تريليون دولار جديد كل 100 يوم: واشنطن محكومة بالاختيار بين السيئ والأسوأ

تريليون دولار جديد كل 100 يوم: واشنطن محكومة بالاختيار بين السيئ والأسوأ

من المعروف للجميع أن الدين العام للولايات المتحدة ينمو بسرعة. حيث ينمو الدين على الصعيدين المطلق (الزيادة في حجم الدين العام من حيث القيمة النقدية الفعلية) والنسبي (الزيادة في الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي). وفي عام 1910، كان الدين العام للولايات المتحدة يبلغ 2.7 مليار دولار، وهو رقم ضئيل بمعايير اليوم، حيث كان يمثل نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ولكن عشية دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية في عام 1940، بلغت أرقام الدين 50.7 مليار دولار (أي نحو 52.4% من الناتج المحلي الإجمالي). ثم في عام 1960، بلغ الدين الأمريكي 290.5 مليار دولار (نحو 54.3%)، وفي عام 1980، بلغ 900.0 مليار دولار (نحو 32.5%). وفي عام 1981، تجاوز الدين العام للولايات المتحدة للمرة الأولى في تاريخه حاجز التريليون دولار.

فيما يلي أحدث بيانات الدين الأمريكي: في عام 2022، بلغ الدين العام 31 تريليون دولار. وفي نهاية العام الماضي، وصل إلى 34 تريليون دولار (نحو 129% من الناتج المحلي الإجمالي). أما في الوقت الحالي، فقد بات الدين الأمريكي ينمو بمعدل تريليون دولار كل 100 يوم. ووفقاً لتوقعات مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي، إذا استمرت السياسات الحالية، فإن الدين العام للولايات المتحدة سينمو بمعدل يزيد مرتين عن نمو اقتصادها، وسيصل إلى 200% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050!

خدمة الدين: أكثر من تريليون دولار!

بطبيعة الأحوال يجب على أجهزة الدولة الأمريكية خدمة هذا الدين، وهذه الخدمة (دفع الفوائد، تكاليف خدمة الدين) تتم على حساب الميزانية الفيدرالية. للتبسيط يمكننا أن نشرح الفكرة على الشكل التالي: عندما تحتاج الحكومة الأمريكية إلى أموال تتجاوز إيراداتها (مثل الضرائب وغيرها من مصادر الدخل)، فإنها تقترض عن طريق إصدار سندات وأدوات دين أخرى. يشتري المستثمرون (مثل الأفراد، والشركات، والحكومات الأجنبية) هذه السندات، مما يتيح للحكومة الحصول على الأموال اللازمة. ومقابل هذه القروض، تلتزم الحكومة بدفع فائدة سنوية للمستثمرين الذين اشتروا السندات. وهذه الفوائد هي تكلفة اقتراض الأموال وتسمى «مصروفات الفائدة» أو «تكاليف خدمة الدين». ويعتبر دفع الفوائد على الدين أولوية بالنسبة للحكومة لأنها تحتاج إلى الحفاظ على «مصداقيتها» في الأسواق المالية، فإذا فشلت الحكومة الأمريكية في دفع الفوائد، سيتعرض تصنيفها الائتماني للخطر، مما يزيد من تكاليف الاقتراض في المستقبل. ومع زيادة حجم الدين العام الأمريكي وارتفاع معدلات الفائدة، تزداد مصروفات الفائدة. وهذا يعني ببساطة أن جزءاّ أكبر من الميزانية الفيدرالية بات يجب أن يُخصص لخدمة الدين، مما يترك موارداً أقل للإنفاق الحكومي على المسائل الأخرى.
في السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، كانت نفقات الميزانية لخدمة الدين العام تبلغ 5-6 مليارات دولار سنوياً. وفي بداية السبعينات والثمانينات، تجاوزت 100 مليار دولار. ثم في نهاية التسعينات وبداية الألفية، تجاوزت 300 مليار دولار. وفي نهاية العقد الماضي، تجاوزت مبلغ 500 مليار دولار. وأخيراً، مع دخول عام 2024، تجاوزت التريليون دولار. ووفقاً لتقديرات مجلس الاحتياطي الفيدرالي، من المتوقع أن تصل مصروفات الفائدة في الميزانية الفيدرالية إلى 1.059 تريليون دولار هذا العام، أي 1.6 ضعف مصروفات الفائدة في عام 2023 (659 مليار دولار).

