سورية التي نحب ونريد: حول الرؤية الاقتصادية لحزب الإرادة الشعبية
مرّت سورية خلال العقود الماضية بمساراتٍ اقتصادية متباينة، تراوحت بين رأسمالية الدولة والتوجه نحو ليبرالية اقتصادية متوحشة، وأسفر كلاهما عن أزمات عميقة وتراجعات اقتصادية كان الشعب السوري هو الضحية الأولى لها. ومع رحيل السلطة السابقة اليوم، لم تعد هناك فرصة للعودة إلى الوراء، بل أصبح لزاماً على السوريين صياغة نموذج اقتصادي جديد يتجاوز سياسات الماضي، ويتوجه نحو بناء عدالة اجتماعية حقيقية ونمو اقتصادي مستدام. وليس خافياً على أحد أن الإشارات الأولى حول «الشكل الاقتصادي» للحكومة الجديدة التي تشكلت على نحو متفرد قد أثارت الاستياء لدى غالبية السوريين التي تدرك أن الحديث حول «تحوّل سورية نحو اقتصاد السوق الحر» لا يعني الاستمرار الفعلي للسياسات الاقتصادية للسلطة السابقة فحسب، بل وتسريعها كذلك.
يقدم برنامج حزب الإرادة الشعبية (الذي تم إقراره عام 2013 وأدخلت بعض التعديلات عليه في عام 2023، وربما يتم إدخال تعديلات أخرى تمهيداً لإقرارها في المؤتمر القادم للحزب) خارطة طريق شاملة لتجاوز السياسات الاقتصادية الاجتماعية وتبعاتها الكارثية التي تعمقت في ظل السلطة السابقة. في هذه المادة، سنستعرض رؤية الحزب للجانب الاقتصادي الاجتماعي في سورية ونتائجه خلال العقود الماضية، وكيف يمكن للنموذج الجديد الذي يقترحه الحزب أن يقدم حلاً جذرياً وشاملاً.
إرث الأزمات الاقتصادية في سورية
في ظل السياسات الاقتصادية السابقة، كانت سورية ساحة لتجارب لم تحقق لا العدالة ولا التنمية الحقيقية. وبدأ هذا الإرث مع ما أُطلق عليه عملية «التحويل الاشتراكي»، الذي لم يكن اشتراكياً فعلياً، بل رأسمالية دولة مركزية اعتمدت على تدخل قوي للدولة دون تحقيق جوهر الاشتراكية الحقيقي.
وفي التسعينيات، مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الدعم الخارجي، تحولت سورية نحو ليبرالية اقتصادية، كانت الأكثر تدميراً، حيث اعتمدت على الوهم بجذب الاستثمارات الخارجية مع تحرير غير مدروس للأسواق والقطاعات الاقتصادية.
وعليه، يمكن تلخيص بعض نتائج النموذجين الاقتصاديين السابقين، على النحو التالي:
- تراجع الإنتاج الحقيقي: انخفضت مساهمة القطاعات الإنتاجية الحقيقية كالزراعة والصناعة بشكل كبير. وأُهملت التنمية في الريف والمناطق الزراعية والصناعية لصالح قطاعات ريعية تعتمد على النفط والخدمات التي تستفيد منها طبقات محدودة من السكان. (كانت الزراعة، التي مثلت حوالي 25% من الناتج المحلي الإجمالي في التسعينيات، تمثل أقل من 10% بحلول عام 2010. وانخفض معدل تكوين رأس المال الثابت الإجمالي في الصناعات التحويلية من 27% في عام 2005 إلى 21% في عام 2009، مما دل على تراجع فعلي لدور الدولة في هذا القطاع الحيوي).
- الفساد البنيوي: استُغلت موارد الدولة لخدمة شبكة من نخب الفساد الكبير، وتم تفكيك القطاعات الإنتاجية لصالح مصالح فردية أو جماعية مرتبطة بالفساد الكبير.
- التوزيع غير العادل للثروة: سيطرت أقلية طبقية من السكان على النصيب الأكبر من الثروة، حيث حصل 10% فقط من السوريين على 80% من الدخل الوطني، بينما عاش 90% من السكان على الفتات. ومع تفاقم الوضع خلال سنوات انفجار الأزمة، ارتفعت الفجوة بشكلٍ هائل يصعب تقديره.
- تزايد معدلات الفقر والبطالة: بسبب السياسات النيوليبرالية للسلطة السابقة، شهدت البلاد انهياراً في فرص العمل، وارتفاعاً ضخماً في البطالة، خصوصاً بين الشباب، مما خلق حالة من الإحباط والغضب الاجتماعي.
