الاستقرار لا يُبنى على الظلم: العدالة الاجتماعية شرط للسلم الأهلي
منذ سقوط سلطة بشار الأسد، أصبحت مسألة السلم الأهلي وصونه في صدارة اهتمامات السوريين، الذين تنفسوا الصعداء برحيل نظامٍ طالما استعدى الناس بظلمه وجوره. ومع انتهاء حقبة من القمع والاستبداد، بدأت تلوح في الأفق آمالٌ جديدة بمستقبل أكثر عدلاً واستقراراً. إلا أن هذه الآمال لم تخلُ من مخاوف عميقة، إذ يظل السوريون، على اختلاف آرائهم وانتماءاتهم، قلقين بشأن مستقبل بلادهم، وخاصةً فيما يتعلق بقدرتهم على الحفاظ على السلم الأهلي على المدى الطويل. ففي ظل تنوعٍ سياسي وثقافي وقومي وديني وطائفي، وتاريخٍ من التوترات التي تفاقمت بسبب الصراع، يبرز السؤال: كيف يمكن لسورية أن تبني سلماً أهلياً مستداماً يكون قادراً على تجاوز جراح الماضي وبناء مستقبل مشترك؟ وهذا السؤال ليس مجرد تحدٍ سياسي، بل هو أيضاً اختبارٌ لإرادة الشعب السوري في بناء هويته الوطنية الجامعة.
في العددين السابقين من «قاسيون»، ناقشنا موضوع العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة لمصلحة الفقراء، ليس فقط بوصفها شرطاً أساسياً للنمو الاقتصادي، بل أيضاً كأحد الركائز الرئيسية لضمان وجود حرية حقيقية في البلاد. وسلطنا الضوء على دور غياب العدالة الاجتماعية في تعميق التراجع الاقتصادي وعرقلة النمو المستدام وتهديد الحريات العامة.
في هذا المقال، ننطلق من تلك المناقشات لنحاول الإجابة عن سؤالٍ آخر لا يقل أهمية: هل يمكن ضمان السلم الأهلي المستدام دون حل مشكلة العدالة الاجتماعية؟ بمعنى آخر، هل يمكن لمجتمعٍ يعاني من تفاوتاتٍ اقتصادية حادة أن يحفظ سلمه الداخلي على المدى الطويل؟ ونعتقد أن هذا السؤال يفتح الباب أمام تحليل العلاقة الوثيقة بين العدالة الاجتماعية والاستقرار الوطني، ويطرح تساؤلاتٍ جوهرية حول الأسس الاقتصادية لبناء مجتمعاتٍ قادرة على تجاوز الصراعات والانقسامات.
غياب العدالة الاجتماعية بوصفه تهديداً للسلم الأهلي
يُشكّل غياب العدالة الاجتماعية تهديداً فعلياً للسلم الأهلي، ليس فقط بسبب آثاره الاقتصادية المباشرة، بل أيضاً بسبب تداعياته الاجتماعية والسياسية العميقة التي تُضعف تماسك المجتمعات وتُهدد استقرارها. ففي غياب نظام عادل لتوزيع الثروة والفرص تتفاقم الفجوة الطبقية وتتعمّق مشاعر الإقصاء والظلم بين الفئات المهمشة، مما يخلق بيئةً قابلة للانفجار في أي لحظة. وفي الحالة السورية، كان غياب العدالة الاجتماعية أحد الأسباب الرئيسية التي أفضت إلى انفجار الأزمة التي عصفت بالبلاد، حيث أدى تركز الثروة والسلطة في أيدي نخبة الفساد الكبير إلى تهميش الغالبية العظمى من الشعب، مما ولّد حالةً من السخط الجماعي وعدم الرضا الاجتماعي.
وأحد أخطر جوانب غياب العدالة الاجتماعية الذي لا يجري الحديث عنه كثيراً هو انهيار منظومة الحماية الاجتماعية التي توفرها الدولة. ففي الأنظمة التي تهمِّش العدالة الاجتماعية، تتراجع الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والإسكان، وتفقد الدولة قدرتها على توفير شبكة أمان اجتماعي تحمي المواطنين. وهذا بالضبط ما يمثل حطباً للحرائق المقبلة، حيث يؤدي تدهور الخدمات العامة وانهيار الاقتصاد إلى حرمان ملايين الناس من أبسط حقوقهم في العيش الكريم. وعندما تغيب الدولة عن أداء دورها في توفير الحماية الاجتماعية، يلجأ الأفراد بطبيعة الأحوال إلى البحث عن بدائل أخرى، غالباً ما تكون قائمة على الانتماءات الثانوية.
