
وفي رباعيته:
حاسب من الأحزان وحاسب لها
حاسب على رقابيك من حبلها
راح تنتهي ولا بد راح تنتهي
مش انتهت أحزان من قبلها
عجبي!
وفي هذه الرباعية يؤكد على قوة النفس وسعة الإرادة من رفضه للحزن وإيمانه بأن الحزن سيزول وينتهي، وهي سمة إنسانية قوية.
وفي رباعيته:
خرج ابن آدم م العدم وقلت ياه
رجع ابن آدم م العدم وقلت ياه
تراب بيحيا وحي بيصير تراب
الأصل هو الموت ولا الحياه؟
عجبي!
وهنا يدخلنا في حالة من التأمل والتفكير في علاقة ابن آدم بالموت والحياة، والجميل في هذه الرباعية هو أن القاريء يقف أمام خيال شعري عميق جريء يجعله يفكر مع الشاعر ويتوحد معه فيما يقصد، ويتأكد ذلك أيضا في رباعيته:
مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين
عجبي!
ويقدم لنا الحكمة والنصيحة في رباعيته:
ولدي نصحتك لما صوتي اتنبح
ما تخافش من جني ولا من شبح
وان هب فيك عفريت قتيل اسأله
ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح
عجبي!
وفي هذه الرباعية كمواجهة مع النفس وعلاقتها بالأشياء، وموضع الإنسان منها ومحاولة الخروج من المأزق بالتبرير والتعليل المقنع، وقد أحسن استخدام توجيه الخطاب إلى الابن فهو أقرب الناس إلى الأب، والأب حريص على أن يكون ابنه أحسن منه حالاً وموقفاً، لذا فهو يقدم له النصيحة والرشد.
ويؤكد على ضرورة أن يعبر الإنسان عما يشعر به ويحياه في رباعيته:
يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكي على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك إنما
كتم الغنا هو اللي ح يموتك
عجبي!
واختيار المفردة في رباعيات صلاح جاهين ليست على سبيل المصادفة ولكنه مقصود ودقيق بحيث يصعب استبدالها، وتأمل تعبيره عن صورة المهرج وسط المجموع الإنساني واعترافه بعدم الاستطاعة التي يمكن أن تخيف الغير:
أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جــرس
جلجلت به صحيوا الخــدم والحـــرس
أنا المهــرج .. قمتوا خفتـوا ليه
لا ف إيدي سيف ولا تحت مني فرس
عجبي!
وقد يلجأ إلى استخدام بعض الألفاظ العربية الفصحى، وذلك لصنع موسيقى صوتية ظاهرة من خلال المفردات بجانب الموسيقى العروضية في الرباعية، وذلك لتأكيد المعنى ولفت الأنظار بوضوح إليه:
عجبي عليك.. عجبي عليك يا زمن
يابو البدع.. يا مبكي عيني دما
إزاى أنا اختار لروحي طريق
وأنا اللي داخل الحياة مرغما
عجبي!
ويتعجب في واحدة من أحلى رباعياته التي تعكس حالة من حالات الدهشة والحيرة من أحوال الدنيا:
رقاصة خرسا ورقصة من غير نغم
دنيا يا مين يصالحها قبل الندم
ساعتين تهز بوجهها يعني لا
يترجرجوا نهديها يعني نعم
عجبي!
ويعقد مقارنة بينه وبين عود الحطب من خلال غصن الخوخ الذي يتأثر بالربيع فيزهر بينما هو لا يتجاوب ولا يتفاعل معه، معبرا عن موقفه السلبي من الأحداث والمتغيرات:
تسلم يا غصن الخوخ يا عود الحطب
ييجي الربيع.. تطلع زهورك عجب
وأنا ليه بيمضي ربيع وبييجي ربيع
ولسه برضك قلبي حته خشب
عجبي!
وهي صورة لحالته النفسية، وسرعان ما يقدم صورة نفسية أخرى، ولكن من خلال الدعوة إلى الحركة والرقص والتفاعل مع الحياة والدنيا:
غمض عينيك وارقص بخفة ودلع
الدنيا هي الشابة وانت الجدع
تشوف رشاقة خطوتك تعبدك
لكن انت لو بصيت لرجليك تقع
عجبي!
وهو يكره السدود والحواجز والحدود لدرجة رجائه من الله ألا يدخله الجنة لأنها ذات سور، وهو موقف شعري يعبر عن رفضه للقيد والأغلال:
البط شال عدى الجبال والبحور
يا ما نفسي أهج.. أحج ويا الطيور
أوصيك يا ربي لما أموت والنبي
ما تودنيش الجنة.. للجنة سور
عجبي!
