أزمة المنظور الغربي في الاقتصاد
تشانغ يان تشون تشانغ يان تشون

أزمة المنظور الغربي في الاقتصاد

في أول درسٍ لي في الاقتصاد خلال فترة الدراسة الجامعية، بدأ أستاذ المادة بالحديث عن عبارة «تدبير شؤون الدولة ورعاية الشعب» باعتبارها التفسير الأصيل لمعنى الاقتصاد. لكن لطالما اعتبرت المدرسة الغربية السائدة في الاقتصاد نفسها علماً طبيعياً يتمتع بـ«قيمة عالمية»، وقد قامت بتبسيط الظواهر الاقتصادية المعقّدة إلى معادلات رياضية ونماذج توازن رياضي. بُني علم الاقتصاد الكلاسيكي الجديد على افتراض «الإنسان الاقتصادي العقلاني» وعلى «نظرية التوازن السوقي»، لتشييد صرح نظريّ يبدو متماسكاً من حيث الشكل. بيد أنّ هذا النموذج الذي يدّعي صفة «العلم الطبيعي» يخفي في جوهره حقيقة كونه وليد ظروف تاريخية محددة في الغرب، وخادماً لتوسّع الرأسمالية بوصفها أيديولوجيا أكثر من كونه علماً موضوعياً.

ترجمة: قاسيون

في كتابهما «منطق تطوّر الاقتصاد الصيني»، أشار الكاتبان وين يانغ وغاو يان بينغ بوضوح إلى هذا العطب الجذري في المنظومة الغربية: إذ إنّ هذه المدرسة عمدت إلى حشر النشاط الاقتصادي الإنساني الغني والمتنوّع في قوالب افتراضية مجرّدة، تتجاهل الواقع، بل واعتبرت الصين مجرّد حالة شاذة تحتاج إلى تصحيح.

تتمثّل المعضلة الأساسية للاقتصاد الغربي في محاولته الادعاء بأنه علم طبيعي. فالاقتصاد الكلاسيكي الجديد اختزل الإنسان إلى كائن رياضي جامد يُدعى «الإنسان الاقتصادي»، جرى نزع العلاقات الاجتماعية والنفسية عنه، وحوّل علاقاته إلى مجرّد خطوط عرض وطلب. وهكذا حاول عبر المعادلات الرياضية إرساء «حقائق كونية». هذه النظرية التي أقصت التاريخ والمجتمع عن الاقتصاد، فشلت حتماً في تفسير كيف نجحت الصين في تحقيق تراكمها الأولي رغم فقرها الشديد في رأس المال.

لقد كان «توافق واشنطن» في جوهره أداةً لنشر النيوليبرالية عالمياً. ومع الأزمة المالية عام 2008، ظهر عجز الاقتصاد الغربي جلياً: فحين انهار بنك «ليمان براذرز» واهتزّ العالم، لم تستطع تلك النماذج التنبؤ بالأزمة، ولم تتمكن من تقديم أي حلول عملية. خلف الستار الفاخر من المعادلات، أخفق هذا الفكر في تفسير الواقع. وأثبتت التجربة الصينية أنّ قوانين التنمية الاقتصادية ليست مسلمات كونية، بل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتربة الحضارية التي تنمو فيها.

التمرّد النظري للتجربة الصينية

واجهت التنمية الاقتصادية الصينية الفكر الغربي بثلاثة تحديات رئيسية:

1- في مسار التحوّل، لم تلجأ الصين إلى «العلاج بالصدمة» الذي مجّده الغرب، بل ابتكرت نظام المسارين في الأسعار، ما سمح لها بالانتقال السلس من الاقتصاد المخطّط إلى السوق.

2- في هيكل الملكية، تخطّت الصين عقيدة أولوية الكفاءة للرأسمال الخاص، وابتكرت نموذجاً مختلطاً حيث تُشكّل الشركات الحكومية 30 بالمئة من السوق وتساهم الشركات الخاصة بـ60 بالمئة من الناتج. 3- في آلية التوزيع، نسفت فكرة «التنقيط الاقتصادي» عبر سياسات مكافحة الفقر، فانتشلت نحو مئة مليون من الفلاحين من براثن الفقر.

