الكهرباء للمقتدرين فقط: هجوم حكومي على أكثرية السوريين

الكهرباء للمقتدرين فقط: هجوم حكومي على أكثرية السوريين

أصدرت وزارة الطاقة السورية يوم الخميس 30 تشرين أول 2025، قراراً برفع أسعار الكهرباء في البلاد وفق نظام يتضمن أربع شرائح استهلاكية مختلفة. الشريحة الأولى، والتي وصفتها الوزارة بأنها مخصصة «لأصحاب الدخل المحدود»، تشمل حتى 300 كيلو واط خلال شهرين، بسعر 600 ليرة سورية للكيلو واط، ما يعني - وفقاً للوزارة - أن الدولة تدعم هذه الشريحة بنحو 60% من التكلفة الإجمالية للكيلو واط البالغة بين 14 و15 سنتاً حسب تصريحات بعض المسؤولين. وتستهدف الشريحة الثانية «أصحاب الدخل المتوسط والمرتفع والمشاريع الصغيرة»، وتشمل الاستهلاك الذي يتجاوز 300 كيلو واط خلال شهرين بسعر 1400 ليرة للكيلو واط. أما الشريحة الثالثة فهي «المعفيين من التقنين الكهربائي»، مثل المؤسسات الحكومية والشركات والمصانع، بسعر 1700 ليرة للكيلو، بينما الشريحة الرابعة تشمل المعامل والمصانع كثيفة الاستهلاك مثل معامل صهر الحديد وغيرها بسعر 1800 ليرة للكيلو واط.
من خلال هذه الشرائح، تحاول الحكومة تقديم نفسها كـ«داعمة» لأصحاب الدخل المحدود، بينما في الواقع، فإن الشرائح المعلنة غير واقعية بالنسبة لاستهلاك الأسر السورية الفعلي، وتضع المواطنين أمام واقع جديد أكثر صعوبة، حيث سيجدون أنفسهم مجبرين على دفع فواتير مرتفعة تصل إلى نسب غير مسبوقة من الحد الأدنى للأجور، في وقت يعيش فيه أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر.

رافقت قرارات رفع أسعار الكهرباء تصريحات متعددة من المسؤولين السوريين، حاولوا من خلالها تبرير الخطوة الأخيرة. وزير الطاقة، محمد البشير، وصف القرار بأنه «تعديل» لتعرفة الكهرباء بهدف إصلاح المنظومة الكهربائية، في حين قال وزير الاقتصاد والصناعة، محمد نضال الشعار، إن الكهرباء كانت تُقدَّم «لسنوات طويلة بأسعار مصطنعة، ليس بدافع الرحمة بل كأداة سياسية، استُخدمت لشراء الصمت فيما كانت ثروات الوطن تُنهب… نحن نصحح ما كان مصطنعاً ونحوله إلى حقيقي بشفافية وعدالة لضمان استدامة قطاع الطاقة».
على النقيض من ذلك، عبّر الكثير من المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن غضبهم واستيائهم من هذا القرار المجحف والظالم، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها السوريون بعد سنوات طويلة من الحرب والدمار. فالأسر السورية ستواجه اليوم فواتير تتجاوز قدراتها المالية بشكل كبير، وسط تآكل مستمر للقوة الشرائية، وارتفاع غير مسبوق في أسعار المواد الأساسية، لا سيما وأن الحكومة اختارت رفع أسعار الكهرباء قبل اتخاذ أي خطوات حقيقية لتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين ورفع أجورهم الحقيقية.