وفي رباعية أخرى يعكس لنا فيها دموية الإنسان وما صارت إليه أحداث الحياة من حروب وقتال ودماء:
على رجلي دم.. نظرت له ما احتملت
على يدي دم.. سألت: ليه؟ لم وصلت
على كتفي دم وحتى على راسي دم
أنا كلي دم.. قتلت؟ ولا انقتلت
عجبي!
ويعترف بضرورة أن يعيش الإنسان حياته بين حزن وهم، بجانب الاستقرار فلا حياة بدون كبد ومشقة ومعاناة:
في يوم صحيت شاعر براحة وصفا
الهم زال والحزن راح اختفى
خدني العجب وسألت روحي سؤال
أنا مُتّ؟ .. ولا وصلت للفلسفة
عجبي!
ومما تقدم من رباعيات ـ على سبيل المثال ـ يتأكد لنا قدرة صلاح جاهين الشعرية والفلسفية على تفجير صور الحياة والإنسان والأشياء، ونجاحه في إدخال قارئها في حالة من التأمل والاندهاش، وإعادة التفكير فيما قرأ والوقوف أمامه.
***
ولا يُنكر دور "صلاح جاهين" في إثراء الأغنية المصرية بعد قيام ثورة يوليو 1952؛ فقد لقب بشاعر الثورة بعد أن قدم مع المطرب الشاب ـ وقتها ـ عبدالحليم حافظ والملحن كمال الطويل مجموعة من الأغنيات التي عبرت عن روح الثورة ومبادئها ومنها "صورة":
صورة صورة صورة
كلنا كدة عايزين صورة
صورة للشعب الفرحان
تحت الراية المنصورة
يا زمان صورنا
صورنا يا زمان
ح نقرب من بعض كمان
واللي ح يبعد م الميدان
عمره ما ح يبان ف الصورة.
وأيضا أغنية "بالأحضان":
بالأحضان بالأحضان بالأحضان
بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان
ف معادك يتلموا ولادك
يا بلادنا وتعود أعيادك
والغايب ما يطيقش بعادك
يرجع ياخدك بالأحضان
وبعد صدور قوانين يوليو الاشتراكية كتب أغنية "بستان الاشتراكية"، ويقول فيها:
افتح.. افتح
اقفل .. حول
نقعد نرتاح؟
لا ح نكمل
ده السد العالي شهَّل
على راسي بستان الاشتراكية
واقفين بنهندز ع الميه
أمة أبطال، علما، وعمال
ومعانا جمال..
بنغني غنوة فرايحية
ننده كلنا ندهه فلاح لاخواته، ساعة الري
حاكم أرضنا ملكنا كلنا م السد العالي وجي
ننده كلنا ندهه قوية
افتح...
وكانت هذه الأغنية بعد تحويل مجرى النيل ـ مايو 1964، وفي عام 1956 كتب "والله زمان يا سلاحي" معبراً عن صرخة كل مصري في وجه العدوان الثلاثي (انجلترا ـ فرنسا ـ إسرائيل) على مصر، وتغنت بها السيدة أم كلثوم من ألحان كمال الطويل، وقد صارت فيما بعد النشيد الوطني لمصر:
والله زمان يا سلاحي
اشتقت لك في كفاحي
انطق وقول أنا صاحي
يا حرب والله زمان ..
وقد حرص في أغنياته على الإشادة بمحاصيل مصر وإبراز أهميتها في حياتنا، ومنها أغنية للقطن:
يا معجباني يا أبيض يا معجباني
يا قطن ياللي مبيض وش الغيطــاني
يا معجباني يا أبيض يسعد صباحك
يا قطــن ياللي مبيض وش فلاحــك
وبعودة الأيام يا حبايب في سلام
ولكن أحلامه وآماله قد تكسرت بعد وقوع هزيمة يونيو 1967 وشعر كما شعر كل مصري بإحباط شديد، دخل على أثره في اكتئاب مرير وقد عبر عن ذلك في أغنيته الشهيرة: "مفترق الطرق"، ويقول فيها:
ساعات أقوم الصبح قلبي حزين
أطل بره الباب ياخدني الحنين
اللي لقيته ضاع
واللي اشتريته انباع
واللي قابلته راح وفات الأنين
ونتأمل هنا مدى المرارة والحسرة والانكسار بعد ضياع حلمه وأمله في وعود ثورة يوليو 1952، ولكنه في نفس الأغنية لم يفقد الأمل بل عاد موجها الخطاب إلى الزعيم جمال عبدالناصر، بقوله:
إيه العمل في الوقت ده يا صديق
غير إننا عند افتراق الطريق
نبص قدامنا
على شمس أحلامنا
نلقاها بتشق السحاب الغميق
وأرجع وأقول
لسه الطيور بتفن
والنحلايات بتطن