أبرز الأمثلة كان في شنجن: ففي عام 1979 كان الناتج المحلي لا يتجاوز 1.96 مليار يوان. عبر آليات ابتكارية في استخدام الأراضي ونظام «التصنيع التعاقدي»، اندمجت المدينة في سلسلة الإنتاج العالمية، ومع سياسة تجريبية محفزة، ارتفع الناتج إلى 3.46 تريليون يوان في 2024، بزيادة فاقت 17 ألف ضعف. هذا التطوّر نسف معظم الفرضيات الغربية.

اعتمد كتاب «منطق تطوّر الاقتصاد الصيني» رؤية تشبّه الاقتصاد بكائن حي يتكيّف ويتطوّر. ومن منظور النشوء والتطور، تسهم المنافسة التقنية بين الدول في تحوّل البنى الاقتصادية «كمثال: معركة المعايير في قطاع الجيل الخامس 5G». وحين تحتفظ الصين بتنوّع ملكياتها (الدولة، التعاونيات، القطاع الخاص)، فإنها تعزّز من مرونة نظامها الاقتصادي.

سرّ نجاح الصين أنها أعادت دمج اقتصادها في نسيجها الاجتماعي، فخلقت تآزراً بين السياسة والثقافة والاقتصاد، وهذه الرؤية المتعددة تمنحنا أدواتٍ أعمق لفهم الظواهر الاقتصادية.

الشيفرة الديناميكية للمسار الصيني

التاريخ الاقتصادي الصيني هو سجلّ متواصل من التحولات الذكية، يمكن تقسيمه إلى خمس مراحل رئيسية:

المرحلة الأولى «1949-1978»: هي مرحلة تقودها منطقية البقاء. رغم انطلاقة البلاد كدولة زراعية فقيرة، انتهجت الصين استراتيجية إعطاء الأولوية للتصنيع الثقيل، فارتفع الناتج الصناعي بمعدّل 18 بالمئة سنوياً، ووصل نمو الصناعات الثقيلة إلى 25.4 بالمئة خلال الخطة الخمسية الأولى «1953-1957». عبر سياسة «مقص الأسعار» بين الزراعة والصناعة، تمكّنت الصين من تحقيق التراكم الأولي وإنشاء قاعدة صناعية مستقلة، مما مهّد للنهضة اللاحقة.

المرحلة الثانية «1978-2012»: تمّ خلالها إطلاق ديناميكية السوق عبر تأسيس المناطق الاقتصادية الخاصة، وارتفع ناتج شنجن من 1.96 مليار يوان عام 1979 إلى 3.46 تريليون في 2024. بفضل سياسة الإصلاح التدريجي ونظام السعر المزدوج، أُفرج عن طاقات السوق دون أن تُمسّ ركائز الاقتصاد.

المرحلة الثالثة «2012-2020»: في هذه المرحلة تمّت موازنة الأهداف التنموية، فتمّ القضاء على الفقر المدقع بانتشال ما يقارب 800 مليون نسمة من تحت خط الفقر، 98.99 مليون منهم بعد مؤتمر الحزب الثامن عشر. بُنيت منظومة صناعية هي الأضخم عالمياً، مع تغطية كافة السلاسل الصناعية الكبرى.

المرحلة الرابعة «2020-2025»: في ظل المواجهة مع العقوبات الأمريكية والقيود التقنية، تبنّت الصين استراتيجية «الدورتين»، وبلغت مبيعات التجزئة في 2024 أكثر من 50 تريليون يوان، بينما ساهم الاستهلاك بنسبة تفوق 65 بالمئة من النمو. أعادت البلاد هيكلة صناعتها عبر الإصلاح في جانب العرض، وأطلقت منظومة الابتكار التكنولوجي.

المرحلة الخامسة «2025 وما بعدها»: ترتفع نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى 2.5 بالمئة من الناتج المحلي، متجاوزة بعض الدول المتقدمة. التقنية الفائقة والاقتصاد الذكي أعادا تشكيل سلاسل القيمة.

الصين والابتكار المؤسسي

الركيزة الأذكى للإصلاح الصيني كانت التوازن بين «الهدم» و«البناء». ففي خصوصية تختلف عن التجربة السوفييتية، اختارت الصين الإصلاح المرحلي لتجنّب الانهيار. طبقت نموذج «التجربة ثم التعميم» بدءاً من 4 مناطق تجريبية وصولاً إلى 21 منطقة تجارة حرة، ممّا شكّل شبكة للابتكار المؤسسي.

مثال نموذجي هو نظام السعر المزدوج: بين 1984 و1991، حُفظت الأسعار المخططة للمواد الأساسية لضمان استقرار الاقتصاد الموروث، بينما أُتيح التسعير الحر للمنتَج الفائض، مما شجّع النمو التدريجي للسوق.

