نقاش اقتصادي «هادئ» مع حكومة تسيير الأعمال المؤقتة
ما إن بدأت حكومة تسيير الأعمال المؤقتة في سورية مباشرة مهامها حتى تصدّرت الساحة الاقتصادية بسلسلةٍ من القرارات والتصريحات التي أثارت جدلاً واسعاً في المجتمع السوري. وبينما تباينت الآراء والتصورات الأولية حول تقييم هذه الخطوات، برزت أصوات تدعو إلى «التروي وعدم الاستعجال في الهجوم على الحكومة»، مشيرةً إلى «طبيعتها المؤقتة وحداثة تجربتها في التعامل بوصفها حكومة لقطاع جغرافي أكبر بكثير من حدود إدلب». ورغم الملاحظات الكثيرة على هذا الطرح، سنحاول في هذا المقال أن نكتفي بتقديم «نقاشٍ هادئ» لهذه الخطوات، مفترضين حسن النية، وأن من قام بها لا يدرك أبعادها الكاملة.
نقطة الانطلاق التي ينبغي التذكير بها دائماً هي أنه لا يمكن إغفال أن القرارات الاقتصادية، مهما كانت طبيعتها وأياً كانت دوافعها، تترك أثراً واضحاً ومباشراً على حياة المواطنين اليومية، وبشكلٍ خاص في ظل الظروف الاستثنائية التي تشهدها سورية اليوم. فكل قرار اقتصادي وكل تصريح اقتصادي يترجم سريعاً إلى تأثيرات ملموسة تطال معيشة الشعب السوري، مما يجعل المواطنين في مواجهة مباشرة مع تداعيات هذه القرارات والتصريحات.
مغالطة قديمة عنوانها: «سورية كانت اشتراكية»!
حتى الآن، لم تقم حكومة تسيير الأعمال المؤقتة بالإعلان عن برنامجٍ واضح أو خطة شاملة توضح رؤيتها الاقتصادية أو السياسية للفترة المقبلة. لكن يمكن استنتاج بعض ملامح هذا البرنامج من التصريحات التي أدلى بها أعضاء الحكومة في مناسبات متعددة.
في حوارٍ مع «التلفزيون العربي» يوم الإثنين 16 كانون الأول 2024، قال وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال السورية، باسل عبد الحنان، إن الإجراءات الاقتصادية للحكومة «تشمل التحول من منظومة اشتراكية شمولية فاسدة إلى نظام اقتصاد حر تنافسي ومفتوح». وأعقب ذلك تصريحٌ لوزير النقل في الحكومة ذاتها، بهاء الدين الشرم، في مقابلة مع صحيفة «النهار» قال فيه: «معروف عن النظام السوري أنه كان نظاماً اشتراكياً لا يشجع الخصخصة، بالعكس يعمل على عكس النظام الرأسمالي».
يحمل مثل هذا النوع من التصريحات مجافاة كبرى للحقيقة، وتغافلاً عن أبسط البديهيات. فالحديث عن وجود منظومة فاسدة شاملة في البلاد هو حديث محق، وكنا قد خصصنا في صفحات «قاسيون» مئات إن لم يكن آلاف المقالات التي كشفت عن مكامن النهب الكبير الذي يضرب بنية الاقتصاد السوري وفي مفاصله جميعها. لكن الحديث عن وجود «منظومة اشتراكية» في سورية سابقاً هو ضرب من الخيال يستند إلى نقطتين مضللتين:
الأولى: هي أن الحزب الحاكم في سورية، الذي «قاد البلاد» لعقود، كان يحمل في اسمه صفة «الاشتراكي»، مما يوحي ظاهرياً بأن النظام السياسي والاقتصادي للدولة يقوم على أسس اشتراكية. ولكن الواقع يظهر أن هذه الصفة لم تكن سوى شعار سياسي دعائي زائف وليست تعبيراً عن تطبيق فعلي لمبادئ الاشتراكية لا من قريب ولا بعيد.
النقطة الثانية التي تُستخدم لدعم هذا الزعم هي الدور الكبير الذي لعبه جهاز الدولة في الاقتصاد وعملية الإنتاج في مراحل معينة. وهنا أيضاً مغالطة كبرى، فالاقتصاد السوري كان اقتصاداً تهيمن عليه علاقات الإنتاج الرأسمالية التي يغلب عليها الطابع الطفيلي، ولا علاقة لحجم قطاع الدولة، سواء كان كبيراً أو صغيراً، بمسألة هوية الاقتصاد. والسؤال الأساسي الذي يحدد هوية هذا الاقتصاد ليس أين يتم إنتاج الثروة فيه، بل كيف يتم توزيعها بين مختلف الطبقات. وإذا انطلقنا من نمط توزيع الثروة في سورية (وهو في أحسن الحالات 90% منه لأصحاب الربح، و10% لأصحاب الأجور) وأضفنا إليه التخلف والتشوه في شكل علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة، فسوف نصل إلى نتيجة بسيطة، وهي أن ما يسود بلادنا من الناحية الاقتصادية هو اقتصاد السوق المشوه.
