الكيان الصهيوني... عشرة محاور لأزمة شاملة واحدة (2/2)
عرض الجزء الأول من هذه المادة بشكل مختصر لستة محاور ضمن الأزمة الشاملة التي يعيشها الكيان الصهيوني، ابتداءً من الدولي وصولاً إلى المحلي، وكانت هذه المحاور هي على التتالي: (1- الوضع الدولي الجديد. 2- الوضع الأمريكي في منطقتنا. 3- المسألة الإيرانية. 4- الوضع السوري. 5- الوضع الديمغرافي. 6- الوضع الأمني).
نواصل هنا العرض بشكل مختصر أيضاً لأربعة محاور إضافية، هي (7- الوضع الاقتصادي. 8- الانقسام السياسي الداخلي. 9- النواة الثقافية. 10- المقاومة الفلسطينية).
سابعاً: الوضع الاقتصادي
قبل شهر تقريباً، صرح أفيغدور ليبرمان، وزير الحرب السابق في حكومة الكيان، بأنّ «إسرائيل في طريقها نحو أزمة اقتصادية لم تعرف لها مثيلاً من قبل». كذلك فإنّ رؤساء البنوك في اجتماعهم مع وزير المالية الحالية قبل أيام، قد أقروا بأنّ أزمة اقتصادية غير مسبوقة تلوح في الأفق. وهذان مثالان فقط بين مئات الأمثلة المشابهة التي يمكن إيرادها حول مدى التشاؤم الذي يخيم على الرؤية الاقتصادية في الكيان.
المشكلة في هذه الآراء بمعظمها، أنها تحاول تفادي الأسباب العميقة للأزمة، وتحاول ردّها إلى «الإصلاح القضائي» الذي يعتزم نتنياهو إقراره، في حين أنّ عمق المسألة في مكانٍ آخر تماماً... وفيما يلي بضع نقاط أساسية حول طبيعة وحجم الأزمة:
- كما كل الاقتصادات المرتبطة بالدولار حول العالم، يمر الكيان هو الآخر عبر الأزمة. رفع الفيدرالي الأمريكي المستمر لأسعار الفائدة، أدى إلى هجرة جماعية لرؤوس الأموال من بقاع مختلفة في العالم باتجاه الداخل الأمريكي، وخاصة الأموال الساخنة. نشر موقع والا «الإسرائيلي» منذ أيام نقلاً عن رؤساء البنوك «الإسرائيلية» أنّ معدل انتقال الأموال نحو الخارج قد ارتفع بعشرة أضعاف المعدل الذي كان عليه قبل سنة.
- الارتفاع الفلكي هذا، أي بعشرة أضعاف للأموال الهاربة من الكيان، لا يمكن تفسيره فقط بالأزمة الاقتصادية العالمية، وبرفع الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة، لأنّ حجم تسرب الأموال في دول مختلفة حول العالم باتجاه الولايات المتحدة لم يبلغ هذه المعدلات من الارتفاع في الفترة نفسها. أحد التفسيرات الإضافية لهذه العملية، هو أنّ واشنطن تعمل بشكل مدروس على استقطاب شركات التكنولوجيا المتطورة من كل «حلفائها» باتجاه الداخل الأمريكي، وشركات التكنولوجيا العالية في الكيان هي عماد أساسي من أعمدة الاقتصاد، بل هي العماد الأهم، وهي في الوقت نفسه الاستهداف الأساسي الذي يضعه الأمريكان حالياً.
- الوضع الأمني المتوتر دائماً، والكلف المهولة لإدارة مجتمع عسكري ولإدارة آلة حرب لا تتوقف عن العمل، هي أيضاً أسباب إضافية لتعميق الأزمة، خاصة وأنّ الموردين الأساسيين لتشغيل هذه الآلة قد تراجعا بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية. ونقصد بهما، أولاً: تجارة بيع الأسلحة الإسرائيلية التي تشهد تراجعاً واضحاً. وكذلك الدعم الأمريكي المالي، والذي وإنْ لم يتم تقليص حجمه الدولاري، إلا أنّ قيمته الفعلية قد انخفضت بشكل كبير بحكم التضخم الحقيقي للدولار.