465431455_result

رفع الدعم الكهربائي وفاتورة الأسر السورية

رغم أن الحكومة السورية لم تقل ذلك صراحة، فإن قرار رفع أسعار الكهرباء الأخير يمثل في الواقع رفعاً كاملاً للدعم عن معظم المواطنين. فالشريحة الأولى، التي أعلنت الحكومة أنها مخصصة «لأصحاب الدخل المحدود»، هي شريحة افتراضية بعيدة كل البعد عن الاستهلاك الفعلي للأسر السورية بحده الأدنى. يمكن توضيح ذلك بالأرقام والأمثلة الواقعية، لنفهم كيف أن هذه الشرائح غير منطقية، وأن الغالبية الساحقة من المواطنين لن تستفيد من الدعم بأي شكل حقيقي.
لنفترض، على سبيل المثال، أن أسرة سورية قررت الحد من استهلاكها إلى الحد الأدنى الممكن، وتخلصت من جميع الأجهزة الكهربائية «غير الضرورية». لنفترض أنها اشترت أفضل أجهزة موفرة للطاقة مما هو متوافر في السوق السورية، واستقرت على استخدام الأجهزة التالية فقط: براد واحد وشاشة LED واحدة (يعملان 6 ساعات يومياً فقط)، وثلاث لمبات موفرة للطاقة (8 ساعات يومياً)، ومروحتان موفرتان للطاقة تعملان 15 ساعة يومياً، وشاحن لابتوب متوسط الاستهلاك يعمل 5 ساعات يومياً.
بالحساب الدقيق، سيبلغ استهلاك هذه الأسرة نحو 5.2 كيلو واط يومياً، أي نحو 312 كيلو واط خلال شهرين. وهنا تظهر المفارقة: حتى مع هذا التقنين اللا إنساني الذي يستبعد حتى الأساسيات مثل الغسالات ومضخات المياه والسخانات والأجهزة الإلكترونية الأخرى، فإن الأسرة ستتجاوز الحد الأقصى للشريحة الأولى، وبالتالي ستدخل مباشرة ضمن الشريحة الثانية، التي يبلغ سعر الكيلو فيها 1400 ليرة سورية. هذا يعني أن فاتورة الكهرباء لهذه الأسرة ستبلغ نحو 440,000 ليرة سورية خلال الدورة، أي ما يقارب 60% من الحد الأدنى الرسمي للأجور البالغ 750,000 ليرة.
الأمر يزداد صعوبة عند النظر إلى متوسط الاستهلاك الفعلي للأسر السورية. وفق بيانات وزارة الكهرباء السورية لعام 2009، كان متوسط الاستهلاك المنزلي نحو 400 كيلو واط شهرياً، أي 800 كيلو واط في الدورة. ومع الأسعار الجديدة، ستضطر الأسرة لدفع نحو 1,120,000 ليرة سورية في الدورة. هذا الرقم يعادل نحو أجر شهر ونصف لأصحاب الحد الأدنى للأجور، ويجعل الكهرباء عبئاً مالياً غير محتمل على غالبية الأسر، خصوصاً تلك التي تعيش تحت خط الفقر.
ويشكل هذا تراجعاً هائلاً لقدرة الأجر السوري على تغطية تكاليف الكهرباء. وفقاً للبيانات التاريخية للبنك الدولي كان الحد الأدنى الرسمي للأجور في منتصف سبعينيات القرن الماضي، والبالغ 325 ليرة سورية، قادراً على شراء نحو 1,710 كيلو واط، أما وفقاً للأسعار الجديدة اليوم، فإن الحد الأدنى الرسمي للأجور لن يستطيع أن يشتري سوى 535 كيلو واط.
للمقارنة، ووفقاً للبيانات الرسمية المتاحة من الوزارات والمؤسسات الحكومية في دول الجوار، فإن الحد الأدنى الرسمي للأجور في العراق يستطيع أن يشتري 23,225 كيلو واط، وفي تركيا 9,869 كيلو واط، وفي الأردن 4,545 كيلو واط، وفي لبنان 771 كيلو واط.
من هنا تتضح معالم الصعوبات الهائلة التي ستقع على عاتق الأسرة السورية، حيث إن رفع أسعار الكهرباء قبل رفع القدرة الحقيقية للأجور خطوة كارثية على جميع الأصعدة. سيجد المواطنون، الذين يعانون أصلاً من تآكل القدرة الشرائية نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود والخبز، أنفسهم أمام فواتير لا يمكن تحملها، ما سيدفعهم إما إلى تقنين استهلاك الكهرباء إلى مستويات غير إنسانية أو البحث عن مصادر بديلة غير رسمية تزيد العبء المالي والاقتصادي عليهم.
يسلط هذا القرار الضوء أيضاً على النية الحقيقية وراء رفع الدعم. فبينما يدعي المسؤولون أن الهدف هو «إصلاح المنظومة الكهربائية» وضمان استدامتها، تُظهر الوقائع أن القرار يهدف إلى «تخفيف العبء المالي» عن الدولة على حساب المواطن، دون أي اعتبار لقدرة الشعب على تحمل هذه التكاليف الجديدة.