حول النموذج الجديد المطلوب: إلام يدعو «الإرادة الشعبية»؟
فيما يلي، نقتبس من برنامج حزب الإرادة الشعبية دعوته إلى:
نموذجٌ جديد شعارُه الأول هو: «أعمق عدالة اجتماعية لأعلى نمو اقتصادي»، أيْ أنّ أيَّ نموٍّ لاحق لم يعد ممكناً دون إعادة توزيع جدّيةٍ للثروة الوطنية لمصلحة القوى المنتِجة بالتحديد. حيث تتوزَّع الثروة (الدخل الوطني) حالياً على شكل (80% لأصحاب الأرباح الذين لا يتجاوزون 10% من السكان، و20% لأصحاب الأجور الذين يشكّلون حوالي 90% من السكان) وكسر هذا الشكل من التوزيع وتصحيحه ليصبح كخطوة أولى بحدود (50%، 50%) يحتاج زمناً بين 5 و7 سنوات ضمن دورٍ قويٍّ ذكيٍّ ومرنٍ للدولة، مضبوطٍ بأعلى درجات الرقابة الشعبية.
إنّ الملامح العامّة للنموذج الاقتصادي الجديد والتي يجب استكمال تفاصيلها هي:
- التوجُّه شرقاً، بمعنى تعديل العلاقات الاقتصادية مع الغرب الاستعماري تعديلاً جذرياً، لمصلحة علاقات اقتصادية تصون الموقفَ السياسي السوري، وتسمح للاقتصاد السوري بتطوير الإنتاج الحقيقي.
- حلّ مشكلات الفقر والبطالة القديمة والمستجدة، إضافةً إلى عملية إعادة الإعمار، يتطلّب تحقيقَ أرقام نموٍّ لا تقلُّ عن 10% سنوياً. ولتحقيق رقمِ نموٍّ بهذا الحجم يجب رفع مستوى التراكم السنوي في القطاعات الإنتاجية الحقيقية إلى حدود 30% من الدخل الوطني، ومستوى العائديّة إلى 33% كحدٍّ أدنى.
- أمّا تمويل عملية إعادة الإعمار فيجب أن يتجه نحو مَصدرَين أساسيَّين هما: مطالبة الدول التي لعبت أدواراً في تعميق الأزمة السورية بالتعويضات من جهة، ووضعُ اليد على الثروات المنهوبة من الفساد الكبير من جهة ثانية، ويأتي بعد ذلك الاقتراضُ من الخارج في حال الضرورة القصوى، وضمن معايير السيادة الوطنية.
- وضعُ يد الدولة على شركات القطّاع الخاصّ ذات الريعية العالية، وبشكلٍ خاصّ شركات الاتصال الخليوي، وطردُ الاستثمارات الخاصّة من القطاعات السيادية كالمرافئ، ووضع يد الدولة على شركات النفط والغاز وكلّ الثروات الباطنية، إنتاجاً ونقلاً وتسويقاً، لتشكّلَ مداخيلُها داعماً أساسياً في عملية إعادة الإعمار والاستثمار اللاحق.
- ربطُ الأجور بالأسعار باعتماد سلّة استهلاك حقيقية تجري مراقبتها وتعديل الأجور على أساسها بشكل دوريٍّ لا يزيد دَورُه عن ثلاثة أشهر، بحيث يبدأ سُلّم الأجور عند الحدّ الأدنى لمستوى المعيشة، الذي يحدِّدُه سعرُ سلة الاستهلاك، وتمويلُ الزيادات من مصادر حقيقية غير تضخّمية.
أما برنامج رفع عائدية الاقتصاد السوري، فإنه يتضمن:
- تصنيع المواد الخام إلى الحد الأقصى الممكن محلّياً، ومنع تصديرها بشكلها الخام نهائياً.
- مشاريع عملاقة تتولّى تمويلَها وإدارتها الدولة.
- تفعيل الميزات المطلَقة في الاقتصاد السوري، وتركيز البحث العِلميّ عن ميزات مطلقة جديدة لما لها من ريعية عالية جداً.
- حماية البيئة والتعامل معها بوصفها المصدر الأساسي لكل الميزات المطلقة.
- بؤر تحفيز للنمو الاقتصادي في البادية السورية.
- تنظيم مجمّعات زراعية- صناعية في كلّ مناطق البلاد، بحيث تتشابك مدخَلاتها ومخرجَاتها.