- سبق أنْ تناولنا موضوع الحريديم في هذه المادة، ولكن لا بد من التنويه هنا بأنّ هذه الفئة مسهم أساسي في تفاقم الأزمة الاقتصادية؛ يكفي القول: إنّه في إحصاءات 2016 بلغ عدد اليهود الحريديم في «المجتمع الإسرائيلي» حوالي 750 ألفاً، وعددهم الآن ولا شك قد قارب المليون أو تجاوزه. (17% من اليهود في فلسطين المحتلة عام 2016، واليوم تجاوزا الـ 20%). يكفي فقط أنْ نتخيل صورة «دولة» لا يقوم 20% من سكانها بأي عمل منتج من أي نوع كان، بل ويجب على الدولة أن تصرف عليهم، وهم عليهم أن يتفرغوا لممارسة الدين، وبالأحرى لممارسة الحقد والعنصرية... وحتى من يقوم منهم بعمل ما، فهو عمل قليل الإنتاجية بشكل كبير.
ثامناً: الانقسام السياسي الداخلي
أكثر الطرف سماجة، هي تلك التي تتحدث عن وجود «يمين» و«يسار» ضمن القوى السياسية «الإسرائيلية» الحاكمة؛ الحقيقة أنها كلها يمين والفارق هو مدى يمينيتها ومدى تعصبها.
اثنان من الصف الأول من قيادات الكيان، وخلال فترة لا تتجاوز الشهرين، قد عبّرا عن أنّ «إسرائيل ماضية نحو حرب أهلية طاحنة»، هما إيهود باراك وإسحاق هرتسوغ. هذا الكلام ليس بقليل، ويعكس حجم الأزمة وعمقها.
المسألة ليست مجرد خلافٍ بين مجموعة نتنياهو وحلفائه والصف المقابل، وليست بالتأكيد حول «الإصلاح القضائي». عمق المسألة فيما نعتقد هو الخلافات الكبرى حول السياسات الاستراتيجية الواجب اتباعها في ظل وضع عالمي يتغير بسرعة كبيرة؛ بكلامٍ آخر، الانقسام ضمن «النخبة» في الكيان، هو انعكاس لانقسام النخبة في الولايات المتحدة وفي الغرب عموماً. وهذا الانقسام أشد قسوة في الكيان، لأنّ ما هو على المحك هو استمرار الكيان ذاته من حيث استمرار وظيفته أو انتهائها. فالتراجع الأمريكي المتواصل، وصعود أسهم التيار الانكفائي، يهدد الكيان وجودياً، ويجعل مما يسمى «اتفاقات أبراهام» مجرد قبلة وداعٍ أمريكية للكيان، يُترك بعدها لمصيره.
ولا شك أيضاً، أنّ الحامل الداخلي الأساسي للأزمة السياسية للكيان، هو المقاومة الفلسطينية، التي سنتحدث عنها باختصار في فقرة لاحقة، ولكن نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّه وبالرغم من أنّ لدى الساسة «الإسرائيليين» موقفاً معادياً موحداً ضد كل ما هو فلسطيني، إلا أنّ عجز مختلف السياسات القمعية والهمجية في كسر المقاومة، قد ولّد انقساماً عميقاً حول الأساليب الواجب اتباعها...
تاسعاً: النواة الثقافية
استقرار أي مجتمع أو دولة من الدول، لا يمكن أن يتم دون وجود نواة ثقافية متماسكة تشكل الجانب الروحي من كيان الدولة- المجتمع.
الاستثمار المكثف بالهولوكوست، وتحويلها إلى «مناسبة يهودية خالصة» رغم أنّ ضحاياها لم يكونوا من اليهود فقط، وكذلك الاستثمار بـ«الغيتو» التاريخي في الغرب، وضع أساساً (وإنْ واهياً)، لنواة ثقافية ما لمشروع «الدولة اليهودية»، بمعنى أنها دولة للمظلومين والمضطهدين القادمين من شتى بقاع الأرض.