37627097_result

-

 

إعاقة إعادة التشغيل الاقتصادي المطلوب في سورية

الكهرباء ليست فقط عنصراً حيوياً لمعيشة المواطنين السوريين، بل أيضاً لإعادة تشغيل الاقتصاد الوطني الذي تضرر بشكل كبير على مدار سنوات الحرب الطويلة. وهنا من الواضح أن قرارات رفع أسعار الكهرباء، التي تسوّق من جانب الحكومة على أنها تهدف إلى
«ضمان استدامة قطاع الطاقة»، تتجاهل فعلياً الواقع الاقتصادي الاجتماعي للأغلبية الساحقة من السوريين، وتخالف جميع المبادئ الأساسية لشعارات إعادة الإعمار والتنمية بعد الحرب التي يتحدث عنها المسؤولون السوريون بإسهاب في المحافل الدولية.
وقد تكون أكبر مشكلة في موضوع الطاقة الكهربائية اليوم هي أن أصحاب القرار لا يستطيعون النظر إليها إلا بوصفها سلعة، لا ركيزة أساسية للإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي. فالصناعات التي تعد العمود الفقري لإعادة التشغيل الاقتصادي، تعتمد على الكهرباء بأسعار معقولة لتتمكن من الإنتاج دون تكبد خسائر فادحة. وبشكلٍ طبيعي، فإن رفع الدعم وفرض أسعار مرتفعة على الاستهلاك سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج بالنسبة لتلك المشاريع، ما يضعف قدرتها على المنافسة، ويخفض فرص التشغيل المحلي، ويزيد من البطالة، بدلاً من خلق «الاستدامة» التي تدعي الحكومة أنها تسعى إليها.
الاستدامة الحقيقية لا تبنى على تحميل المواطنين الفقراء أعباء مالية إضافية، بل على تحسين الكفاءة التشغيلية، وترشيد الاستهلاك (تحديداً من خلال ضبط فاقد الطاقة الذي يصل في سورية إلى نحو 30% بينما يتراوح عالمياً بين 5 و15%) وتأهيل الشبكات الكهربائية لتقليل هذا الفاقد الفني.
من منظور الاقتصاد الكلي، تعد الطاقة المدعومة من أهم أدوات إعادة الإعمار بعد الحرب. حيث تتطلب إعادة تشغيل المصانع على اختلاف حجمها أسعاراً معقولة للكهرباء، وإلا سيتوقف المزيد من خطوط الإنتاج التي عانت الأمرين خلال السنوات السابقة. فالطاقة المدعومة هي أساس لا بد منه لإعادة الإعمار الاقتصادي في سورية. وأي قرار برفع الدعم، دون مراعاة القدرة الشرائية للأسر وإعادة تشغيل المشاريع، يشكل تهديداً جديداً لفرص الاستقرار الاقتصادي بعد الحرب.
والمسألة الأخرى التي يجب تسليط الضوء عليها هي أن هذا القرار اتخذ في ظل انعدام تام للشفافية، فوزارة الطاقة هي الجهة الرسمية التي تتولى عملياً تزويد البلاد بالطاقة الكهربائية وهي مسؤولية حساسة جداً وتلعب دوراً حيوياً في دعم الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. لكن رغم ذلك، ورغم الأهمية البالغة لهذا القطاع، فإن الوزارة، شأنها شأن العديد من الجهات الحكومية الأخرى، تتبع سياسة عدم الإفصاح الكامل عن التفاصيل التشغيلية والفنية المتعلقة بعمل محطات توليد الكهرباء وتوريد الطاقة. وتثير هذه السياسة تساؤلات عديدة حول الأسباب التي تحول دون نشر المعلومات الدقيقة والشاملة المتعلقة بعمليات تشغيل المحطات وأدائها علماً أنها ليست سراً في جميع دول العالم، بل وحتى في دول الجوار.
على سبيل المثال، لماذا لا تعلن الوزارة عن عدد ساعات تشغيل محطات التوليد، ولا تعلن تقارير تفصيلية توضح عدد ساعات التوقف سواء تلك المخصصة للصيانة الطارئة أو المبرمجة مسبقاً، أو حتى عدد ساعات التوقف الكيفي؟ ولماذا لا تعلن عن كميات الفاقد الناتجة عن محولات الرفع أو محولات الاستهلاك الذاتي أو حتى الضياعات التي تحدث في الكابلات والبارات؟

 

12501250

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1250
آخر تعديل على الأحد, 02 تشرين2/نوفمبر 2025 20:51