العقوبات الغربية فاشلة... وتشجعُ على تأسيس البدائل
ديمتري بالكوف ديمتري بالكوف

العقوبات الغربية فاشلة... وتشجعُ على تأسيس البدائل

لا تزال محاولات عزل روسيا وتدمير اقتصادها ونظامها المالي وعملتها تثبت فشلها شيئاً فشيئاً، ذلك على أرضية اتضاح الحقيقة الماثلة بأن هذا العالم الذي نعيشه لم يعد يتمحور حول الغرب وإملاءاته. حيث زادت العقوبات الاقتصادية من وحدة صفّ خصوم الولايات المتحدة، ودفعت نحو الأمام عمليات التنويع الاقتصادي التي تقوم بها دول عدة، بدافع حماية مصالحها الوطنية من خلال تقليل اعتمادها المطلق على الغرب.

سرعت العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من تغيّر المشهد العالمي. حيث كانت نتيجة العقوبات غير المسبوقة، أن روسيا قد انفصلت إلى حد كبير اقتصادياً عن أوروبا، بينما تحاول الولايات المتحدة تثبيت سيطرتها وهيمنتها على حلفائها في الناتو.
وفي ضوء تحرك العالم الأوسع خارج الناتو في الاتجاه المعاكس، فقد توحد أعداء الولايات المتحدة، وعملت الدول «المحايدة» أو «غير المنحازة» على تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وتنتهج نهجاً يتبنى التعددية القطبية. والنتيجة اليوم، هي أن أوروبا بمعظمها لا تزال خاضعة لنظام الهيمنة الأمريكي، في حين أن بقية العالم يتحرك بسرعة كبيرة نحو نظام عالمي جديد قائم على كسر الهيمنة الأمريكية.

من «المساواة في السيادة» إلى «النظام القائم على القواعد»

تخلى صلح ويستفاليا في عام 1648، الذي وضع الأساس لما يعرف اليوم بـ«النظام الدولي الحديث»، عن تطلعات بعض الدول لنظام هيمنة يضمن مصالح الدول ذات القوة الأكبر. طالب النظام الناشئ بعد الصلح وقتها بالبراغماتية، لأن التحالفات الدائمة ستعيق القدرة على تحقيق التوازن بين الدول التي تطمح إلى الهيمنة.
تم ضمان «المساواة في السيادة» من خلال الابتعاد عن سنّ القوانين القائمة على الأعراف الاجتماعية المتنوعة التي كانت سائدة آنذاك، والتي خلقت سيادة متداخلة بين الدول، ومكّنت من اتخاذ القرارات التعسفية، حيث يمكن للدول الأكثر قوة أن تبرر الهيمنة التي تفرضها على غيرها.
واعتمد نظام ويستفاليا على اتفاقيات إجرائية تستند إلى قواعد موحدة تنطبق بالتساوي على الدول جميعها، وعلى قدم المساواة في السيادة، والتي أرست الأساس للقانون الدولي الحديث.
بعد ذلك، تمّ تقويض النظام العالمي الناتج في ويستفاليا بسبب مشاريع الهيمنة لجهات وازنة، مثل: نابليون وهتلر (المدفوع من نخب المال الغربية) والولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب الباردة. وعلى مدى السنوات الـ30 الماضية، كانت واشنطن لاعباً يلهث وراء تقويض نظام ويستفاليا العالمي لتوازن القوى والمساواة في السيادة.
في أوروبا، انطوى ذلك على التخلي عن الاتفاقات الخاصة ببناء هيكلٍ أمني شامل لعموم أوروبا على النحو المبين في ميثاق باريس من أجل أوروبا جديدة (1990)، لأن المبادئ الرئيسية لهذا الميثاق كانت تتحدث فعلياً عن أوروبا بدون خطوط فاصلة، وعلى أساس المساواة في السيادة والأمن غير القابل للتجزئة. وكان البديل المتمثل في العمليات المتواصلة لتوسيع الناتو مفيداً لتعزيز نظام الهيمنة الأمريكية القائم على عدم المساواة في السيادة. وتم استبدال مفهوم «المساواة في السيادة» بموجب القانون الدولي بمفهوم عدم المساواة في السيادة في ظل «النظام الدولي القائم على القواعد» حيث يمكن للغرب الجماعي الاستناد إلى القيم الليبرالية لتبرير التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول، والإطاحة بالحكومات، والغزو، وتغيير الحدود الدولية. حيث تتمتع الولايات المتحدة وحلفاؤها بالسيادة الكاملة، في حين تتمتع بقية دول العالم بسيادة محدودة.
كان «النظام الدولي القائم على القواعد» جذاباً للأوروبيين بدافع الوهم بإمكانية إقامة هيمنة مشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تحت راية حلف شمال الأطلسي (الناتو) على الرغم من أن الغالبية العظمى من العالم لا تريد العيش تحت هيمنة الولايات المتحدة وعدم المساواة في السيادة في ظل «النظام الدولي القائم على القواعد».