أدركت الصين الازدواجية الكامنة في رأس المال بين كونه أداة خلق الثروة ووسيلة تراكم طفيلي، فأنشأت نظام «الإشارة الضوئية» لرأس المال. تم إيقاف إدراج «علي بابا» في البورصة عام 2020، وأُعيد تنظيم قطاع التعليم الخاص، بهدف منع التمدد الفوضوي لرأس المال على حساب رفاهية الناس. في 2022، جرى تحويل جباية عائدات الأراضي إلى مصلحة الضرائب لتقليص اعتماد الحكومات المحلية على هذه الإيرادات.

استُحدثت آليات إعادة التوزيع مثل نموذج «الازدهار المشترك» في تشجيانغ، الذي يهدف إلى رفع الأدنى، وتوسيع الطبقة الوسطى، وإعادة هيكلة الدخول. بين 2020 و2024، فرضت الدولة غرامات احتكار تجاوزت 200 مليار يوان على شركات المنصات الرقمية، مؤكدةً أنّ رأس المال خادم للاقتصاد وأداة في يد السياسة لخدمة الشعب.

أطاحت الصين بالمنطق الغربي، وابتكرت نموذجاً تنموياً للقضاء على الفقر عبر التمكين بدلاً من الإعالة. أنشأت أكثر من 30 ألف قطاع اقتصادي محلي، وربطت التنمية بالتعليم لكسر الفقر الموروث، وأقامت منظومات تعاون بين الأقاليم، مما أعاد توزيع فرص التنمية.

ركائز النموذج الصيني

البنية التحتية أولاً: إيصال الطرق، الكهرباء، والإنترنت لكل القرى الفقيرة بنسبة 100 بالمئة. الاقتصاد المحلي: إنشاء أكثر من 3600 قرية نموذجية للإنتاج المحلي المتخصص. تمكين التعليم: برنامج «يو لو» لدعم تعليم 700 ألف طالب فقير سنوياً. بهذا أصبحت الصين مسؤولة عن أكثر من 70 بالمئة من التقدم العالمي في مكافحة الفقر.

المنطق العميق لتعزيز السوق المحلية في الصين يتمثل في «الثروة لدى الشعب». أنشأت الصين أكبر شبكة ضمان اجتماعي في العالم، حيث يغطي التأمين التقاعدي الأساسي 1.05 مليار شخص، ويستقر التأمين الصحي الأساسي عند نسبة 95 بالمئة من السكان، ما أزال القلق من مستقبل الاستهلاك لدى الأفراد. كما اعتمدت استراتيجية توسيع الطبقة الوسطى، والتي تجاوز عددها 400 مليون شخص، وأُطلقت خطط لتحسين هيكل توزيع الدخل. وجرى تعزيز العدالة الرقمية، حيث وصلت نسبة انتشار الإنترنت إلى 78.5 بالمئة، وبلغت في المناطق الريفية 58.8 بالمئة، بينما تجاوز حجم سوق التجارة الإلكترونية الريفية 3 تريليونات يوان، مما فعّل استهلاك المناطق المهمشة.

في عام 1994، أطلق عشرة من رواد الأعمال في القطاع الخاص «مشروع غوانغتساي»، ليصبح نموذجاً جديداً في مكافحة الفقر، يستند إلى «التوازن بين المصلحة والأخلاق» مع أولوية للأخلاق. روّجوا لمكافحة الفقر بأسلوب التنمية، فمشروع تربية الخنازير لشركة «نيو هوب» في إقليم ليانغشان ساعد 50 ألف أسرة على زيادة دخلها بمعدل 20 ألف يوان لكل أسرة. كما ساهمت الروح الريادية بتعزيز التنمية في المناطق الفقيرة، حيث أنشأت مجموعة وومي شبكة وطنية لجمع المنتجات الطازجة، ما ربط الإنتاج بالأسواق.

وبالأرقام، جرى تنفيذ 78 ألف مشروع باستثمارات تجاوزت 1.2 تريليون يوان، مما ساعد أكثر من 8 ملايين شخص على الخروج من الفقر. وعلى سبيل المثال، أقام رجال الأعمال في تشجيانغ مجمّعات صناعية كاملة في نينغشيا لصناعة نبات «غوجي»، مما حوّل الفلاحين إلى عمّال وشركاء في الصناعة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1235