شبح «الدعم النقدي» في سورية يطل برأسه من جديد

شبح «الدعم النقدي» في سورية يطل برأسه من جديد

في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي يعيشها الشعب السوري اليوم، تعود فكرة التحول من الدعم الحكومي الاستهلاكي إلى الدعم «النقدي» إلى الواجهة مجدداً، فبحسب تقارير إعلامية محلية «يبدو أن حظوظ خيار استبدال دعم السعر النهائي لبعض السلع بتقديم دعم نقدي مباشر للأسر المستحقة باتت كبيرة هذه الأيام. وحسب ما أوضح مسؤول حكومي في جلسة نقاش عقدت مؤخراً فإن هناك اجتماعات حكومية مكثفة تجري لمناقشة هذا الخيار».

سبق لـ«قاسيون» وأن تناولت هذا الموضوع قبل عامين، وتحديداً بعد جلسة مجلس الشعب التي جرت يوم الإثنين 07/11/2022، والتي أكدت خلالها وزارة المالية أنه ستتم «مناقشة تحويل الدعم إلى بدلٍ نقدي في مجلس الوزراء». وقد ناقشت «قاسيون» آنذاك بإسهاب المخاطر المحتملة لهذا التحول على الاقتصاد والمجتمع السوري. ومع ظهور هذه الفكرة مرة أخرى في وسائل الإعلام المحلية، يصبح من الضروري إعادة التأكيد على المخاطر والتحديات التي قد تواجهها الفئات الأكثر ضعفاً في حال تم تطبيق هذا النظام، آخذين بعين الاعتبار التطورات التي جرت خلال العامين الماضيين.

نقاط استناد أساسية في فهم مسألة الدعم

يعبر الدعم الحكومي في الأساس عن اختلال موجود في العلاقة بين الأجور التي يتقاضاها الناس ووسطي تكاليف معيشتهم الضرورية لإعادة تجديد قوة عملهم. وفكرة الدعم بحد ذاتها ناتجة عن «اعتراف ضمني» من جهاز الدولة بأن الأجور التي يدفعها للعاملين لا يمكنها أن تغطي تكاليف المعيشة الضرورية. وبالتالي، تتدخل الدولة في محاولة منها لسد الفجوة أو جزء منها على الأقل.
ويعتبر الدعم أيضاً مؤشراً على اختلال في توزيع الناتج الوطني بين الأرباح والأجور. ففي سورية، ووفقاً لـ«الاستعراض الوطني الطوعي الثاني عن أهداف التنمية المستدامة» الصادر عن هيئة التخطيط والتعاون الدولي، فإن حصة قوة العمل من الناتج المحلي الإجمالي هي أقل من 14.9% في عام 2021، وهذا يعني أن حصة أصحاب الأرباح تصل إلى أكثر من 85% من الناتج المحلي.

1178b

ماذا يعني دعم استهلاكي ودعم نقدي؟

نظرياً، يعتبر الدعم القائم في سورية دعماً استهلاكياً، أي أن الحكومة تخصص جزءاً من موازنتها العامة السنوية لتخفيض أسعار سلع وخدمات معينة.
ومع ذلك، فإن قيمة هذا الدعم تتآكل سنوياً، إذ انخفضت التقديرات لفاتورة الدعم من حوالي 5.5 مليار دولار في عام 2012 إلى أقل من 0.5 مليار دولار في 2024.
والضربة الأكبر التي طالت منظومة الدعم المتآكلة أصلاً هي ما جرى في بدايات عام 2022، عندما رفع الدعم عن نحو 3 ملايين مواطن سوري (على الأقل). فهل تشكل فكرة الانتقال نحو «الدعم النقدي» محاولة لتوجيه الضربة الثانية القاضية والنهائية لمنظومة الدعم هذه؟