الطريف في المسألة، أنّ أولئك الذين نظموا اضطهاد اليهود تاريخياً، هم أنفسهم الذين دفعوا نحو «إقامة الدولة»، وضد شعوب سبق أن اعتبرت اليهود جزءاً طبيعياً منها، وعاش اليهود فيها في مستوى من الأمان والحرية لم يعرفوه قط في أوروبا. (تكفي مراجعة تاريخ محاكم التفتيش، وقبله تاريخ الدول العربية الإسلامية التي قامت في منطقتنا لمعاينة هذه الحقائق). هذا موضوع طويل بكل الأحوال، ولسنا بوارد التعمق فيه، إنما تدعو ضرورة السياق إلى الإشارة له.
استمر الارتكاز إلى فكرة الاضطهاد ردحاً من الزمن بعد إعلان دولة الكيان. ولكن تغيرت مع الزمن مجموعة أمور أساسية:
أولاً: سمحت المعونات الغربية الكثيفة، بتحويل صورة «المستضعف» إلى صورة المتجبرٍ والظالم، ليس من وجهة نظر الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين أو أي حرٍ في العالم، بل ومن وجهة نظر «الإسرائيليين» أنفسهم.
ثانياً: هذه المعونات نفسها، ومعها التطور التقني المستورد بمعظمه، أحدث حالة من الرخاء المادي. بل وكان الرخاء المادي نفسه أحد شروط استقطاب نخبة تقنية وعلمية وصناعية يهودية من أصقاع العالم باتجاه فلسطين المحتلة. وجود هذه الفئات عزز مشكلات «المجتمع الناشئ»، فالفوارق الطبقية بدأت بالظهور بشكل أكثر حدةً، وكذا الفوارق العنصرية الطابع، والتي يجري فيها التمييز بين اليهود على أساس لون بشرتهم وعلى أساس البلدان التي جاؤوا منها، ويتم توزيعهم على الأعمال بناءً على ذلك.
ثالثاً: حالة الرخاء النسبي نفسها، وكما في أي مجتمع عبر التاريخ، قد أضعفت الاستعداد للقتال، خاصة وأنّ القسم الأكثر ثراءً والأكثر تطوراً، لديه دائماً خيار الانتقال المؤقت أو الدائم نحو الغرب، بمقابل أنّ الفئات الأكثر تخلفاً وخاصة الحريديم، ليست مستعدة، وليست لديها الإمكانية العملية للانتقال إلى أي مكان آخر.
محصلة هذه العوامل وغيرها، أنّه لا يمكن الحديث عن «نواة ثقافية» واحدة في «مجتمع واحد» بما يخص الكيان. بل هنالك عدة مجتمعات معزولة نسبياً عن بعضها البعض، ومتناقضة فيما بينها. والأكثر صعوبة في المسألة، أنّ تلك الفئات التي تشكل «الأساس الاعتقادي» للكيان، والتي يمكنها أن تتحمل أكثر من غيرها ظروف الحرب والتوتر الأمني المستمر، هي ذاتها أساس المشكلة الاقتصادية للكيان. والعكس بالعكس، فالفئات التي هي أساس بناء اقتصاد متطور في الكيان، هي الأقل تحملاً لظروف التوتر الأمني، وهي الأكثر استعداداً للفرار عند أول غيمة... وهذان الاتجاهان قد تعززا بشكل مضاعف مع الأزمة العامة، ومع اشتداد ضربات المقاومة الفلسطينية وتنوعها... حيث تبدو النواة الثقافية للمجتمع الفلسطيني أشد ثباتاً ورسوخاً وعمقاً بما لا يقاس ربما من أية نواة ثقافية أخرى حول العالم، وليس لدى الكيان فحسب؛ فالإجرام الصهيوني، ومحاولة فصل البلاد المحتلة عن بعضها البعض، ومحاولة تفريق الفلسطينيين بشتى السبل، كلها عززت على عكس المرجو صهيونياً، تضامن المجتمع الفلسطيني في 48 والضفة وغزة والشتات...
