كيف طبقت سورية وصفات صندوق النقد الدولي للتعامل مع عجز الموازنة؟
تتكرر التصريحات الرسمية في سورية حول مشكلة عجز الموازنة العامة بشكل مستمر، وهو عجز مقدّر في موازنة العام 2024 بأكثر من 9.4 تريليون ليرة سورية. وعادةً ما تتزامن هذه التصريحات مع كل خطوة جديدة تتخذ لتقليص الدور الاجتماعي للدولة على مر السنوات والعقود السابقة، بما في ذلك عمليات رفع الدعم التي تجري بسرعة تحت شعارات زائفة، مثل: «عقلنته» و«توجيهه إلى مستحقيه».
إذا أجرينا مقارنة لتصريحات المسؤولين السوريين على اختلاف مواقعهم، نجد أن هنالك فكرة بمثابة «دستور عام» و«ضابط إيقاع» عند حديثهم عن موضوع الدعم وعجز الموازنة العامة، مفادها أن «استمرار الدولة في سياسة الدعم الاجتماعي كلّف أعباء مالية كبيرة وهدراً وفساداً وارتفاعاً كبيراً في عجز الموازنة حتى أصبحت البلاد تمول الدعم بالعجز». ومن هنا تحديداً، يمكن قياس حجم التطابق بين الرؤية العامة التي يعلنها صندوق النقد الدولي (المعروف بسياساته التي أدت إلى إلحاق كوارث اقتصادية في الدول التي طبقت وصفاته الاقتصادية) للتعامل مع مشكلة «عجز الموازنة» وبين السياسات الاقتصادية في سورية وتعاطيها مع هذا الملف.
لكن السؤال الذي نطرحه هنا: هل هذا التطابق عام فقط؟ أم أنه ينسحب أيضاً على جميع البنود التفصيلية للوصفات المعتمدة من صندوق النقد الدولي للتعامل مع هذه المسألة؟
الرؤية العامة لصندوق النقد حول «عجز الموازنة»
تنطلق رؤية صندوق النقد الدولي من الإيمان العام بأن زيادة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية هي التي أدت ظهور المشكلات الاقتصادية المختلفة، وبشكلٍ أساسي مشكلة تزايد عجز الموازنة العامة إلى جانب زيادة التضخم وارتفاع معدلات البطالة ونمو عجز ميزان المدفوعات وضعف الإنتاجية والنمو الاقتصادي معاً... إلخ.
والحال كهذه، فإن «العلاج» من وجهة نظر الصندوق يكون من خلال تحجيم الدور الاقتصادي للدولة، ومحاصرة هذا الدور بشكلٍ دائم، تحت ذريعة أن السبب الأساسي لعجز الموازنة هو النمو المتزايد للنفقات العامة للدولة، سواء في مجال الإنفاق الجاري أو الاستثماري.
وصفات صندوق النقد لعجز الموازنة ومضمونها الاجتماعي
يمكننا معرفة البنود التفصيلية لوصفات صندوق النقد الدولي للتعامل مع مشكلة عجز الموازنة بشكلٍ مكثف وواضح من خلال الاطلاع على تفاصيل برامج «التثبيت الاقتصادي IMF -Stabilization Programme» التي يعقدها الصندوق مع الدول التي يرضى عنها ويقبل أن يمدها ببعض موارده المالية المشروطة، حيث تتضمن هذه البرامج بنوداً محددة حول السياسات التي يتعين على تلك الدول أن تنفذها في مجال العجز بالموازنة العامة.
أولاً: تصفية القطاع العام «الخاسر»
ينص أول بند في الوصفات على التخلص من الدعم الاقتصادي الحكومي الذي تتحمله موازنة الدولة، وبشكلٍ خاص من جراء وجود وحدات إنتاجية في القطاع العام تحقق خسارة. ويكون ذلك من خلال تصفية هذه الوحدات أو بيعها للقطاع الخاص. أو العمل على إدارتها على أسس اقتصادية تهدف للربح من خلال زيادة أسعار منتجاتها النهائية المقدمة للسكان.
وفي هذا الصدد، تظهر المفارقة السورية بتصفية حتى القطاعات العامة الرابحة، (راجع مادة قاسيون بعنوان: تصفية القطاع العام السوري: أمثلة من الصناعات التحويلية - العدد 1041). وبشكل واضح مؤخراً من خلال عمليات «الدمج» التي طالت العديد من مؤسسات القطاع العام كخطوة أولى على طريق تصفيتها.
ثانياً: تخفيض الدعم الاجتماعي
يشير ثاني بنود الوصفات إلى ضرورة تخفيض النفقات التحويلية ذات الطابع الاجتماعي، وبشكل خاص ما هو متعلق بدعم أسعار السلع التموينية والسلع الضرورية. وهنا يوصي الصندوق بعدة أساليب، أفضلها من وجهة نظره هي الإلغاء الكلي للدعم مرة واحدة من خلال زيادة أسعار هذه السلع حتى تتساوى مع تكلفتها (على الأقل).
لكن الصندوق يأخذ بالاعتبار أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية قد تحول دون ذلك، ولهذا يقترح سياسة «الخطوة خطوة»، ويكون ذلك من خلال الرفع التدريجي لأسعار هذه السلع، بالتوازي مع إقرار شذرات من بدلات الغلاء للموظفين والعمال على شكل رفع ضئيل اسمي للأجور.