دعم القطاع الزراعي من حيث القروض والتسهيلات في مجال الوقود والأسمدة والمبيدات والبذار ووسائل الإنتاج. - تفعيل معالجة مياه الصرف الصحي عبر عدد كبير من المعالِجات الصغيرة، وتعميمُ سياسات رِيٍّ متطوِّرة مدعومة من الدولة، وصولاً إلى تحقيق الأمن المائي.
واستناداً لذلك كلّه، وضعُ خريطةٍ استثمارية وتقديم التسهيلات للقطاع الخاص المنتِج حصراً للمشاركة فيها.
إنّ نموذجاً اقتصادياً عميقاً في عدالته وعالياً في نموِّه سيسمح بحلِّ كلّ المهمّات الاجتماعية المتفاقمة في البلاد:
- نحو تأمين التعليم بكل مراحله لكل أفراد المجتمع بشكل مجاني.
- نحو تأمين الضمان الصحي المجاني.
- إعادة الإعمار السكني وتوسيعه باتجاه حلّ مشكلة السكن القديمة والمستجدّة، من خلال تصفير سعر الأرض، وإخراج العقارات التي تُنشئها الدولة من سوق البضائع عبر منع الاتجار بها أو تأجيرها نهائياً. الأمر الذي سيخفّض من سعر العقارات بنسبة تصل إلى 70%، بالإضافة إلى احتكارٍ واسع للدولة لمواد البناء.
- ونحو إعادة النظر بتكاليف الكهرباء والمياه لأصحاب الدخل المحدود بتصفير تكاليف الشرائح الدنيا للاستهلاك، وتحميل تكاليفها لأصحاب الاستهلاك الأعلى.
- تفعيل استخدام الطاقات المتجدِّدة المناسبة للمناخ الاستثماري السوري على قاعدة استيراد المعرفة التي لا تحتاج إلى تكنولوجيا معقَّدة، الأمر الذي تحقِّقُه العديد من تطبيقات الطاقات المتجدِّدة ذات الحجوم الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة.
لنتذكر تجربة الماضي مع «الانفتاح»!
من يدعو اليوم لاعتماد اقتصاد السوق الحر ينسى أن أحد أبرز جوانب التحول في الاقتصاد السوري في عهد السلطة السابقة كان تحرير التجارة الخارجية ورفع جوانب كبيرة من القيود عن حركة رؤوس الأموال. حيث فتحت الحكومات السابقة أسواق البلاد أمام السلع الأجنبية وقلصت الرسوم الجمركية، مما أدى إلى إغراق السوق المحلي بالمنتجات المستوردة. وكان هذا التحرير بمثابة ضربة قوية للقطاعات الإنتاجية المحلية، التي لم تكن قادرة على منافسة السلع الأجنبية الأرخص (سبب رخصها في كثير من الحالات كان يعود لوجود دعم لهذا الإنتاج في بلده الأصلي، بينما جرى تقليص الدعم للإنتاج المحلي السوري).
ورغم أن السلطة السابقة برّرت هذه السياسات بأنها ستجذب الاستثمار الأجنبي وتدعم الاقتصاد، إلا أن الواقع أظهر عكس ذلك: لم تتمكن الصناعات المحلية، وخاصة الصغيرة والمتوسطة، من الصمود أمام هذه المنافسة. ولنا في قطاع النسيج مثالاً، الذي كان يعد من أبرز القطاعات الصناعية في سورية، والذي شهد تراجعاً كبيراً بسبب دخول المنتجات الآسيوية التي أغرقت الأسواق المحلية.
نحن اليوم أمام مرحلة جديدة في تاريخ سورية، مرحلة تتيح للشعب السوري فرصة نادرة لبناء دولته على أسس تعكس إرادته الحقيقية وتطلعاته العادلة، وهي عملية شديدة الصعوبة والتعقيد وتتطلب من جميع الوطنيين السوريين جهوداً جماعية. لقد دفع السوريون ثمناً باهظاً في العقود الماضية بسبب سياساتٍ دمرت البنية الاقتصادية الاجتماعية للبلاد، ولا يمكن تجاوز كوارث الماضي إلا من خلال قطيعة فعلية مع تلك السياسات. هذه القطيعة ليست خياراً بل شرط أساسي للانتقال نحو بناء نظام جديد يخدم مصالح الشعب ويضعه في مركز العملية السياسية والاقتصادية. وحتى في ظل سلطة مؤقتة، فإن إعادة تكرار أخطاء الماضي وتبني النهج السابق ذاته، وإن بأشكال مختلفة، لن يؤدي إلا إلى استمرار المأساة وتفاقمها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1205