كان النهب وسيبقى شرارة للاستبداد: العدالة الاجتماعية كشرط للحرية
لطالما ارتبطت الحرية في الأذهان بالحقوق السياسية، مثل حرية التعبير والتجمع والمشاركة في الحياة السياسية، لكن يعاب على هذه النظرة المجتزأة أنها تتجاهل حقيقة أساسية، وهي أنه لا يمكن أن توجد حرية حقيقية في ظل غياب العدالة الاجتماعية. فحين يسيطر عددٌ قليل من الأفراد على الثروة والموارد، بينما تعاني الأغلبية من الفقر والتهميش، تصبح الحريات السياسية مجرد شعارات، لأن الفقر نفسه هو أعلى شكل من أشكال القيود المفروضة على البشر وحرياتهم. وفوق ذلك، فإن المجتمعات التي يرتفع فيها معدل الاستغلال الاقتصادي تكون أكثر عرضة للاستبداد والقمع (لا بتعبيراته الضيقة التي تقف عند حدود العصا والهراوة فحسب، بل وبمفهومه الواسع بوصفه تقييداً وكبحاً لقدرة الإنسان على التأثير بما حوله)، إذ تحتاج القوى المسيطرة إلى أدوات سياسية وأمنية للحفاظ على هيمنتها.
نقف في سورية اليوم عند نقطة انعطاف تاريخية كبرى. لقد هربت سلطة الأسد التي حكمت لعقود بقبضةٍ من حديد، مخلِّفة وراءها دماراً اقتصادياً واجتماعياً شاملاً، وتنتصب أمام الشعب السوري مهمة أساسية، هي بناء نظام جديد يستجيب لحاجات وتطلعات الشعب الذي قدَّم التضحيات الجسام من أجل إنجاز التغيير الذي لطالما حلم به.
وفي هذه اللحظة الفارقة، ترتفع بعض الأصوات مشيرةً إلى أنه ليس من الضروري أن يكون الاقتصاد القادم في البلاد قائماً على العدالة الاجتماعية، وأنه يجب أن نصبّ اهتمامنا على ضمان الحرية للسوريين بدلاً من التركيز على طبيعة الاقتصاد القادم، وهنا يبرز السؤال: هل يمكن أن تكون سورية حرة فعلاً وأن يكون السوريون أحراراً بحق، دون تحقيق العدالة الاجتماعية؟ وهل ثمة وجود لحرية سياسية مجرَّدة دون ضمان حقوق اقتصادية واجتماعية متساوية وتوزيع عادل للثروة؟
لا حرية حقيقية دون عدالة اجتماعية
الحرية ليست مجرد غياب للقيود السياسية أو القدرة الشكلية على التصويت وإبداء الرأي، بل هي القدرة الفعلية على التأثير في الحياة السياسية دون أن يكون الإنسان مقيّداً بالعوز أو الحرمان. فالإنسان لا يكون حراً حقاً إذا كان يفتقر إلى أساسيات الحياة مثل التعليم الجيد، والرعاية الصحية، والمسكن اللائق، والعمل الذي يوفّر له حياة كريمة. والحرية الحقيقية لا تعني فقط أن يكون للفرد الحق في التعبير، بل أن يمتلك القدرة الفعلية على ممارسة هذا الحق دون أن يكون أسير الفقر أو التهميش الاجتماعي. كيف يمكن لإنسان لا يجد قوت يومه، أو لا يستطيع علاج نفسه أو تعويض تعبه في العمل بحد أدنى من الأمان، أن يكون قادراً على اتخاذ قرارات حرة ومستقلة؟ الحرية لا يجب أن تكون امتيازاً لفئة ميسورة، بل يجب أن تكون حقاً مشتركاً للجميع، وإلا فإنها تتحول إلى حرية زائفة، محصورة في نطاق الشعارات والخطابات الفارغة من مضمونها الحقيقي.
عبر التاريخ، أثبتت التجارب أن تحقيق مستويات أعلى من العدالة الاجتماعية يؤدي بشكل مباشر إلى تعزيز الحريات العامة. فالمجتمعات التي استثمرت في بناء نظام تعليمي مجاني ومتطور، وتوفير خدمات صحية شاملة، وضمان حقوق العمال وتأمين الحد الأدنى اللائق من المعيشة للجميع، شهدت تحسناً واضحاً في المشاركة السياسية وارتفاعاً في مستوى الحريات العامة. والسبب في ذلك أن الاستقرار الاجتماعي الناتج عن التوزيع العادل للثروة يخفف من دوافع السلطة لاستخدام القمع كوسيلة للسيطرة، إذ تكون حاجتها إلى فرض سلطتها بالقوة أقل كلما كان المجتمع أكثر عدالة واستقراراً.
