يريدون أن يُضحي الفقراء كي يحافظوا على نهبهم
كتب مارتن وولف مقالاً في صحيفة «فايننشال تايمز» هذا الأسبوع كان، في رأيي، خاطئاً إلى درجة محرجة للغاية، بل وخطيراً في الوقت ذاته. يمثّل وولف رمزاً للرؤية الاقتصادية القديمة في هذا العالم. إنّه، في رأيي، نيو ليبرالي حتى النخاع.
قال: إنّ وزيرة الخزانة البريطانية ريتشيل ريفز يجب أن تحقق النمو بأي ثمن في الموازنة المقبلة في المملكة المتحدة، لأنّه إن لم يحدث ذلك، فلن يعود العالم منطقياً، فالديمقراطية تعتمد على فكرة أن نحظى بالنمو، مهما كانت التضحيات التي تُقدَّم في سبيله، حتى لو جرى التضحية بأشخاص من أجل تحقيقه.
بالنسبة إليّ، لم يُظهر هذا الكلام مجرّد لا مبالاةٍ وقحة تجاه حقائق الاقتصاد كما هي الآن، بل لا مبالاةٍ وقحة تجاه الناس الذين يعملون في هذا الاقتصاد كما هو الآن. وفي هذا، بدا مارتن وولف ممثّلاً للرؤية الكاملة للنخبة المالية، التي ترى أنّ مكاسبها يجب أن تتحقق مهما كان الثمن الذي يدفعه بقية العالم. وأظنّ أنّ هذا يستحق النقاش.
يقول مارتن وولف: إنّ النمو الاقتصادي هو ما يجعل الديمقراطية ممكنة. وادّعاؤه هو أنّ الانفجار في النمو، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، حدث نتيجة ارتفاع الإنتاجية، وارتفاع مستويات الاستهلاك، وبالتالي ارتفاع مستوى الرفاهية، فشعرنا جميعاً بالرضا، ولذلك اعتنقنا الديمقراطية وصوّتنا للأحزاب التي، كما يدّعي، حققت لنا ذلك، رغم أنّه يمكننا جميعاً أن نشكك في مدى صحة هذا الزعم.
ولهذا يقول الآن: إنّ «النمو المستمر» وحده قادر على حماية الديمقراطية من التحدي الذي تواجهه من الفاشية. ولنكن واضحين، هذا هو مصدر التهديد. لذلك يقول: إنّ حزب العمال يجب أن يعطي الأولوية المطلقة لما يلزم لتحقيق النمو. لكن هذا وهمٌ خطير، وإن كان من الواضح أنّ ريتشيل ريفز تشاركه هذا الوهم.
الحقائق لا تدعم حجّة مارتن وولف. فازدهار منتصف القرن العشرين، 
الذي بدأ يخفت مع نهاية ذلك القرن، كان استثناءً تاريخياً. الوقود الأحفوري الرخيص، والتغاضي عن التكاليف البيئية، واستغلال الكوكب، كلها خلقت أسطورة النمو التي كانت بوضوح غير مستدامة.
نحن نعلم أنّ ذلك العالم قد انتهى. تغيّر المناخ حقيقة. ونعلم أنّ علينا مواجهته. إنّ التظاهر، كما يفعل مارتن وولف، بأنّ حدود الكوكب لم تعد موجودة، وأنّها لا تقيّد الاقتصاد، هو غباء، لأنّ ذلك ببساطة لا يمكن أن يكون صحيحاً. لا يمكنك أن تملك نمواً لا نهائياً على كوكبٍ محدود. هذه استحالة رياضية مطلقة.
لكن هناك ما هو أسوأ من ذلك. ما يقوله مارتن وولف هو أنّه يجب التضحية بالبشر من أجل هذا النمو. يقول: إنّه ما لم نسمح الآن بقدرٍ من المرونة في الاقتصاد– أي أن نسمح «بالتدمير الخلّاق» للصناعات القائمة، وأن نسمح بفصل 
العمال في تلك الصناعات مع تعويضات منخفضة جداً، وأنّ الناس يجب أن يكونوا «مرنين» فيما 
يتعلق بأماكن عملهم ووظائفهم، مما يعني خلق حالةٍ من انعدام الأمن الهائل للغالبية– فلن نحظى بالنمو.
لكن في هذه الحالة، علينا أن نسأل: ما غاية النمو يا مارتن وولف؟ ما معنى أن نريد نمواً وديمقراطية، كما تقول: إنّك تدافع عنهما، إذا كانت النتيجة هي بشرٌ بلا حقوق عمل؟ يعيشون في خوفٍ من فقدان وظائفهم؟ يخشون الانتقال من أجل البحث عن عمل، وهم يعلمون أنّهم لن يستطيعوا الانتقال لأنهم بلا رأس مالٍ ولا مدّخرات، وأنّ كلفة الانتقال ستجعلهم يدفعون أكثر من نصف أجورهم للإيجار، لأنّ ذلك هو الثمن الذي يُنتزع منهم فقط ليحصلوا على سقفٍ فوق رؤوسهم؟
إنّه يطالب بالتضحية بالبشر من أجل تحقيق الأرباح. أرباح للقلة التي يمثّلها هو وصحيفته. إنّه يقول: إنّ علينا أن نقبل بإعادة توزيع الثروة نحو الأعلى، لأنّها شرطٌ مسبق للديمقراطية. ومع ذلك، فإنّ هذه الإعادة نفسها– أي إعادة توزيع الثروة صعوداً، وزيادة عدم المساواة– هي ما يجعل الناس اليوم يدركون أنّهم يُتركون خلف الركب، وهو ما يقود إلى الفاشية، وليس غياب النمو.
