العالقون في فخ العقوبات
صادف شهر أغسطس/آب من هذا العام الذكرى السنوية العاشرة للمرسوم الرئاسي الروسي رقم 560 «بشأن تطبيق بعض التدابير الاقتصادية الخاصة لضمان أمن الاتحاد الروسي». واعتبره السياسيون رداً متناسباً على الحرب الاقتصادية التي أعلنها الغرب على روسيا بسبب الوضع في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.
ترجمة: قاسيون
ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال: أن العقوبات المفروضة على روسيا ودول أخرى ستظل قائمة بغض النظر عمّن يصبح الرئيس المقبل للولايات المتحدة. تشير الصحيفة إلى أن الرئيس الأمريكي المقبل، سواء كانت نائب الرئيس كامالا هاريس، أو كان الرئيس السابق دونالد ترامب: «من غير المرجّح أن يتمكن من إخراج قطار العقوبات عن مساره، على الرغم من أنهم قد يختلفون حول مكان المحطة التالية في فرض العقوبات».
من ناحية أخرى، يشهد الاقتصاد الروسي نمواً سريعاً: ففي الربع الثاني بلغ المعدل السنوي 4%، ليصل إلى مستوى مذهل بلغ 5,4% في الربع السابق ــ وهذا «على الرغم من العقوبات الأشد قسوة في التاريخ». يربط مؤلفو مجلة إيكونوميست الموثوقة غربياً هذه النجاحات بكازاخستان، وعدد من جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى، التي تشهد، في ذروة ضغوط العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ازدهاراً غامضاً للتجارة مع روسيا. تسجّل الإحصائيات طفرة حقيقية في معاملات الوساطة، ونمواً سريعاً في تصدير البضائع المحظورة من الاتحاد الأوروبي إلى منطقة الحدود الروسية. يشير هذا إلى أن أوروبا ليست في عجلة من أمرها لسد ثغرات العقوبات. في الواقع، ليست السياسة هي التي تسود، بل المنفعة الاقتصادية.
كما هو معروف، فمنذ بداية الصراع في أوكرانيا، مُنعت الشركات الأوروبية- وهي أكبر موردي التكنولوجيا- من بيع معظم منتجاتها في روسيا. لم يفرض أحد مثل هذا الحظر فيما يتعلق بكازاخستان. قفز حجم الصادرات الكازاخستانية إلى روسيا من 40 مليون دولار في عام 2021 إلى 298 مليون في عام 2023. في الوقت نفسه، ارتفعت أيضاً واردات الإلكترونيات من أوروبا من 250 مليون يورو إلى 709 ملايين يورو. لذا تطرح مجلة الإيكونوميست السؤال التالي: هل تتمكن صناعة التكنولوجيا الصغيرة في كازاخستان ــ نحو 50 شركة فقط ذات إمكانات إنتاجية تبلغ مائة مليون دولارــ من سد هذه الفجوة الضخمة؟ هل اتضح أن رجال الأعمال الروس مهدوا الطريق للموردين الأوروبيين القدامى؟
كازاخستان هي واحدة من العديد من البلدان التي ازدهرت فيها التجارة مع كل من روسيا وأوروبا بشكل غامض منذ بداية العملية الخاصة في أوكرانيا. وتضم المجموعة إضافة لكازخستان: أرمينيا وأذربيجان وجورجيا وتركيا وأربع جمهوريات أخرى في آسيا الوسطى، التي نمت صادراتها بنسبة 50% على مدى عامين «2021 إلى 2023»، وهو ما يعوّض انخفاض الصادرات الأوروبية التي يتم تنفيذها مباشرة إلى روسيا.
من الصعب أن نجزم ما هي الشركات الأوروبية التي تكيفت ببساطة مع القيود الجديدة، وما هي الشركات التي تتحايل على أي حظر. ولكن، كما يحدث في كثير من الأحيان، نمت التجارة عبر بلدان ثالثة إلى حد كبير بسبب السلع «غير القانونية». لا ينبغي للمرء أن يستبعد التهريب، الذي لا يتم تضمينه في الإحصاءات الرسمية.
الطريق إلى تدمير الدولار بدأ بالفعل
يبدو أن السياسيين الأوروبيين يحاولون يائسين سد ثغرات العقوبات، ولكن للقيام بذلك يتعين عليهم بشكل متزايد التعدي على مصالح أعمالهم، التي تعاني من مشاكل كبيرة بسبب العقوبات، وحتى إفساد العلاقات مع الجيران المستعصيين. تتلقى روسيا السلع والمكونات الضرورية، وأصبح من الصعب على نحو متزايد أن تتبع سلاسل التوريد المعقدة، لأن المزيد والمزيد من المدفوعات لا تتم بالدولار، بل بالروبل والعملات الوطنية الأخرى للشركاء التجاريين.