على العكس من ذلك، حين تتراكم الثروات والموارد في يد قلة، يصبح من الضروري بالنسبة لهذه الفئة حماية امتيازاتها عبر أدوات قمعية، مثل تقييد حرية الصحافة وتحجيم دور النقابات العمالية والحد من حرية التظاهر والاحتجاج. وفي مثل هذه الظروف، تصبح الحرية مجرد غطاء لاستمرار هيمنة الطبقة المسيطرة، حيث يُسمح للناس بالتعبير عن آرائهم في نطاقات ضيقة، دون أن يكون لهذا التعبير تأثير فعلي على تغيير واقعهم المعيشي أو تحسين ظروفهم الاجتماعية.
إن التحولات الاقتصادية التي شهدتها دول أمريكا اللاتينية خلال السبعينيات وبداية الثمانينيات تقدم نموذجاً واضحاً لهذه العلاقة بين غياب العدالة الاجتماعية وصعود القمع السياسي. فقد أدى التحول المفاجئ نحو اقتصاد السوق، دون أي ضوابط لحماية الناس، إلى تفاقم الفجوة أكثر بين الأغنياء والفقراء، مما ولّد درجة عالية من حالة عدم الرضا الاجتماعي. ونتيجة لذلك، لجأت الأنظمة الحاكمة في تلك الدول إلى تبني سياسات قمعية صارمة لحماية مصالح النخبة الاقتصادية. حيث قيّدت الصحافة وسُحقت الاحتجاجات العمالية وجرى استخدام العنف الأمني لضمان استمرار هيمنة الشركات الكبرى والمستثمرين الأجانب على الموارد الوطنية.
غياب العدالة الاجتماعية يستدعي الاستبداد بالضرورة
في أي مجتمع يشهد تفاوتاً كبيراً في الثروة والفرص، يكون الاستبداد السياسي أداة حتمية لحماية هذا الواقع. فحين تمتلك أقلية صغيرة معظم الموارد، بينما تعيش الأغلبية في فقر وتهميش، فإن وجود حرية حقيقية تتيح للناس التعبير عن غضبهم وتنظيم أنفسهم للمطالبة بحقوقهم يصبح خطراً على هذه الأقلية الطبقية. لذلك، لا يمكن للأنظمة التي تعتمد على الاستغلال الاقتصادي أن تسمح بنظام سياسي ديمقراطي فعلي. لهذا السبب، تلجأ الأنظمة القائمة على اللاعدالة الاجتماعية إلى بناء أجهزة قمعية قوية، ليس فقط لكبح المعارضين السياسيين، بل وأيضاً لمنع أي محاولة لتغيير الواقع الاقتصادي القائم.
لهذا، فإن الاستبداد ليس مجرد وسيلة طارئة تلجأ إليها السلطة في أوقات الأزمات، بل هو جزء أساسي من بنية الأنظمة الاقتصادية غير العادلة. فالأنظمة التي تقوم على التفاوت الطبقي الكبير لا تستطيع الاستمرار دون ضبط المجتمع بالقوة، لأن أي استرخاء في القبضة الأمنية أو فتحٍ لمساحات الحرية يمكن أن يؤدي إلى انهيار المنظومة بأكملها.
ولذلك، فإن النخب في مثل هذه الأنظمة تعمل دائماً على إضعاف الطبقات الشعبية، سواء عبر تقليص فرص التعليم الجيد، أو خصخصة الخدمات الأساسية، أو تشجيع ثقافة الاستهلاك والديون التي تُبقي الناس تحت ضغط مستمر، مما يمنعهم من التفكير في التغيير أو التنظيم لمواجهته. وفي الوقت نفسه، يتم تعزيز أدوات القمع لضمان أن أي محاولة للخروج عن هذا الإطار ستُقابل بردع فوري.
من المستحيل أن يوجد نظام اقتصادي ظالم دون أن يتحول إلى نظام سياسي قمعي (سواء تقليدي بالعصا، أو ناعم بالوسائل الأكثر تطوراً)، والعكس صحيح. فالحرية السياسية والعدالة الاجتماعية مترابطتان: إذا فُرضت قيود على العدالة الاجتماعية، فلا بد أن تُفرض قيود موازية على الحريات السياسية، لأن السماح بحرية حقيقية في ظل تفاوت اقتصادي حاد سيؤدي في النهاية إلى المطالبة بتغيير هذا التفاوت.
