لماذا تلوم أوروبا ترامب على فشلها الاقتصادي؟
ولفغانغ مونشاو ولفغانغ مونشاو

لماذا تلوم أوروبا ترامب على فشلها الاقتصادي؟

إنّ لهم تاريخاً عريقاً، لكنهم يعتمدون نماذج أعمال قديمة، ولهذا يشعرون بعدم الارتياح في العالم الرقمي. كما أنهم يتقدّمون في السنّ. هذه هي حال بعض وسائل الإعلام التقليدية وأكبر الدول الأوروبية. إنهم يجدون أنفسهم في حالة من الضياع في قرن لا يسير وفق رغباتهم. وهناك أمر آخر يشتركون فيه: إنهم يلقون باللوم في كلّ هذا على دونالد ترامب.

ترجمة: أوديت الحسين

كتبت عن الشؤون الأوروبية في العديد من وسائل الإعلام منذ منتصف ثمانينيّات القرن الماضي. كانت قصة الاتحاد الأوروبي أشبه برحلة في قطار أفعواني، لكنها الآن تمرُّ بمرحلة هبوط طويلة. ليس من الغريب أن يكون الحدث السياسي الأهم بالنسبة لأوروبا هذا الشهر هو تنصيب الرئيس الأمريكي. ليس ترامب هو السبب المباشر لأيٍّ من المشاكل التي تعاني منها أوروبا، لكنه الشخص الذي سيكشف نقاط ضعفها، ولهذا السبب يخشونه.
يخشونه، من بين أمور أخرى، بسبب سياساته التجارية التي قد تتسبب في أضرار اقتصادية كبيرة لهم. قد يفرض تعريفات جمركية شاملة على السلع الصناعية، كما اقترح خلال حملته الانتخابية. أو قد يستهدف الصين وألمانيا تحديداً. أو ربما يحاول عقد صفقات. لكنه، بطريقة أو بأخرى، سيحاول تحصين أمريكا ضد الفوائض التجارية الصينية والألمانية. إنّ قانون خفض التضخم الذي أقرته إدارة بايدن دفع بالفعل بعض الشركات الصناعية الأوروبية إلى نقل جزء من إنتاجها إلى الولايات المتحدة. يمكن أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى النتيجة ذاتها، إذ قد تسرّع المرحلة التالية من تراجع الصناعة الأوروبية. قد يكون من الصعب التنبؤ بتصرفات ترامب، لكن هذا السيناريو واقعي جداً.
ومع ذلك، نحن نعلم أن ترامب لا يبدي اهتماماً كبيراً بالعلاقة عبر الأطلسي، فالولايات المتحدة لم تعد قادرة على المحافظة على الموقع المهيمن الذي لعبته سابقاً في تلك المنطقة. بالتالي، فإن التهديد الأكثر إلحاحاً بالنسبة لأوروبا سيكون رد فعله تجاه الحرب في أوكرانيا. من الناحية الاقتصادية، لا يمكن للأوروبيين مواصلة دعم زيلينسكي من دون مساعدة الولايات المتحدة. اعترف المستشار الألماني، أولاف شولتز، صراحةً بأنه غير مستعد للتضحية بالإنفاق الاجتماعي من أجل تمويل المزيد من الأسلحة لأوكرانيا، وهو، في خضم حملته الانتخابية، يرفض المقايضات بين السياسات الاجتماعية والدفاعية. قبل ثلاث سنوات، كانت القصة مختلفة تماماً عندما أعلن عن Zeitenwende أيْ «تغيير العهد». لكن اتضح أنّ هذا التغيير كان مرهوناً بالسعر المناسب.
قد يكون القادة الأوروبيون الآخرون أكثر دبلوماسية من شولتز، لكنهم يواجهون القيود السياسية والاقتصادية ذاتها. خذ إيمانويل ماكرون على سبيل المثال؛ يتميز الرئيس الفرنسي بخطاب مختلف تماماً عن شولتز، لكن موارد بلاده أيضاً محدودة - فلا تستطيع فرنسا تقديم دعم عسكري أو مالي ذي معنى. وبما أن روسيا تمتلك الأفضلية في الحرب منذ فترة، فإن تغيير الوضع يتطلب تضحية مالية كبيرة من جميع دول الاتحاد الأوروبي، ومن ترامب أيضاً، وهو أمر لا أحد عاقل يتوقّع حدوثه.
الأكثر احتمالاً هو أن يحاول ترامب فرض اتفاق سلام على أوكرانيا. لكن هذا من شأنه أن يكشف نفاق أوروبا وضعفها في قدرتها على الوفاء بوعودها: ضمانات الأمن بعد انتهاء الحرب، وتمويل إعادة إعمار أوكرانيا، وتمهيد الطريق أمام انضمامها المستقبلي إلى الاتحاد الأوروبي. السيناريو المحتمل هو أن تجد أوكرانيا نفسها، مثل تركيا من قبلها، عالقة في قاعة الانتظار الخاصة بالاتحاد الأوروبي، حيث لا يوجد مخرج سوى الباب الذي دخلت منه. لا أود التكهن بالاستنتاجات التي قد يصل إليها الناخبون الأوكرانيون عندما يدركون هذه الحقيقة العميقة عن أوروبا الغربية: إنها أصبحت مكاناً يعج بالكلمات الكبيرة والوعود غير المنجزة.