أسعار الفائدة على السندات تصل إلى 3.3% وسطياً

تعتمد نفقات الميزانية الأمريكية لخدمة الدين العام ليس فقط على حجم الدين، بل أيضاً على أسعار الفائدة على السندات المالية التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية. وهذه بدورها تعتمد على سعر الفائدة الرئيسي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
وكما نعلم، فإن سعر الفائدة الرئيسي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي يتقلب بشدة: في ذروة الأزمة المالية 2007-2009، تم تخفيضه إلى 0-0.25%. وظل عند هذا المستوى حتى تشرين الأول 2014. ويسمي الاحتياطي الفيدرالي هذه السياسة بـ«التيسير الكمي».
ثم بدأ تشديد السياسة النقدية بحذر شديد، حيث ارتفع السعر إلى 2.50% في نهاية العقد الماضي. ثم بدأت جولة جديدة من «التيسير»، التي كانت محفزة بشكل أساسي بجائحة كورونا التي عززت من شلل الاقتصاد. وفي ربيع عام 2020، انخفض السعر مرة أخرى إلى ما يقارب الصفر. ثم في ربيع عام 2022، بدأت جولة جديدة من التشديد، وفي حزيران من العام الماضي، ارتفع السعر إلى 5.50%. منذ ذلك الحين، عقدت لجنة العمليات في السوق المفتوحة بالاحتياطي الفيدرالي عدة اجتماعات واتخذت قرارات بشأن سعر الفائدة الرئيسي، وأبقته عند 5.50% بحجة أن تخفيض السعر غير ممكن نظراً لأنه لم يتم حل مشكلة التضخم.
هنا تجب الإشارة إلى أن وزارة الخزانة الأمريكية تجد صعوبة متزايدة في بيع شرائح جديدة من السندات المالية. لذلك، وحتى مع بقاء سعر الفائدة الرئيسي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ثابتاً لمدة 10 أشهر تقريباً، ارتفعت أسعار الفائدة على السندات الفيدرالية بشكل ملحوظ (من 2.1% إلى 3.3% في المتوسط).

1180-6

الإنفاق على خدمة الدين أعلى من الإنفاق على الدفاع!

إن الجمع بين التصاعد السريع في الدين العام والحفاظ على سعر الفائدة الرئيسي عند مستوى عالٍ، والصعوبات المتزايدة في بيع سندات الخزينة، أدى إلى زيادة حادة في مصروفات الفائدة في الميزانية الفيدرالية الأمريكية.
إذا قارنا حجم مصروفات الفائدة المتوقعة في عام 2024 مع عام 2020، فإننا نجد زيادة بمقدار الضعف. وبالطبع، تنمو نفقات الميزانية الأخرى أيضاً، ولكن ليس بالسرعة ذاتها لنمو مصروفات الفائدة. وكما هو معروف، فإن النفقات الرئيسية للميزانية الفيدرالية الأمريكية هي نفقات الدفاع: في عام 2020، بلغت نفقات الدفاع 738 مليار دولار، وفي عام 2024، بلغت 886 مليار دولار، بزيادة قدرها 20%. ولكن مصروفات الفائدة خلال هذه الفترة تضاعفت! ومن الأرقام المذكورة، يتضح أن مصروفات الفائدة في ميزانية 2024 ستتجاوز نفقات الدفاع أيضاً.
وفي الآونة الأخيرة، نقلت وسائل الإعلام الأمريكية خبراً مهماً يتعلق بالميزانية الفيدرالية الأمريكية: في الأشهر السبعة الأولى من السنة المالية 2024 (التي بدأت في 1 تشرين الأول 2023)، بلغ صافي مدفوعات الفائدة على ديون الحكومة الفيدرالية الأمريكية للدائنين 514 مليار دولار، أي 20 مليار دولار أكثر من نفقات الدفاع في الفترة نفسها. وفي ضوء ذلك، يمكن الآن الحديث عن تجاوز مصروفات الفائدة لنفقات الدفاع ليس في المستقبل، بل في الوقت الحاضر! يقول الخبراء إنه لم يحدث شيء مثل هذا في تاريخ الولايات المتحدة من قبل. والسؤال الطبيعي الذي يطرح نفسه هو: هل هذه الكارثة مؤقتة أم دائمة؟