1178a

ما هي المشكلة فعلياً بـ«الدعم النقدي»؟

التحول إلى الدعم النقدي يعني عملياً توقف الدولة عن تعهدها بالحفاظ على أسعار سلع محددة عند حدود معينة، والمضي نحو تحرير أسعار السلع في سورية، مما سيؤدي إلى ارتفاعها بشكل كبير، في مقابل التعهد بتقديم مبلغ مالي من المفترض أن يكون «تعويضاً» للأجر.
وتحرير الأسعار دون تحرير الأجور (أي ضمان أن تكون الأجور قادرة على تغطية تكاليف المعيشة) ودون ربط الأجور بالأسعار المتغيرّة في السوق (أي أن يكون هنالك مؤشر متغير شهري أو فصلي... يضمن التوازن بين الأجور وتكاليف المعيشة بشكلٍ مستمر)، دون هذين الشرطين فإن لا تفسير آخر لمشروع تحويل الدعم الاستهلاكي إلى دعم نقدي سوى أنه ضربة قاصمة للدعم على طريق رفعه تماماً، ولا سيما أنه ووفقاً لتجارب دول أخرى، فإن هذه الخطوة كانت الخطوة الأخيرة التي تسبق رفع الدعم تماماً.
وفوق ذلك، فإن خطوة تحويل الدعم الاستهلاكي إلى دعم نقدي ستمكِّن الحكومة أن توقفه بسهولة متى أرادت ذلك، بل والأهم من ذلك أن قيمة مبلغ الدعم النقدي بحدّ ذاتها ستتلاشى بسرعة عندما لن تستطيع مواكبة التضخم الذي سيتسارع بالتوازي مع تحرير أسعار السلع.
الدعم النقدي المفترض، وأياً كان حجمه، لا يعني شيئاً إذا لم يستطع أن يربط الحد الأدنى للأجور بالحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة في سورية، فمهما بلغت قيمة الدعم النقدي، فإن قيمة الأجر سرعان ما ستتبخر جراء الارتفاعات الكارثية التي ستشهدها أسعار السلع في السوق (وفق آخر حساب لمؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة عن الأشهر الثلاث الأولى من العام 2024، فإن الحد الأدنى للأجور في البلاد والذي لا يتجاوز 278,910 ليرة سورية لا يشكل سوى 2.2% من الحد الأدنى لتكاليف المعيشة الذي يبلغ 7,812,417 ليرة سورية).
وفي حال تحرير أسعار السلع في السوق، فإن الحد الأدنى لتكاليف المعيشة سيتضاعف مرات ومرات بمقابل «ارتفاع» الأجر اسمياً وانخفاض قدرته الشرائية فعلياً. وبالتالي، فإن الخطورة في فكرة التحول نحو «الدعم النقدي» لا تقتصر فقط على أنها ستسحب مبالغ الدعم التي كانت تنفقها الحكومة، بل في أنها «ستشفط» أيضاً جزءاً كبيراً من القيمة الحقيقية للأجر ذاته.

1178d

ذرائع واهية لفكرة الدعم النقدي

الاسطوانة المكررة التي نسمعها دائماً على لسان المسؤولين هي أن هذا التحول نحو الدعم النقدي سيضمن وضع حد لعمليات الفساد التي تشوب الطريقة الحالية في توزيع الدعم عبر البطاقة الذكية (هم ذاتهم الذين كانوا متحمسين لفكرة البطاقة الذكية في بداياتها ويقنعون الشعب السوري بحسناتها وبأنها ستحول الدعم إلى مستحقيه مرة وإلى الأبد).
والسؤال البديهي الذي طرحناه سابقاً: هل سيقف الفساد الكبير عاجزاً عن الاستفادة من أي شكل يجري اعتماده لتوزيع ما تبقى من الدعم؟ وهل عدم الوسيلة سابقاً للاستفادة من الأشكال القديمة؟
ثم هل الطريق الأمثل لمكافحة الفساد يكون بتغيير أشكال تقديم الدولة للدعم أم باجتثاث الفساد من جذوره؟ وفوق ذلك، تكمن واحدة من القطب المخفية في طرح مسألة الدعم النقدي في أن هذا النقد - وفقاً لبعض التقديرات - لن يكون موّحداً للجميع، وبالتالي، سيُفتح باب الفساد على مصراعيه أمام المعنيين بتقدير حاجة هذه العائلة أو تلك للدعم.

تبديد مصادر إيراد الدولة وتجاهل الحلول المتاحة

يؤكد المسؤولون أن عمليات رفع الدعم (تحت المسميات التي يستخدمونها: عقلنته أو إعادة هيكلته أو تحويله إلى نقدي... إلخ) هي خطوة تهدف إلى تأمين موارد إضافية في خزينة الدولة، وإعادة تذكيرنا دائماً بأن الدعم هو من يتحمل المسؤولية الأكبر عن عجز الموازنة العامة.
وفي هذا السياق، لا بد لنا من إعادة طرح السؤال:
على عاتق من تقع مسؤولية وجود عجز في الموازنة العامة للدولة؟ هل يتحمل المواطنون ذلك أم السياسات الحكومية التي لم تعدم وسيلة كي تبدِّد مصادر إيراد الدولة بكل الطرق الممكنة؟ وقامت - فوق ذلك- بتصفية مختلف قطاعات الإنتاج الوطني من صناعة وزراعة وسياحة، ودفعت العملة الوطنية دفعاً نحو الانهيار المتسارع جرّاء السياسات التي لم تأخذ في الاعتبار يوماً سوى مصلحة كبار الناهبين في البلاد الذين يجب أن تكون جيوبهم هي مصادر الإيراد الإضافي للدولة لا جيوب المواطنين الذين يقاتلون بالكاد لتأمين أدنى ضرورات بقائهم على قيد الحياة.
وهنا لا بد من ذكر واحد من الأمثلة الفاقعة عن السياسة المتبعة في التعامي عن المصادر الممكنة لتمويل الدعم والرفع الحقيقي للأجور في سورية، وهو التهرب الضريبي الذي خصصنا له العديد من المقالات سابقاً، ووضحنا كيف أن الضرائب لوحدها (لو جرى ضم قيمة الفاقد الضريبي إليها) كانت كافية لتغطية 147% من تكاليف الدعم الاجتماعي في 2010، و143% في 2019، و115% في 2022.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1178