وقد أثرت عمليات رفع الدعم بشكلٍ مباشر على أسعار السلع التموينية والسلع الضرورية الأخرى، وإذا قارنّا تكاليف المعيشة بالحدّ الأدنى الرسمي للأجور نستنتج أنّ الحد الأدنى لتكاليف المعيشة منذ 2014 حتى 2024 قد زاد بالليرة السورية بمقدار 135 مرة، والشيء نفسه بالنسبة لوسطي تكاليف المعيشة، لكن الأجور لم تزدد في الفترة ذاتها سوى 20 مرّة فقط.
ثالثاً: زيادة أسعار مواد الطاقة
يؤكد ثالث بنود وصفات الصندوق على ضرورة زيادة أسعار مواد الطاقة، وخصوصاً الاستهلاك المنزلي، وضرورة الاقتراب ما أمكن من الأسعار العالمية. وكذلك على ضرورة زيادة أسعار الخدمات العامة للحكومة، مثل: خدمات النقل والمواصلات والاتصالات وغيرها.
العام الماضي، رفعت الحكومة السورية الدعم عن البنزين. أما المازوت المدعوم فقد ارتفع سعره من 180 ليرة سورية في 2020، إلى 2000 ليرة في 2024 (زيادة بنحو 1011%). والمازوت الصناعي والتجاري من 650 ليرة في 2020 إلى 11996 ليرة في 2024 (1745%). والبنزين أوكتان 95 من 575 ليرة في 2020 إلى 14368 ليرة في 2024 (2398%). الأمر الذي انعكس في ارتفاع أسعار خدمات النقل والمواصلات، بالتوازي مع الارتفاعات المستمرة في أسعار الاتصالات للقطاعين العام والخاص.
رابعاً: تخفيض النفقات الاستثمارية
يوصي الصندوق بضرورة أن تكف الدولة عن الدخول على خط المجالات الاستثمارية، ويشترط تخفيض النفقات المخصصة لهذا البند في الموازنات العامة للدولة.
على مدار السنوات السابقة، جرت في سورية عملية تقليص شديدة لنسبة النفقات الاستثمارية من إجمالي النفقات الحكومية، وبينما كان شكل النفقات في عام 2011 (54% إنفاق جاري، و46% إنفاق استثماري)، أصبح في عام 2023 (82% إنفاق جاري، و18% إنفاق استثماري).
خامساً: إعفاءات «سخية» للضرائب على الأرباح
تشدد وصفات الصندوق على ضرورة تقديم إعفاءات «سخية» من الضرائب المفروضة على الأرباح والمداخيل التي يحققها رأس المال الخاص من نشاطه في المشروعات الاقتصادية.
على هذا الصعيد بالذات، تتسم سورية بوضع ملفت للانتباه، فهي لم تطبق وصفات الصندوق فحسب، بل تجاوزته بكثير.
على سبيل المثال: يؤكد الصندوق أنه يجب على أي دولة تريد أن تحقق تنمية أن تضمن نسبة إيرادات ضريبية من الناتج المحلي الإجمالي لا تقل عن 15%. أما النسبة في سورية فهي لا تتجاوز 8.3% في أحسن الأحوال. وفوق ذلك، فهي واحدة من أولى الدول على صعيد التهرب الضريبي من جانب أصحاب الأرباح، فالفاقد الضريبي الناجم عن تهرب أصحاب الأرباح فقط كان بالحد الأدنى ووفقاً لأكثر الحسابات «تسامحاً» 52 مليار ليرة سورية في 2010 ووصل إلى 2.5 تريليون ليرة في 2022!
إجراءات صارمة لوصفات معروفة النتائج مسبقاً
كانت أمام سورية قائمة طويلة من الدول التي قررت الإذعان لإملاءات صندوق النقد الدولي. وفي جميع تلك الحالات، انطوت وصفات الصندوق على إجراءات من شأنها تخفيض الموارد الحكومية في نهاية المطاف، وصولاً إلى وضعٍ لا يعد فيه أمام الدولة التي تذعن لهذه السياسات سوى تخفيض حجم إنفاقها الجاري الموجه للخدمات الاجتماعية وتجميد الاستثمارات العامة وحصرها في أضيق الحدود. وهي المفاصل التي تضر في الصميم مصالح الفقراء ومحدودي الدخل وتؤدي إلى إبطاء أو حتى إيقاف عجلة النمو الاقتصادي.
ولا يجب التغافل عن أنه لتنفيذ وصفات الصندوق على النحو المذكور آنفاً، فإن ثمة عنصراً مشتركاً لدى جميع الدول التي طبقت وصفاته، وهو أن مساحات الديمقراطية تضيقت فيها إلى حدود لا يمكن تصورها، بهدف ضمان قمع الجماهير التي تهب للدفاع عن وجودها وعن مصالحها المستهدفة بهذه السياسات.
وقد انتهى المطاف بجميع الدول التي التزمت بوصفات صندوق النقد الدولي إلى حدوث انهيارات اقتصادية ومالية واضحة، وتفاقم الركود التضخمي فيها، وإلى تفاوت شديد في توزيع الثروة، مع تعريض مستوى المعيشة لأغلبية السكان لتدهورٍ شديد، وإلى نمو حجم الدين العام، وزيادة هروب وتهريب الأموال للخارج.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1175