لكنّ الرفض النهائي للامتثال للعقوبات الأميركية من قبل دول ثالثة، كما يعتقد المحللون، قد لا يحدث على الفور، ولكن بطريقة «تطورية»، خاضعة لتطور أنظمة مالية واقتصادية بديلة. ولن يكون هذا بالأمر السهل، لأن الولايات المتحدة لا تزال تحتكر المعاملات المالية بشكل شبه كامل. في الوقت نفسه، تتشكل التكتلات الاقتصادية تدريجياً في مختلف أنحاء العالم، وتركز على التفاعل مع اللاعبين الخاضعين للعقوبات، وفي بعض البلدان يجري بالفعل تشكيل إطار تشريعي لمواجهة العقوبات.
لكن من أجل التخلي بشكل كامل عن تنفيذ العقوبات، لا بد من إعادة هيكلة النظام المالي العالمي «في اتجاه التعددية القطبية وتعددية المستويات»، وهو ما من شأنه أن يقلل الاعتماد على الدولار الأمريكي والاقتصاد الأمريكي، وكحل بديل. ونتيجة لذلك، سيتم التخلي عن ضرورة الالتزام بالعقوبات الأمريكية.
كتبت صحيفة نيويورك بوست، أن العقوبات كان من المفترض أن تدمر الاقتصاد الروسي، ولكن كان لها تأثير معاكس- فقد أضعفت الغرب وعززت الروبل. وهذا ما يؤكده التقرير الأخير في البوندستاغ حول العواقب الاقتصادية للعقوبات، والعقوبات المضادة، على دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. يشير مؤلفو التقرير إلى تراجع الإنتاج الصناعي والتجارة والخدمات، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، فضلاً عن انخفاض الدخل الحقيقي في هذه البلدان. منذ عام 2014 خسرت ألمانيا وحدها أكثر من 50 مليار يورو بسبب العقوبات.
يتعين أن تؤخذ العقوبات «بشكل واقعي»، ومن المرجّح أن تؤدي التغييرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي والتمويل العالمي إلى تقليل الفعالية الاقتصادية للعقوبات الأمريكية في المستقبل، كما كتب بيتر هاريل، المدير السابق للاقتصاد الدولي في البيت الأبيض الأمريكي. يقول: «تؤدي الجغرافيا السياسية والأسواق إلى ظهور قنوات دفع ومالية بديلة لا تتمتع الولايات المتحدة بقدر كبير من السيطرة عليها. الدرس الكبير المستفاد من العامين الماضيين، هو أن مثل هذه الجهود يمكن أن تكون ناجحة».
بدلاً من ذلك، تستطيع أوروبا أن تستخدم الجزرة بدلاً من العصا: تمديد الحظر ليشمل دولاً ثالثة أو تقييد بنوكها. ومع ذلك، فإن هذا يخاطر بحقيقة أنّ موردي الغاز المتبقين إلى أوروبا «أذربيجان وأرمينيا» قد يعيدون توجيه بضائعهم إلى دول أخرى، وسيعاني الأوروبيون من ذلك. تمكنت دول ثالثة من التحايل على الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي. كما يجوز للدول الخاضعة لعقوبات أحادية تنتهك التزاماتها الدولية أن تلجأ إلى الوسائل الدولية لتسوية المنازعات وطلب التعويض. وبالمناسبة، فقد صدر بالفعل أحد هذه القرارات من محكمة العدل الدولية لصالح إيران في عام 2023.
بطبيعة الحال، لا ينبغي لروسيا أن تسترخي. رداً على التهديدات الجديدة بفرض عقوبات، وبمبادرة من بلادنا، يتم إنشاء نظام جديد لمواجهة العقوبات المالية الأمريكية. ولأسباب أمنية، لن يتم الكشف عن النظام المحدث بالكامل. لكن فكرة ما عن ذلك بدأت تظهر بالفعل من خلال تصريحات المسؤولين. نحن نتحدث عن تشكيل «نظام تجاري مزدوج الدائرة»، أي إدخال المقايضة الروسية الصينية والمقاصة الروسية الهندية، والتي يمكن أن تكون بمثابة الأساس لمركز تسوية المقاصة لجميع دول البريكس. بعض هذه الدول «روسيا والهند والصين» تتفاوض بالفعل بشأن تشكيل اتحاد نقدي غير رسمي.
سيساعد القانون الذي يسمح بفتح فروع للبنوك الأجنبية في روسيا على إزالة العوائق التي تحول دون التسويات المتبادلة مع شركائنا. سيتم هذا العام أيضاً السماح بتعدين العملات المشفرة قانونياً، والتي سيتم إدخالها في عمليات التصدير والاستيراد في ديسمبر/أيلول، كما صرح رئيس البنك المركزي إلفيرا نابيولينا. لذا فإنّ روسيا تحتفل بذكرى فرض العقوبات وهي مسلحة بالكامل. مهما كانت القيود التي فرضها أعداؤها حتى الآن، فليس هناك شك في أنّها ستحمل تأثير معاكس وستضربهم بشدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1191