ظروف التسعينيات لا تشبه ظروف اليوم إطلاقاً

يجادل بعض الخبراء بأنه لا داعي للقلق. ويزعمون أن المستوى العالي لمصروفات الفائدة في الميزانية الفيدرالية الأمريكية كان موجوداً بالفعل في التاريخ الحديث للولايات المتحدة. ففي الثمانينات، عندما كان رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة. في ذلك الوقت، بدأت تُنفذ سياسة اقتصادية تُعرف بـ«ريغانوميكس»، وإحدى سماتها الرئيسية كانت النمو السريع للدين العام. ففي عام 1980، بلغ الدين العام 909 مليارات دولار (32.5% من الناتج المحلي الإجمالي)، وفي عام 1990، ارتفع إلى 3.206 مليار دولار (54.2% من الناتج المحلي الإجمالي). وفي ذلك الوقت، حين كان بول فولكر على رأس مجلس الاحتياطي الفيدرالي. بدأ في زيادة سعر الفائدة الرئيسي بشكل حاد وقد تجاوز في بعض الأحيان عتبة 20%. وبالتالي، زادت مصروفات الفائدة في الميزانية الفيدرالية الأمريكية. سنوضح الأرقام النسبية للمصروفات كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي: في عام 1978، كانت 1.51%. وفي عام 1982، ارتفعت إلى 2.54%. وتم تحقيق أعلى مستوى في عام 1991 - 3.16%. وبعد ذلك، بدأ المؤشر في الانخفاض بشكل كبير.
لكن ما يتجاهله أصحاب هذا الرأي أن العقد الأخير من القرن العشرين كان فترة فريدة في التاريخ الحديث للولايات المتحدة. حيث انتهت الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وأصبحت روسيا الاتحادية - بحكم النهب الواسع الذي تعرضت له - داعماً قوياً للاقتصاد الأمريكي. وكانت رياح اللبرلة والعولمة التي بدأت تهب في جميع أنحاء العالم تدفع بالدولار الأمريكي إلى الأمام. وهذه الظروف الفريدة سمحت للولايات المتحدة الأمريكية بإبطاء نمو دينها العام والحفاظ على أسعار الفائدة الرئيسية عند مستويات أقل بكثير من تلك التي كانت في زمن بول فولكر. فالتسعينات كانت فعلياً «العصر الذهبي» في التاريخ الحديث للولايات المتحدة، ولن تعود مرة أخرى. لذلك، لا ينبغي توقع معجزة في انخفاض مستوى مصروفات خدمة الدين العام الأمريكي.

لا حلول في الأفق: إما السيئ وإما الأسوأ

ليس هناك شك في أن الدين العام سوف يستمر في النمو بالوتيرة نفسها. ولكن، هل يمكن أن يتمكن الاحتياطي الفيدرالي فعلاً من خفض سعر الفائدة الرئيسي إذا تم القضاء على التضخم كما يزعم؟ يجب أن نقول إن مكافحة التضخم هي مجرد «قنبلة دخانية» تخفي الأهداف الحقيقية لرفع سعر الفائدة الرئيسي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي والحفاظ عليه عند مستوى عالٍ.
سعر الفائدة الرئيسي العالي سيستمر تحت أي ظروف. هو ضروري للحفاظ على الدولار الأمريكي. حيث هناك اليوم تزايد في انعدام الثقة بالدولار الأمريكي كعملة عالمية في جميع أنحاء العالم. والوسيلة الوحيدة للحفاظ على الاهتمام بالدولار، وبالتالي الحفاظ على وضعه كعملة عالمية، هي سعر الفائدة الرئيسي العالي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.
في المجال الاقتصادي والمالي، كما هو الحال في المجالات الرئيسية الأخرى، يبقى للولايات المتحدة الاختيار بين السيئ والأسوأ. إما الإفلاس السيادي نتيجة لنفقات الفائدة المتزايدة بسرعة، أو انهيار الدولار كعملة عالمية. ولا تزال الولايات المتحدة ونخبتها لا تعرف ماذا تختار.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1180
آخر تعديل على الأحد, 23 حزيران/يونيو 2024 20:26