حول افتراء أمريكي - غربي اسمه «فخ الديون الصينية»
غالباً ما يروج السياسيون ووسائل الإعلام الأمريكية للرواية القائلة بأن الصين تغري الدول النامية بقروضٍ مفترسة عالية الفائدة لبناء مشاريع البنية التحتية كجزء من المبادرة الصينية المعروفة باسم «الحزام والطريق». ووفقاً لما تزعمه الرواية الغربية، تتوقع الصين أن تتخلف الدولة المقترضة عن سداد هذا القرض، حتى تتمكن بعد ذلك من الاستيلاء على أصول الدولة المقترضة من أجل توسيع نفوذها العسكري أو الجيوستراتيجي، وهو دليل - وفقاً للمزاعم- على ما يسمى باستعمار الصين لجنوب الكرة الأرضية.
يجد مفهوم «دبلوماسية فخ الديون» الصينية أصوله في مقال «أكاديمي» نشره عام 2017 مركز أبحاث في شمال الهند، مخصص للحديث عن تمويل الصين لميناء هامبانتوتا في سريلانكا. ثم تم اختيار المفهوم من جانب اثنين من طلاب الدراسات العليا في جامعة هارفارد في عام 2018، وذلك عندما نشرا ورقة تتهم الصين بـ«دبلوماسية الديون» و«الاستفادة من الديون المتراكمة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية».
سرعان ما تم الاستشهاد بهذه الورقة الركيكة علمياً على نطاق واسع من جانب وسائل الإعلام العاملة بأمرٍ غربي، وتسربت فكرة «فخاخ الديون» الصينية إلى واشنطن ودوائر الاستخبارات، وبعد وقت قصير، أي بحلول شهر تشرين الثاني 2018، بات لدى محرك بحث «غوغل» ما يقارب مليوني نتيجة عن عبارة «دبلوماسية فخ الديون».
اكذب ثم اكذب ثم اكذب.. حتى يصدقك الناس
في واقع الأمر الآن، أصبحت لازمة «دبلوماسية فخ الديون» اتهاماً متكرراً من الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة: حيث روجت له إدارتا ترامب وبايدن على حد سواء، وتمّ تعزيزه بشكل أكبر من جانب منظمات الهيمنة الغربية، مثل مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية، ووسائل الإعلام المملوكة للشركات مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وذا هيل.
في إحدى الحالات المثيرة للسخرية، والتي ينبغي حشرها في أنوف المؤمنين بحيادية الإعلام الغربي ومهنيته، قامت شبكة BBC الإخبارية بنشر مقابلة مع الباحثة المرموقة والمعروفة بتحليلاتها التي تنكر كذبة «فخ الديون الصينية»، ديبورا بروتيغام. وما كان من BBC التي تدعي المهنية سوى أن حذفت كل ما يشير إلى موقف بروتيغام الرافض لكذبة «دبلوماسية الديون الأمريكية»، وأبقت على جزء وحيد تشرح فيه الباحثة هذه الفكرة من وجهة نظر أعداء الصين!
تهافت أساسات أسطورة «دبلوماسية فخ الديون الصينية»
بشكل عام، ثمة ثلاث مشاكل في أسطورة «دبلوماسية فخ الديون».
المشكلة الأولى هي أن هذه الأسطورة تفترض أن الصين تملي من جانب واحد مشاريع مبادرة «الحزام والطريق» لجذب الدول الأخرى إلى الحصول على هذه القروض «المفترسة». لكن في الواقع، تمويل التنمية الصيني مدفوع إلى حد كبير من خلال التفاعلات والصفقات الثنائية. حيث يتم تحديد مشاريع البنية التحتية من قبل الدولة المتلقية، وليس الصين، بناءً على مصالحها الاقتصادية والسياسية الخاصة.
المشكلة الثانية في الأسطورة هي أنها تعتمد على افتراض أن السياسة الصينية هي تقديم قروض «مفترسة» بشروط وأحكام مرهقة لإيقاع الدول في شرك الديون. لكن في الواقع، غالباً ما تقدّم الصين قروضاً بأسعار فائدة منخفضة إلى حدٍ بعيد، وغالباً ما تكون على استعداد لإعادة هيكلة شروط القروض الحالية لتكون أكثر ملاءمة للبلد المقترض، أو حتى الإعفاء من القروض تماماً.
المثال الفاقع على ذلك هو ما جرى في آب من عام 2022، حين أعلنت الحكومة الصينية أنها ستسامح 23 قرضاً بدون فوائد في 17 دولة أفريقية. وقبل ذلك، بين عامي 2000 و2019، أعادت الصين أيضاً هيكلة ما مجموعه 15 مليار دولار من الديون وأعفت 3.4 مليار دولار من القروض التي قدمتها للدول الأفريقية.