عاشراً: المقاومة الفلسطينية
أعمق جوانب أزمة الكيان على الإطلاق، وأشدها تهديداً له، هي المقاومة الفلسطينية، وعلى الخصوص حالة الوحدة بين كل من الضفة وغزة والـ ـ48 والحركة الأسيرة والشتات.
تركّز الجهد الصهيوني عبر عقود على تشتيت نضالات الفلسطينيين وعزلها عن بعضها البعض، وينبغي الاعتراف بأنّ هذا قد نجح جزئياً في بعض المراحل التاريخية، وخاصة تلك التي تلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إلى ما قبل بضعة أعوام؛ في تلك المرحلة، بدا وكأن نضال الشتات قد تمّ تهميشه وتقليل أثره، وبدا أنّ الـ 48 قد تمّ إخراجها من المعادلة.
الصهاينة، وفي معتقلاتهم بالذات، وضعوا أساساً مكيناً، ومن حيث لا يريدون، لوحدةٍ فولاذية للمجتمع الفلسطيني؛ فقد شكلت الحركة الأسيرة خلال عقودٍ طويلةٍ، روح الشعب الفلسطيني، وعماداً أساسياً لوحدة كل أشكال نضاله. وربما في جوهر ذلك أنّها شكلت الأساس الأخلاقي والسياسي والعملي لتجاوز أية انقسامات فصائلية، وللعمل ضد أية أشكال انحرافٍ وخيانة من قبيل التنسيق الأمني وما شابهه.
كذلك، فإنّ المقاومة المسلحة، هي الأخرى كانت أساساً مكيناً في هذه الوحدة؛ فبات معروفاً أنّ الفلسطينيين على العموم لا يقفون عند الشعارات التي تطلقها القوى السياسية، بل عند الصواريخ التي تطلقها، وعند الأفعال الملموسة في مقاومة الاحتلال.
بالتلازم مع ذلك كلّه، وابتداءً من الشيخ جراح وما تلاه، ظهر أنّ أزمة الصهاينة كلما تعمقت، تعمقت بالضد منها وحدة الحال الفلسطينية لتشمل الضفة وأراضي 48 وبمختلف أشكال النضال المدني والعسكري والسياسي والثقافي والاجتماعي.
وسطي عمر المقاومين الفلسطينيين الذين يضربون الكيان على أساس يومي، ومن حيث لا يمكنه بأية حال من الأحوال أن يحمي نفسه، هو وسطي صغير وذو دلالات كبرى. فكل الأحاديث عن أنّ الأجيال اللاحقة ستنسى قد تبددت. أهم من ذلك، أنّ ولادة أجيال مقاومة بهذه الأعمار الصغيرة، تعني أنّ عزم القضية يزداد ويتصلب مع الزمن على عكس ما يأمل الصهاينة، ويعني أنّ المقاومة الفلسطينية قد دخلت مرحلة جديدة تستنزف فيها الاحتلال بشكل تراكمي ومؤلم وحتى النهاية، دون أن يمتلك في وجهها أية وسيلة فعالة، مهما بلغت وحشية وسائله.
بكلامٍ آخر، فإنّ نموذجاً جديداً مركباً ومعقداً من المقاومة قد نشأ وتثبت؛ نموذج يدمج أشكال المقاومة الفيتنامية المتمثلة بالحرب الشعبية، مع أشكال المقاومة السلمية في تجارب كتجربة غاندي، مع أشكال المقاومة المسلحة المنظمة، كما في المثال التاريخي للجزائر، مع أشكال المقاومة الثقافية والسياسية، كما في حالات عديدة حول العالم.
هذا النموذج الجامع المانع غير قابل للكسر بأي شكل من الأشكال، بل وقابليته للتوسع ولتعميق الاستنزاف قابلية تكاد تكون مفتوحة بلا حدود...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1111