بهذا يتضح أن الحكومة الحالية تكرر عملياً ادعاءات السلطة الساقطة بأن المشكلة الاقتصادية في سورية ناتجة عن الهوية «الاشتراكية» المزعومة للاقتصاد السوري، وفي هذا مجافاة للحقيقية.
أسطوانة «اقتصاد السوق الحر» تعود مجدداً
حديث حكومة تسيير الأعمال المؤقتة اليوم عن التوجه نحو «اقتصاد السوق الحر» هو استمرار لمسار بدأته السلطة الساقطة منذ عقود، عندما تبنت سياسات تحرير التجارة الخارجية وتقليص القيود على حركة رؤوس الأموال. هذه السياسات التي تم ترويجها للشعب السوري على أنها خطوات ستجذب الاستثمارات الأجنبية وترفع من معيشة المواطنين، كل ما فعلته أنها جاءت بنتائج كارثية على القطاعات الإنتاجية الوطنية.
ويذكر السوريون كيف شهدت البلاد في ظل هذه السياسات فتحاً واسعاً لأسواقها أمام السلع المستوردة، مع تقليص الرسوم الجمركية. وأدى ذلك إلى إغراق السوق المحلية بمنتجات أجنبية، وفي معظم الحالات أرخص من مثيلاتها السورية. هذا الفرق في الأسعار لم يكن ناتجاً عن الكفاءة أو الجودة دائماً، بل عن دعم حكومات الدول المصدرة لهذه المنتجات، في وقت كانت السياسات السورية تقلص الدعم للإنتاج المحلي، ما جعل المنافسة غير متكافئة. وبهذا، سرعان ما هيمنت المنتجات المستوردة، المدعومة من دولها، على السوق السورية، بينما عجزت الورش والمصانع السورية الصغيرة والمتوسطة عن الاستمرار في الإنتاج، مما أدى إلى تراجع هذا القطاع الحيوي بشكل كبير.
ورغم وعود السلطة السابقة بأن هذه السياسات ستجذب الاستثمارات الأجنبية وتحفز النمو الاقتصادي، إلا أن الواقع كان مختلفاً تماماً. لم تتحقق تلك الاستثمارات الموعودة، بل تراجعت القطاعات الإنتاجية الأساسية، وزادت معدلات البطالة، وارتفعت معدلات الاعتماد على السلع المستوردة. ما حدث فعلياً هو تعزيز الطابع الريعي للاقتصاد السوري، وتسريع تكديس الثروات في جيوب القلة الناهبة للشعب السوري.
واليوم، عندما تُطرح فكرة اعتماد اقتصاد السوق الحر كحل في سورية، ينبغي العودة إلى التجربة السابقة والنظر في نتائجها. فبدلاً من دعم القطاعات الإنتاجية الوطنية أو وضع استراتيجيات لحمايتها، جرى تدميرها باسم الانفتاح، مما يجعل تكرار مثل هذه السياسات خطراً على مستقبل الاقتصاد السوري ومعيشة السوريين.
بعيداً عن الكاميرات... يجري إنهاء الدعم الاجتماعي تماماً
بينما كان الشعب السوري يعبر عن فرحه برحيل السلطة السابقة، التي لطالما ارتبطت سياساتها بالنهب الاقتصادي، بدأت مرحلة جديدة من التحديات المعيشية. ففي خضم هذا الفرح الشعبي والتفاؤل بمستقبل أفضل، جاءت القرارات الجديدة المتسارعة لإنهاء الدعم الحكومي للسلع الأساسية ورفع أسعارها بشكل كبير.
فقد تضاعف سعر الخبز، المادة الأساسية لحياة أغلب السوريين، بنسبة 900% ليصل إلى 4000 ليرة سورية، في حين ارتفعت أسعار المحروقات بشكل يهدد جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية. فقد بلغ سعر لتر المازوت 17476 ليرة سورية، والبنزين العادي 19720 ليرة، بينما وصل البنزين أوكتان 95 إلى 21930 ليرة سورية. وأضافت هذه الأرقام أعباء جديدة على الأسرة السورية التي تعاني أصلاً من انخفاض الدخل وارتفاع تكاليف الحياة.
ولم تتوقف تأثيرات هذه السياسات عند أسعار السلع فقط، بل امتدت لتطال كافة مناحي الحياة. حيث ارتفعت تكاليف النقل والخدمات، وباتت أسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية تحت التهديد نتيجة الارتفاع الكبير في تكاليف الإنتاج والتوزيع. كما وستؤثر هذه القرارات بشكل مباشر على قطاع الزراعة والصناعة، حيث يعتمد الإنتاج بشكل كبير على المحروقات.
وهنا لا بد من السؤال: ما الذي منع حكومة تسيير الأعمال المؤقتة من الاستمرار بما تبقى من منظومة دعم كانت قد أجهزت عليها السلطة السابقة حتى باتت حدود تغطيتها شحيحة جداً؟ وإن كان هناك من سببٍ منطقي، فلماذا لم يجر كشفه أمام السوريين ومصارحتهم به؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1206