وهذا الانزياح نحو منظومات الحماية البديلة هو أحد أخطر النتائج المترتبة عن غياب العدالة الاجتماعية. فبدلاً من الاعتماد على الدولة كمظلة جامعة، يجد الأفراد أنفسهم مضطرين للانخراط في شبكات بديلة توفر لهم الحماية والخدمات التي فشلت الدولة في تقديمها. وهنا تكمن المشكلة: فمنظومات الحماية هذه تعمّق الانقسامات الاجتماعية، حيث تصبح الولاءات الثانوية هي الأساس الذي تُبنى عليه العلاقات بدلاً من المواطنة المشتركة للجميع. وهذا ما يؤدي إلى تفتيت المجتمع لجماعات متصارعة، كل منها يدافع عن مصالحه الضيقة على حساب المصلحة العامة.
وفي السياق السوري، يمكن بسهولة ملاحظة كيف أن غياب العدالة الاجتماعية أدى إلى تفاقم التوترات الثانوية، حيث تحولت المظالم الاقتصادية التي تعرّض لها السوريون على اختلاف انتماءاتهم إلى صراعات زائفة تهدد السلم الأهلي ولا تعبّر عن جوهر الصراع الحقيقي في المجتمع.
باختصار، غياب العدالة الاجتماعية لا يعني فقط حرمان الفئات المهمشة من حقوقها الاقتصادية، بل يعني أيضاً انهيار منظومة الحماية الاجتماعية التي توفرها الدولة، مما يدفع الناس إلى البحث عن بدائل يجدونها في كثير من الحالات في الطائفة والعشيرة والقومية... إلخ. وهذه البدائل، وإن كانت توفر «حمايةً» مؤقتة، إلا أنها تعمّق الانقسامات وتُضعف التماسك الاجتماعي، مما يجعل تحقيق السلم الأهلي أمراً بعيد المنال. لذلك، فإن أي محاولة جادة لبناء سلم أهلي مستدام في سورية يجب أن تبدأ بإعادة بناء منظومة العدالة الاجتماعية، بما يضمن توزيعاً عادلاً للثروة والفرص، ويعيد للدولة دورها كضامن للحماية الاجتماعية لجميع مواطنيها دون تمييز.
ألا يوجد مجال أبداً لـ«الحربقة»؟
يراهن بعض الحكام على إمكانية المناورة بين الإبقاء على غياب العدالة الاجتماعية من جهة، وفرض السلم الأهلي بالقوة من جهة أخرى، معتقدين أن بإمكانهم تحقيق الاستقرار عبر القمع الأمني والسياسات الترقيعية. غير أن التاريخ يثبت أن هذه المقاربة لا تؤدي إلا إلى نتائج مؤقتة، وسرعان ما تنهار تحت وطأة التراكمات الاقتصادية الاجتماعية التي يجرى تجاهلها، حيث أن فرض السلم الأهلي عبر الأدوات القمعية وحدها ربما يخلق هدوءاً ظاهرياً، لكنه في الحقيقة يخفي تحت السطح وقوداً قابلاً للاشتعال في أي لحظة. وعليه، فإن الاستقرار الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على القمع وحده، بل يحتاج إلى توازن بين القوة والتوافق الاجتماعي الذي لا يمكن تحقيقه في ظل تفاقم الفقر والتهميش.
وبناءً على ذلك، فإن أي نظام (مهما اعتقد أنه يبلغ من القوة والبراغماتية اللازمة لإدارة المجتمع) يتجاهل العدالة الاجتماعية ويعتمد فقط على القمع، لا يكون قد فعل شيئاً سوى احتمال تأجيل الانفجار الاجتماعي لا منعه. والتجارب التاريخية تعزز هذا الطرح بكثير من الأمثلة الحيّة، فالدول التي اعتمدت القمع كوسيلة أساسية لفرض الاستقرار، دون معالجة المظالم الاقتصادية، وجدت نفسها في نهاية المطاف أمام انفجارات شعبية لم يكن بالإمكان احتواؤها. وفي الحالة السورية ذاتها، كان من الواضح أن القمع الأمني وحده لم يكن كافياً لمنع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، لأن المعضلة الأساسية كانت تتمثل في غياب العدالة الاجتماعية، وتفاقم الفوارق الطبقية بين نخبة فاسدة استأثرت بالسلطة وأغلبية مسحوقة تعاني من التهميش. وكلما تفاقمت هذه الفجوة، زادت إمكانية تفكك السلم الأهلي، لأن المجتمع المحروم من حقوقه الاقتصادية والاجتماعية يصبح أكثر استعداداً للمواجهة والانفجار.