من اللافت، والغريب ربما، أن يختار شولتز وماكرون هذا التوقيت بالذات لإدخال بلديهما في أزمات سياسية. مغامرة ماكرون الطائشة بالدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة في الصيف الماضي جعلت فرنسا عالقة في حالة من الشلل السياسي تكافح للخروج منها. لم يكن ماكرون نفسه يكترث كثيراً للميزانية التي لم تمر، لأنه كان يؤمن بأن النمو الاقتصادي كفيل بسد العجز. لكن الحال لم تعد كذلك، والسياسة الفرنسية في الوقت الراهن تتجاهل الحسابات المالية. حتى أزمة ديون سيادية، وهو سيناريو محتمل، قد لا تكون كافية لإجبار السياسيين على مواجهة الواقع.
أما في ألمانيا، فقد فجّر شولتز أزمة سياسية في اليوم ذاته الذي انتُخب فيه ترامب، عندما أنهى الائتلاف الحكومي بسبب خلاف مالي مع وزير ماليته. صحيح أن ألمانيا لديها نسبة دين عام أقل من فرنسا، لكن مشكلاتها الاقتصادية أكثر خطورة. تراجعها الصناعي مستمر منذ فترة طويلة، ونموذجها الاقتصادي القائم على التصدير لم يعد يعمل كما في السابق. المسألة لا تتعلق فقط بالغاز الروسي أو بالطاقة النووية، إنها قصة بلد أخفق في الاستثمار والابتكار خلال العقد الماضي، واعتمد بشكل مفرط على عدد قليل من الصناعات. يعتمد النموذج الاقتصادي الألماني على تحقيق فوائض تجارية دائمة، لكن الصين أصبحت الآن منافساً قوياً، والولايات المتحدة، في ظل حكم ترامب، لم تعد شريكاً يمكن الاعتماد عليه لامتصاص تلك الفوائض. ومع اقتراب الانتخابات الألمانية في شباط، أجد صعوبة في إيجاد سياسيين كثر يركزون على أيٍّ من هذه القضايا.
كل هذا يجري في ظلّ مشهد مقلق. وفقاً للسردية السياسية السائدة حالياً، يتعرض الاتحاد الأوروبي لهجوم من الشعبويّين والفاشيّين. ولهذا، تمّ الترحيب بقرار المحكمة الدستورية الرومانية بإلغاء الانتخابات الرئاسية، بحجّة أنّ الناخبين تأثّروا بشكل غير عادل بروسيا عبر تيك توك، أو كما يفضل البعض القول: «فاز الشخص الخطأ». والآن، يتّهمون إيلون ماسك بمحاولة فعل الشيء نفسه في ألمانيا، بعد دعمه لحزب البديل من أجل ألمانيا.
كيف وصلت أوروبا إلى هذا التراجع؟ أذكر كتلة أكثر ثقة في أواخر الثمانينيّات وأوائل التسعينيّات. كان إطلاق اليورو عام 1999 بمثابة الذروة في مسار التكامل الأوروبي. بل إنني تساءلت آنذاك عمّا إذا كان يمكن أنْ يحلّ محلّ الدولار كعملة عالمية رئيسية. ثم جاء التوسع نحو وسط وشرق أوروبا بعد خمس سنوات، ليُعتبر انتصاراً سياسياً آخر. لكن بعد ذلك، بدأ التراجع. فقد أدى رفض فرنسا وهولندا للمعاهدة الدستورية الأوروبية عام 2005 إلى إنهاء أحلام تحول الاتحاد الأوروبي إلى دولة فيدرالية، ثم كشفت الأزمة المالية العالمية عن ضعف النظام المصرفي الأوروبي. أمّا أزمة ديون منطقة اليورو السيادية، فقد أظهرت أسوأ ما في الجميع. حتى إنّ سياسيّين ألمانيّين اقترحا أنْ تبيع اليونان جزيرة أو اثنتين لسداد ديونها، وتبعت ذلك إهانات أخرى. فشل الاتحاد الأوروبي في حل الأزمة سياسياً، وكان تدخل البنك المركزي ضرورياً لإنقاذ الموقف. بالنسبة لي، كان هذا هو اللحظة التي مات فيها حلم التكامل الأوروبي.
في الوقت الذي يركز فيه الاتحاد على الاتجاه الخطأ، تنهار النماذج الاقتصادية في أوروبا. يتجلى هذا بشكل واضح في ألمانيا، لكن هناك إشارات تحذيرية أيضاً في المملكة المتحدة وفرنسا. فقد كانت المملكة المتحدة المركز المالي للاتحاد الأوروبي وأحد أكبر مصدري الخدمات، وهو نموذج عمل كان ناجحاً حتى الأزمة المالية العالمية. لم يكن «بريكست» هو ما وجه الضربة القاضية لنمو الإنتاجية في المملكة المتحدة، بل كانت الأزمة المالية، التي لم تتعافَ منها البلاد بعد. بالطبع، كان لكل دولة أوروبية نماذجها الاقتصادية الخاصة، وكلها انهارت لأسباب مختلفة. لكن العامل المشترك بينها جميعاً: عدم قدرتها على إعادة ابتكار نفسها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1213