سورية المتخيلة قبل عام 2011: هل حقاً كان اقتصادنا بخير؟

سورية المتخيلة قبل عام 2011: هل حقاً كان اقتصادنا بخير؟

يُروج اليوم لانطباع شائع مفاده أن الاقتصاد السوري كان في حالة جيدة قبل انفجار الأزمة في عام 2011. وهذا الطرح، الذي يحظى بدعمٍ واسع في أوساط عدّة، يعتمد بشكل كبير على منطق زائف يقارن السيء بالأسوأ، ويقارن مقدمات الأزمة بنتائج انفجارها. ومع اشتداد حالة التردي الاقتصادية اليوم، يُراد إظهار المرحلة السابقة على أنها كانت أكثر استقراراً وازدهاراً، حيث يجري تصوير سورية قبل 2011 بمثابة هدف ينبغي العودة إليه اليوم.

لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذا الطرح - وإن وجد صداه في دوائر معينة من «الأكاديميين» و«الاقتصاديين» الذين يفترض بهم امتلاك صورة واضحة للوضع الاقتصادي الاجتماعي قبل 2011، فإنه لا يحظى بالقدر نفسه من القبول على المستوى الشعبي. فالناس، الذين عاشوا تلك الفترة وخبروا صعوباتها اليومية، يدركون أن الوضع الاقتصادي في سورية قبل 2011 لم يكن في حال يُحسد عليه. بل على العكس، كان التدهور المستمر في مستويات المعيشة، وارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للسوريين، وكانت الحطب الذي زاد من سعير الاحتقان الاجتماعي السابق للانفجار الكبير.

2000 - 2010: سنوات القهر السابقة للانفجار

تصوير فترة ما قبل انفجار الأزمة على أنها كانت فترة ازدهار واستقرار هو في أفضل الأحوال تبسيط ساذج، وفي جوهره تزييف وتشويه متعمد للواقع، وتعامٍ عن أن الاقتصاد السوري كان يعاني من مشكلات عميقة وبنوية، لا تقف عند حدود الفساد الكبير، وسوء إدارة موارد الدولة، وتمركز الثروة في أيدي قلة قليلة من المتنفذين، بالاستناد إلى ما سميّ فيه حينه بـ«اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي سرّع من تعقيد الأوضاع وزيادة فقراء سورية فقراً.
وبالتالي، فإن أي قراءة موضوعية للأوضاع الاقتصادية الاجتماعية في سورية قبل 2011، ينبغي أن تأخذ في الاعتبار هذه التعقيدات، وألا تقع في فخ المقارنات المضللة. لا شك أن الأزمة وما تلاها من دمار واسع قد أسهمت في تدهور الاقتصاد إلى مستويات غير مسبوقة، ولكن هذا لا يعني أن ما كان قبلها جيداً أو حتى مقبولاً. فالأزمة في جوهرها كانت نتيجة طبيعية لسنوات من النهب والسياسات الخاطئة والمشكلات المتراكمة التي لم تجد من يعالجها، فكان انفجارها مسألة وقت لا أكثر.
وبهدف الوصول إلى صورة تقريبية لوضع الاقتصاد السوري ما قبل 2011، سنعرض بعض البيانات والأرقام المتعلقة بالاقتصاد السوري للفترة ما بين عامي 2000 و2010، دون أن نغفل الإشارة إلى أن العديد من مؤشرات الأداء الاقتصادي السوري لتلك الحقبة إما غير متوفرة بسبب النقص المزمن في المعلومات المنشورة رسمياً، وإما جرى تضخيمها بطرقٍ عدّة بهدف تجميل الواقع الاقتصادي في تلك الفترة.

أرقام التضخم في سباق مع أرقام النمو

وفقاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء، كانت نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي بمعدّل 4.3% سنوياً بين عامي 2000 و2010. لكن الملفت أن معدّل التضخم السنوي كان أكبر من ذلك، وبلغ وسطياً 4.9%.
وفوق ذلك، تكشف أرقام النمو المعلنة اختلالاً بنيوياً في طبيعة النمو المفترض، حيث أن نظرة فاحصة نحو تلك الأرقام تكشف أن هذا النمو قد تركز في قطاع الخدمات والمصارف الذي بلغ نموه الوسطي السنوي نسبة 14%، وفي قطاع التجارة نسبة 12%.
على النقيض من ذلك، نرى أن قطاع الصناعة، الذي يُفترض أن يكون من أعمدة الاقتصاد الوطني ومصدراً رئيسياً لخلق فرص العمل وتحقيق التنمية المستدامة، قد سجل نمواً ضعيفاً للغاية مقارنة بالقطاعات الأخرى، حيث لم يتجاوز متوسط نموه السنوي نسبة 2.7%.
أما قطاع الزراعة، الذي يعتبر من أهم القطاعات في تأمين الغذاء وتحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني، فقد عانى من حالة من الركود شبه التام، حيث لم يتمكن من تحقيق نمو يُذكر، إذ بلغ متوسط نموه السنوي 0.6% فقط.