ولهذا السبب، فإن كل نظام قائم على الظلم الاجتماعي يواجه دائماً خيارين: إما تصحيح أوضاعه الاقتصادية لتحقيق قدر من التوازن، أو اللجوء إلى القمع لحماية النهب القائم. وبما أن تصحيح الأوضاع يعني التخلي عن الامتيازات وإعادة توزيع الثروة، فإن الخيار الأسهل والأكثر شيوعاً هو تعزيز أدوات الاستبداد، لضمان أن أي دعوة للعدالة الاجتماعية ستُواجه بالقمع قبل أن تتحول إلى حركة منظمة قادرة على فرض التغيير.
كيف تعزز الدولة العادلة الحرية بدلاً من قمعها؟
يدعي البعض بأن السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية يمنح الدولة تلقائياً سلطات واسعة مما يقود إلى نظام شمولي يحد من الحريات الفردية، وهو ادعاء يقوم على افتراض أن أي تدخل حكومي هو بالضرورة شكل من أشكال القمع، وهو افتراض يتجاهل طبيعة المجتمعات ودور أجهزة الدولة في العالم. فالحرية الحقيقية لا تتحقق بمجرد غياب التدخل الحكومي، بل تتطلب توفير الشروط المادية التي تضمن قدرة الأفراد على الاستفادة من حقوقهم. إذا كانت الدولة توفر التعليم والصحة والإعانات الاجتماعية، فهي لا تفرض قيوداً على الحريات، بل تزيل العقبات التي تمنع الفئات المهمشة من ممارسة حريتها. وبالمقابل، فإن غياب العدالة الاجتماعية لا يؤدي إلى مزيد من الحرية، بل إلى تعزيز الهيمنة الاقتصادية لنخبة صغيرة تمتلك الموارد وتتحكم في مصائر الناس، مما يخلق نوعاً آخر من الاستبداد، وهو استبداد السوق الذي لا يخضع لأي مساءلة ديمقراطية. وفي مثل هذه الظروف، تصبح الحرية امتيازاً لفئة قليلة، بينما يُترك الباقون في حالة من العجز الدائم عن تقرير مصيرهم بسبب الفقر والحرمان.
والخوف من تدخل الدولة في الاقتصاد والسياسات الاجتماعية يعكس رؤية اختزالية للدولة باعتبارها مجرد أداة قمع، دون أخذ ضرورتها الناظمة لحياة الناس ومعيشتهم بعين الاعتبار، وأنها يمكن أن تكون واحدة من أدوات تحقيق العدالة وحماية الحريات بدلاً من تقييدها. والملفت أنه حتى الفلاسفة الليبراليون الكلاسيكيون مثل كانط أقروا بأن الدولة لها التزام قانوني وأخلاقي بضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية، لأن الفقر المدقع والتهميش ليسا مجرد مشكلات اقتصادية، بل هما عوائق مباشرة أمام ممارسة الحرية السياسية والمدنية. فالشخص الذي لا يستطيع الحصول على تعليم أو رعاية صحية أو عمل لائق لا يتمتع بحرية فعلية، حتى لو لم يكن هناك قانون يمنعه رسمياً من التصويت أو التعبير عن رأيه. في المقابل، حين تضمن الدولة حقوقاً اجتماعية أساسية مثل التعليم المجاني والرعاية الصحية الشاملة، فإنها تعزز استقلالية الأفراد وقدرتهم على المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية، بدلاً من تركهم رهينة لقوى السوق التي لا تهتم سوى بالربح.
أما الادعاء بأن سياسات العدالة الاجتماعية تؤدي إلى الشمولية، فهو ادعاء ينكر الحقيقة القائلة بأن الشمولية الحقيقية لا تأتي من فرض سياسات عادلة اجتماعياً تعيد توزيع الثروة لمصلحة الناس، بل من خلق نظام اقتصادي غير عادل يجعل الطبقات الفقيرة والمهمشة تخضع بالكامل للنخب الفاسدة. وحين يُترك السوق وحده ليقرر توزيع الثروة، فإنه لا يقود إلى الحرية، بل إلى تعميق التفاوتات، مما يدفع الدولة في النهاية إلى تبني سياسات قمعية لحماية النظام القائم ومنع أي محاولة لإصلاحه. لذلك، فإن رفض العدالة الاجتماعية بدعوى الحفاظ على الحرية الفردية ليس سوى دفاع عن حرية الأقوياء في استغلال الضعفاء.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1213