والطفل ضحكه يرن
مع إن مش كل البشر فرحانين
ويتجدد أمله وتبعث روحه من جديد في مجموعة من أغنياته، ومنها لسعاد حسني من ألحان كمال الطويل:
الدنيا ربيع والجو بديع
قفل لي على كل المواضيع
وأيضا: "بمبي الحياة بقى لونها بمبي"، وقدم من خلالها تذكرة علاج نفسية في قوله:
خد شمس وهوا على ميه
بلا عيا بلا دوا بلا مر
ولا نغفل أغنياته الرقيقة لمجموعة من مشاهير المطربين والمطربات والتي كانت تحمل سمات الصدق الفني من صياغة شعرية سمت بالأغنية وارتفعت بحس مرددها وسلوكه ومنها على سبيل المثال، أغنية "عيون الحليوة" لنجاة الصغيرة:
بان عليا حبه
من أول ما بان
يا ما كان في نفسي والله أعشق من زمان
كان الحب حبه
بان.. طرحت محبه
وعيون الحليوة يا عيني بحر من الحنان
وأغنيته لصباح:
أنا هنا يابن الحلال
لا عايزه جاه ولا كتر مال
باحلم بعش أملاه أنا
سعد وهنا"
وأيضا أغنية لسيد مكاوي:
ليلة امبارح ما جانيش نـوم
واحنا لسه ف أول يوم
قبل ما ترميني ف بحورك
مش كنت تعلمني العوم
وأغنية لعلي الحجار:
ولد وبنت
ولد وبنت
كل الجنينة
ولد وبنت
يا حب حاسب حاسب
ده هنا
وردة ولد
ووردة بنت
وأغنيته للمطربة العالمية "داليدا": "كلمة حلوة وكلمتين حلوة يا بلدي".
وقد أدى بصوته أغنية للشباب بعنوان "تحت العشرين"، والمتأمل فيما جاء على سبيل المثال لا الحصر في هذه الأغنيات يلمح روح صلاح جاهين الشاعر الذي يصور الإحساس تصويرا بسيطا مؤثرا؛ فالكلمات تعكس صوراً يراها القاريء ويشاهدها المستمع في بساطة ويسر، فأغنياته هي جزء من مضمونه الشعري الذي يحمل رشاقة اللفظة ونضارتها وحيويتها.
ولقد أكد جاهين في كل ما قدم من إبداع شعري، ما جاء في مقال فتحي غانم بمجلة "آخر ساعة"، 28 ديسمبر/كانون الأول 1955:
"احتفل شاعر مصري كبير بعيد ميلاده الخامس والعشرين منذ ثلاثة أيام هذا الشاعر الصغير السن ـ ما زال مجهولا ـ لم يقرأ له أحد بيتا واحدا من الشعر ولكنه نشر أشعاره أخيرا منذ أيام قليلة ليقرأها المصريون والشرقيون، ولتترجم إلى العالم أجمع.. اسمه صلاح جاهين.. اذكروا هذا الاسم وارقبوه، فأنتم وحدكم القادرون على أن ترفعوه إلى أعلى قمم الفن، وأنتم وحدكم القادرون على أن تهيلوا عليه تراب النسيان والموت.."
ولقد تحققت نبوءة فتحي غانم حيث أصبح صلاح جاهين واحداً من أهم شعراء القرن العشرين، ليس في مصر فقط، بل في الوطن العربي، لما قدمه من تجربة شعرية تحمل قيم الإنسان وهمومه وأحلامه من خلال تأمل فلسفي يدركه القاريء العادي والمثقف.. ولقد قال عنه الكاتب أحمد بهجت، بعد مماته:
"كان صلاح جاهين شمساً تشع بالفرح رغم أن باطنه كان ليلاً من الأحزان العميقة وكان يواري أحزانه ويخفيها عن الناس، ويصنع منها ابتسامة ساخرة، ويظهر على الناس بوجهه الضاحك كل يوم".
وأيضا قال عنه الموسيقار محمد عبدالوهاب:
"لم نفقد صلاح جاهين، بل فقدنا بموته عشرين فناناً، الرسام والشاعر والساخر والزجال والقصاص والممثل والسيناريست، وأيضا المغني، وكل هذا متوج بخلق لا يعرف الحقد. كان صلاح جاهين كاتباً من الدرجة الأولى للأغنية، وكانت أغانيه تسهل على الملحن أن يضعها في إطار لحن جيد، كانت كلماته عطشى للحن الجميل، تدفع الموسيقي لتقديم أحسن ما عنده".
لقد كان صلاح جاهين طاقة إنسانية تفجرت فناً وشعراً، فملأت كل سماء الإنسان في كل زمان ومكان. وسيظل لأن الفن الصادق والكلمة القوية تبقى ما بقي الإنسان.
المصدر: ميدل ايست أونلاين