بالتالي، فإن المعادلة هنا واضحة ولا يمكن الفكاك منها: كلما انخفضت مستويات العدالة الاجتماعية، تراكمت تحت السطح العوامل المؤدية إلى تفجير الأوضاع، وأي استقرار يتم تحقيقه عبر القوة وحدها ليس إلا استقراراً زائفاً وهشاً، لا يلبث أن ينهار عند أول نضوج لظروف الانفجار، لأن أساس الاستقرار الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على ضمان العوامل الأمنية فقط، بل الاقتصادية الاجتماعية أولاً.
واقع العدالة الاجتماعية في سورية...
وكيف نسير في اتجاهها؟
تعيش سورية اليوم أحد أسوأ أشكال غياب العدالة الاجتماعية في تاريخها الحديث، حيث تحوّل الاقتصاد إلى خادم مطيع لأصحاب النفوذ، بينما تُهمَّش الغالبية العظمى من الشعب. وهو واقع لا يحتاج إلى أدلة أكثر من اعتراف سلطة الرئيس الهارب ذاتها، حيث أكدت الأرقام الرسمية الواردة في «الاستعراض الوطني الطوعي الثاني عن أهداف التنمية المستدامة» والصادرة عن هيئة التخطيط والتعاون الدولي أن حصة أصحاب الأجور من الناتج المحلي الإجمالي لم تتجاوز 9.2%، بينما تصل حصة أصحاب الأرباح إلى 90.8%. وهذه النسبة الكارثية ليست مجرد رقمٍ جاف، بل هي مؤشر صارخ على نظام اقتصادي قائم على استنزاف جهد العاملين لمصلحة فئة ضيقة من الفاسدين.
لإدراك حجم الكارثة، يكفي مقارنة النسبة السورية بنظيراتها العالمية: في الولايات المتحدة، معقل الرأسمالية المتوحشة، تبلغ حصة العمل من الناتج 60%، بينما يصل المتوسط العالمي لهذه النسبة إلى 53.8%، أي ما يعادل ستة أضعاف النسبة السورية. وحتى دول الجوار (لبنان وتركيا والعراق والأردن) تتفوق على سورية بنحو أربعة إلى خمسة أضعاف (حصة أصحاب الأجور من الناتج تتراوح بين 35.7% و46.3%).
وهذا التفاوت ليس وليد الصراع الأخير، بل هو نتاج سياسات ممنهجة تعود إلى النصف الثاني من القرن الماضي، حيث شهدت الأجور الحقيقية انهياراً متواصلاً. واليوم، لا يغطي الحد الأدنى الرسمي للأجور سوى 1.9% من وسطي تكاليف معيشة الأسرة السورية المكونة من خمسة أفراد.
بطبيعة الحال، لن يكون السير في طريق العدالة الاجتماعية في سورية مهمة سهلة، لكنها ليست مستحيلة إذا توفرت الإرادة السياسية الحقيقية لذلك. يجب أن تبدأ هذه العملية بإعادة توزيع الثروة بشكل عادل، عبر رفع حصة العمل من الناتج المحلي إلى ما لا يقل عن 50%، وفرض ضرائب تصاعدية عادلة، وإعادة توجيه هذه الموارد نحو تمويل الخدمات العامة. كما يتطلب الأمر إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية، من خلال إعادة بناء شبكة أمان اجتماعي تشمل تأميناً صحياً شاملاً، ودعماً مباشراً، وإسكاناً لائقاً، بالإضافة إلى إعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة لخلق فرص عمل بدلاً من الاعتماد على التبعية الاقتصادية. وأخيراً، يجب إعادة الاعتبار للدولة كضامن للحقوق، عبر وقف سياسات الخصخصة العشوائية التي تحوِّل الدولة إلى وسيطٍ لنهب المال العام، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس الكفاءة والمساواة، بدلاً من المحسوبيات والولاءات.
ليست العدالة الاجتماعية ترفاً فكرياً في سورية، بل هي شرط بقاء. فالمجتمع الذي تُستنزف مواردُه لصالح نخب ضيقة، ويُحرم 90% من أبنائه من أبسط حقوقهم، هو مجتمعٌ مهددٌ بالتفكك والانفجار المتكرر. التاريخ يُعلّمنا أن السلم الأهلي لا يُفرض بالدبابات، بل يُبنى بتوزيع عادل للثروة، وبمنظومة حقوق تُعيد للبلد قوته، وللمواطن كرامته.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1214