لو كان الناس يعلمون أنّ لديهم مساكن آمنة؛ وأنّ أطفالهم بأمان؛ وأنّهم يستطيعون الحصول على خدمةٍ صحيةٍ وطنيةٍ فعّالة؛ وأنّهم سيتمتعون بتقاعدٍ كريم؛ وأنّ هناك شبكة أمانٍ اجتماعي تحميهم إن تعذّر عليهم العمل– تلك الأشياء التي يقول وولف: إنّ علينا التخلّص منها– لما كانوا ليفكروا بالفاشية أصلاً. كانوا سيشعرون بالامتنان للدولة التي توفّر لهم كل ذلك. لكنهم لا يستطيعون ذلك لأنّ تلك الخدمات لم تعد تُقدَّم.
ووولف لا يريدها أن تُقدَّم، لأنّه يؤمن بأنّنا نحتاج إلى جهاز دولة أصغر وقطاعٍ خاصٍ أكبر، لأنّه يعتقد أنّ ذلك هو الشرط المسبق للنمو. وهو يريد بالتالي الإضرار بالعمال لتحقيق ذلك النمو، رغم أنّهم لن يستفيدوا منه.
هذا خطابٌ من القرن التاسع عشر، وليس من القرن الحادي والعشرين. بل الأكثر من ذلك أنّه يتظاهر بأنّ الدولة عاجزة إن لم يتحقق النمو. الاستعارة التي يستخدمها دائماً هي تشبيه الدولة بالأسرة المنزلية، إذ يرى أنّه من دون نمو لن يكون هناك ضرائب إضافية، وبالتالي لن تكون هناك خدمات عامة، لأنّ الدولة «لا تستطيع» إنفاق أكثر مما تكسبه. وهذا خطأٌ فادح. فالدولة التي تُصدر عملتها لا يمكن أن تنفد من المال. والقيود في الاقتصاد ليست مالية بل سياسية.
إذا كنا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الخدمات الأساسية– وقد شرحت للتو أنّنا بحاجةٍ إليها– فإنّ أساس النمو في اقتصادنا لن يأتي من توسيع القطاع الخاص، الذي يخدم في الغالب احتياجات الأغنياء لأنّ معظم الاستهلاك يذهب إليهم، بل سيأتي من توسيع جهاز الدولة. يمكننا تلبية كل تلك الاحتياجات الأساسية، لكننا سنحتاج إلى زيادة الضرائب نتيجةً لذلك، لا لأنّ الضرائب تموّل هذه الأشياء (فهي لا تفعل ذلك، كما نعلم)، بل لأننا سنحتاج إلى استرجاع المال الذي ضخّته الحكومة في الاقتصاد لتوليد هذا النمو عبر الضرائب. ومن يجب أن يدفع أكثر؟ أولئك الذين يملكون أكبر قدرةٍ على الدفع، أي الأغنياء.
لكن وولف يجادل بأنّ إعادة التوزيع هي ما يثبط الحافز على النمو. وبحسب رأيه، فإنّ «المرابين» في العالم لن يستثمروا أكثر في استخراج الأرباح، إلا إذا سُمح لهم بنصيبٍ أكبر منها عبر خفض الضرائب. ومرّةً أخرى، وولف مخطئ. العدالة الضريبية تحرّر الموارد الحقيقية لإعادة توزيعها داخل الاقتصاد، ولا تُخرج المال منه. ولو كان يفهم شيئاً عن «أثر المضاعف» – وهو يعرفه بالتأكيد، لكنه نسي أهميته السياسية– لأدرك ذلك.
إنّ الديمقراطية تتطلّب، في حقيقتها، مساكن 
آمنة، ورعاية صحية شاملة، وتعليماً، ومشاركة عامة، والتصدي لتغيّر المناخ، لتأمين مستقبلٍ آمنٍ ومستقر، بحيث لا يعيش الناس في خوف– في حين أنّ كثيرين اليوم يعيشون في الخوف.
سياسة الرعاية الحقيقية ستتوقف عن مطاردة الناتج المحلي الإجمالي لمجرّد ذاته، وهو ما يفعله مارتن وولف بالضبط.
سياسة الرعاية الحقيقية ستستخدم الموارد المتاحة لتلبية حاجات البشر، لكنها لا تفعل ذلك. ما يفعله وولف هو استخدام البشر أنفسهم لتلبية حاجات الأسواق. سياسة الرعاية الحقيقية ستقيس الرفاهية لا الاستهلاك، وستجعل من تحسين دخول الفقراء مؤشّراً على تحسّن الرفاه العام. وسياسة الرعاية الحقيقية ستبني المرونة لا الفقاعات الاقتصادية، بينما مارتن وولف يريد العكس.
نحن نعيش في عالمٍ مُجهَدٍ بالفعل إلى أقصى حدوده، وفي ظلّ أسواق مالية ستنهار حتماً، ومع ذلك يريد مارتن وولف والنخب التي يخدمها أن يدفع الأمور إلى مزيدٍ من التدهور.
علينا أن نتراجع عن هذا النوع من السياسة، وهذا النوع من الاقتصاد القائم على أسطورة تشبيه الدولة بالأسرة المنزلية، التي يروّج لها مارتن وولف. علينا أن نعيش في عالمٍ نعيد فيه ترتيب أولوياتنا. وأولوياتنا ليست تحقيق مزيدٍ من الأرباح لصالح القلة، حتى لو أدّى ذلك إلى رفع الناتج المحلي الإجمالي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
 - 1250
 
     
 
            
            
                       
                       
                                
                                    ريتشارد مورفي