العقوبات تعزز الهيمنة الأمريكية في أوروبا وتفشلها في باقي العالم

يعتمد التفوق العالمي للولايات المتحدة على الحفاظ على نظام تحالف الحرب الباردة، لأنه يضمن تبعية الحلفاء واحتواء الخصوم. لقد صاغ مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، زبيغنيو بريجنسكي، هذه الفكرة بشكل أكثر مباشرة، مؤكداً: أن متانة الهيمنة الأمريكية اعتمدت على القدرة على «منع التواطؤ والحفاظ على التبعية الأمنية بين التابعين، للحفاظ على القوى التابعة مطواعة ومحمية، ومنع البرابرة من الالتقاء».
أدت العقوبات الصارمة ضد روسيا- والهجوم على خطوط أنابيب نورد ستريم- إلى عزل روسيا إلى حد كبير عن أوروبا، وحلّ مخاوف واشنطن التاريخية بشأن التكامل بين الاقتصادين الألماني والروسي. وفي وقت لاحق، تمت استعادة انضباط الكتلة في أوروبا بعد سنوات من سعي الاتحاد الأوروبي إلى شراكة متساوية مع الولايات المتحدة، وأهداف مثل: «الاستقلال الاستراتيجي» و«الاستقلال الأوروبي».
رغم ذلك، كما أشرنا سابقاً، فإن عزل روسيا بهدف تدمير اقتصادها ونظامها المالي وعملتها فشل لأن العالم لم يعد يتمحور حول الغرب. والعقوبات الاقتصادية وحدت خصوم الولايات المتحدة، ورفعت من سعي دول أخرى للعمل وفقاً لمصالحها الخاصة دون الخضوع للإملاءات الخارجية.

انهيار الثقة بالغرب والتدافع نحو البدائل الآمنة

قيّدت العقوبات الغربية وصول روسيا إلى التقنيات الرئيسية والصناعات والبنوك ونظام الدفع SWIFT والتأمينات، وحتى الاستيلاء على أموال البنك المركزي الروسي. وأظهر الاستيلاء التعسفي على الأصول من الأفراد الروس دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، أن «سيادة القانون» التي تشدق بها الغرب غير موجودة عند اللزوم.
إثر ذلك، بدأت الثقة في إدارة الغرب للاقتصاد العالمي تنهار في مختلف أنحاء العالم. وقد أجبرت العقوبات والتهديدات بفرض عقوبات ثانوية بقية العالم على تطوير بنية تحتية اقتصادية دولية جديدة. حيث لم ينضم أكثر من 85% من سكان العالم إلى العقوبات، وبدلاً من ذلك كثفوا التكامل الاقتصادي فيما بينهم. وعلى هذا، فإن العالم يتدافع لتنويع سلاسل التوريد، والتكنولوجيات، والعملات، وأنظمة الدفع، وطرق التجارة، وأنظمة التأمين، وغير ذلك من مصادر أدوات القوة الاقتصادية الأساسية في الغرب.
في العالم الأحادي القطب، يمكن للعقوبات أن تخنق اقتصاد الخصم وتدمره، لكن العقوبات في عالم متعدد الأقطاب تنطوي فعلياً على التنازل عن حصة السوق لمراكز قوى أخرى. الطاقة مثلاً، هي شريان الحياة للصناعات، وعلى مدى عقود كانت الطاقة الروسية الرخيصة تغذي الصناعات الأوروبية. في المقابل، صدّرت أوروبا تقنياتها وسلعها الصناعية إلى روسيا. والآن، تعمل الطاقة الروسية الرخيصة على تعزيز القدرة التنافسية للصناعات الآسيوية بدلاً من أن تفيد أوروبا.
لقد عزلت أوروبا نفسها عن أسواق مهمة، وأصبحت أكثر اعتماداً على الولايات المتحدة، في حين قامت بقية دول العالم بتنويع الترابط الاقتصادي، وبالتالي، كان بوسعها أن تؤكد قدراً أعظم من السيادة السياسية باعتبارها أقطاب مستقلة للقوة.
وبالتوازي مع ذلك، تعمل المؤسسات الاقتصادية الجديدة على توسيع عضويتها وتعميق كفاءاتها الاقتصادية. وقد تشكّل طابور طويل من الدول التي تسعى للانضمام إلى كل من منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) ومجموعة بريكس. وعلى هذا النحو، يواصل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا زيادة اتفاقيات منطقة التجارة الحرة. وتشمل المؤسسات الدولية المذكورة أعلاه جزءاً كبيراً من سكان العالم وموارده واقتصاده وموارد الطاقة الأساسية.

العالم البديل قيد التشكل رغم محاولات الإبطاء الأمريكية

يتم تأسيس هيمنة أمريكية هشّة في أوروبا، على الرغم من أن بقية الدول تسعى لعالم متعددة الأقطاب، وتسعى إلى توازن القوى بين دول متساوية في السيادة.
لقد أضعفت العقوبات المفروضة على روسيا موقف أوروبا لأنها الآن في شراكة غير متكافئة للغاية مع الولايات المتحدة، وقلصت نفوذها في جميع أنحاء العالم، الأمر البعيد كل البعد عن الهيمنة الجماعية التي وعد بها التوسعيون في الناتو. وإساءة استخدام واشنطن لدورها المهيمن في الاقتصاد الدولي يجبر العالم على تنويع الترابط الاقتصادي، وبالتالي تقويض طموحات الهيمنة الأمريكية.
يشير وضع الولايات المتحدة والغرب الجماعي إلى أن نظام الهيمنة الأمريكية قد انتهى. ورغم أن هنالك الكثير من المشاكل التي يواجهها التكامل الأوراسي، وأن هنالك أخطاء سوف ترتكب، وأن بعض الخطط قد لا تترجم إلى أفعال، إلا أن العمليات قد بدأت لخلق عالم بديل عن عالم الهيمنة الأمريكية، وهو عالم حكماً لا يقوم على الهيمنة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1181