1190c

تراجع القطاع العام وارتفاع البطالة

في عام 2006، شهد الاقتصاد السوري تحولاً غير مسبوق، حيث تفوّقت استثمارات القطاع الخاص لأول مرة في تاريخ الدولة السورية على استثمارات القطاع العام. ففي ذلك العام، بلغت استثمارات القطاع الخاص 164 مليار ليرة سورية، بينما لم تتجاوز استثمارات القطاع العام 143 مليار ليرة. واستمرت الفجوة تتزايد بين القطاعين حتى بلغت استثمارات القطاع الخاص 193 مليار ليرة في عام 2010، ولم تزد استثمارات القطاع العام في العام ذاته عن 144 مليار ليرة. وهذا التحول لم يكن مجرد تغيير في أرقام الاستثمار، بل كان يعكس تغييراً جوهرياً في بنية الاقتصاد السوري واتجاهاته. فقد سرّعت الدولة من ابتعادها التدريجي عن الدور المركزي في توجيه الاستثمار.
وبطبيعة الحال، لم ينعكس هذا التحول في تحسين أحوال قوة العمل السورية، ففي السنوات العشر السابقة لانفجار الأزمة، ووفقاً للبيانات الرسمية، بلغ معدل مشاركة القوى العاملة في سورية 43.5% وسطياً، وهو من أدنى المعدلات على مستوى العالم. وهذا الرقم لا يعكس فقط قلة الانخراط في سوق العمل، بل يشير أيضاً إلى وجود عدد كبير من الأفراد القادرين على العمل لكنهم خارج دائرة النشاط الاقتصادي، مما شكل ضغطاً على الاقتصاد من حيث الإنتاجية والنمو. وهذا المعدل المنخفض كان ملفتاً للنظر حتى عند مقارنته بالمعايير الإقليمية، حيث سجلت دول مثل مصر وتونس معدلات مشاركة أعلى، وصلت إلى 49% و47% على التوالي.

1190a

الميزان التجاري السوري خاسر... ولمصلحة الغرب

في عام 2006، بلغ العجز التجاري الصافي في سورية نحو 26.3 مليار ليرة سورية، مع تفوق واردات القطاع الخاص والعام على صادراتهما بشكل كبير. فقد وصلت واردات القطاع الخاص إلى 316 مليار ليرة، بينما بلغت صادراته 278 مليار ليرة، ما أدى إلى عجز تجاري ملموس.
ومع مرور السنوات، زاد العجز التجاري بشكل ملحوظ، حيث ارتفع في عام 2007 إلى 105 مليار ليرة، وفي عام 2008 وصل إلى 131 مليار ليرة. وفي كلتا السنتين، استمرت الواردات في التفوق على الصادرات بشكل كبير، خصوصاً من قبل القطاع الخاص الذي استورد كميات ضخمة من السلع مقابل صادرات أقل.
وتفاصيل الصورة التجارية لسورية توضح بجلاء أن الجزء الأكبر من هذا العجز كان لمصلحة الدول الغربية، حيث بلغت النسبة التي تمثل التجارة مع الدول الغربية والدول الدائرة في الفلك الغربي آنذاك 50% من مجمل التجارة السورية، في حين كانت النسبة مع الدول الصديقة 18% فقط.

1190b

نسب الاستثمار تهبط بأكثر من 7.3%

في عام 2003 كانت نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 23.8%، وهو مستوى متواضع مع النسب السابقة في سورية. ومع مرور السنين، نلاحظ أن هذه النسبة شهدت تقلبات، حيث بدأ الاتجاه الهابط يسيطر بدءاً من عام 2005 حيث تراجعت النسبة إلى 22.5% ثم إلى 20.9% في عام 2006.
وأصبح الانحدار أكثر وضوحاً في الأعوام التالية، حيث هبطت النسبة بشكل حاد إلى 17% في عام 2007، ثم إلى 13.8% في عام 2008، واستمر الانخفاض عند حدود 16.5% في عام 2009.
ويعتبر هذا الانخفاض في نسب الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي مؤشراً خطيراً على تباطؤ النمو الاقتصادي، وأكد على الحاجة الماسة في حينه لإصلاحات اقتصادية عاجلة تهدف إلى رفع نسب الاستثمارات، لكن مع غياب الإصلاحات المطلوبة، استمر الاتجاه بالهبوط أكثر فأكثر.

الحد الأدنى لتكاليف المعيشة: 6 أضعاف الحد الأدنى للأجور

في عام 2000، كان الحد الأدنى الرسمي للأجور يبلغ 3,045 ليرة سورية، بينما كان الحد الأدنى لتكاليف المعيشة الشهرية لأسرة من خمسة أفراد تصل إلى 18,180 ليرة سورية، أي نحو 6 أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور. هذه الفجوة الكبيرة بين الأجور وتكاليف المعيشة كانت مؤشراً واضحاً على أن الأغلبية الساحقة من الأسر السورية واجهت صعوبة جدية في تلبية احتياجاتها الأساسية، مما أبرز وجود اختلالات كبيرة في توزيع الثروة والدخل.
ويتضح هذا الاختلال أكثر عندما نلقي نظرة على توزيع الدخل الوطني. فقد بلغت حصة أصحاب الأجور من الدخل الوطني في عام 2000 نسبة ضئيلة تصل إلى 21%، بينما حظيت الأرباح بحصة الأسد بنسبة 79%. وعكس هذا التوزيع فجوة شاسعة بين أصحاب الأجور وأصحاب رؤوس الأموال، حيث تتركز الثروة بشكل كبير في أيدي قلة من الأشخاص، بينما تكافح الغالبية من أجل الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم.
إلى جانب ذلك، برزت معضلة الفاقد من الدخل الوطني بسبب الفساد والنهب، حيث كانت التقديرات تؤكد خلال العشرية السابقة لانفجار الأزمة في سورية أن حوالي 20% من الدخل الوطني كان يُهدر نتيجة النهب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1190
آخر تعديل على الأربعاء, 11 أيلول/سبتمبر 2024 23:20