وأخيراً، فإن المشكلة الثالثة في رواية «دبلوماسية فخ الديون» هي أنه على الرغم مما تدعيه، فإن الصين لم تستولي أبداً على أي أصل في أي دولة بسبب أن هذه الدولة تخلفت عن سداد قرض.
عن تجربة الصين في ميناء هامبانتوتا في سريلانكا
كان ميناء هامبانتوتا في سريلانكا واحداً من أوائل الأمثلة على ما يسمى «دبلوماسية فخ الديون» الصينية. تقول الرواية الغربية التقليدية إن سريلانكا أرادت بناء ميناء على ساحلها الجنوبي في قرية هامبانتوتا، كجزء من مبادرة «الحزام والطريق» الصينية. ثم منحت البنوك الصينية سريلانكا هذه القروض «المفترسة» لبناء الميناء مع افتراض أن الحكومة ستتخلف عن سداد ديونها، ما سمح للصين بالاستيلاء على الميناء مقابل تخفيف الديون وإنشاء موقع بحري صيني هناك.
وبما أن تمويل التنمية الصيني عادة ما يكون مدفوعاً برغبة المستفيدين من القروض، فقد تم اقتراح الميناء من جانب الحكومة السريلانكية، وليس من جانب الصين، وكان الميناء موضوعاً لخطة حكومية كانت لدى البلاد لعدة عقود، وذلك قبل فترة طويلة من مبادرة «الحزام والطريق». وفي الواقع، اتصلت الحكومة السريلانكية أولاً بالهند والولايات المتحدة لتمويل الميناء. بعد أن قال كلا البلدين لا، اقتربت من الصين. وفازت شركة إنشاءات صينية، هي مجموعة «تشاينا هاربور»، بالعقد ووافق بنك صيني على تمويله. لذلك لم يكن ميناء هامبانتوتا اقتراحاً صينياً بهدف دفع مبادرة «الحزام والطريق» لتغليب المصالح الصينية كما تحاول المنشورات الغربية أن تقول، بل حدث هذا كله في عام 2007 أي قبل ست سنوات من إطلاق مبادرة «الحزام والطريق» وبطلبٍ سريلانكي رسمي.
ثمة مشكلة أخرى تتعلق بالإشارة إلى هذا على أنه «دبلوماسية فخ الديون» الصينية، وهي أن عبء ديون سريلانكا كان يرجع في جزء صغير منه فقط إلى الإقراض الصيني. في عام 2017، كان لدى سريلانكا أكثر من 50 مليار دولار من الديون الخارجية، و9% منها فقط مملوكة للصين.
في الواقع، تم تضخيم ديون سريلانكا في المقام الأول من خلال اقتراض القروض الغربية: حيث كانت الحكومة مدينة للبنك الدولي واليابان أكثر بكثير من الصين. وبسبب سقوط سريلانكا في الديون، رتبت الحكومة ما وصفته بـ«خطة إنقاذ» من خلال صندوق النقد الدولي. وتبيّن أن ميناء هامبانتوتا بحلول ذلك الوقت كان فشلاً تجارياً، لذلك قررت الحكومة السريلانكية أيضاً تأجيره لشركة ذات خبرة من أجل استخدام هذه الأموال لسداد ديونها. اتصلت حكومة ماهيندا راجاباكسا، الرئيس في ذلك الوقت، أولاً بالشركات الهندية واليابانية، وكلها رفضت العرض. ثم تفاوضت مع شركة China Merchants Ports Holdings، وهي شركة صينية مملوكة للدولة، لاستئجار الميناء مقابل 1.12 مليار دولار، والتي استخدمتها لسداد ديون أخرى ليست ديون للصين!
بعبارةٍ أخرى، لم تكن ثمة مبادلة ديون بأصول كما تقول المزاعم الغربية، وما حدث للميناء لم يكن «استيلاء» على الإطلاق، بل كان تأجيراً هدفه جمع الأموال، مما سمح لسريلانكا بسداد ديون أخرى والتعامل مع قضايا أخرى ليس للصين شأن بها.
وأخيراً، يزعم الكثيرون أن الصين استولت على ميناء هامبانتوتا لأغراض عسكرية. حتى أن نائب الرئيس الأمريكي آنذاك، مايك بنس، أعرب عن «خوفه» من أن الميناء «سيصبح قريباً قاعدة عسكرية أمامية لبحرية المياه الزرقاء المتنامية في الصين». لكن هذا لم يحدث أبداً، حيث أصرّ الدبلوماسيون والسياسيون السريلانكيون على أن استخدام الصين للميناء كقاعدة بحرية عسكرية لم يكن موضوعاً أبداً في محادثاتهم مع بكين، حتى أن سفير سريلانكا لدى الصين، كاروناسينا كوديتواكو، قال صراحة في مقابلة إن «الصين لم تطلب منا هذا أبداً. ونحن لم نعرضه أبداً». واليوم، لا يسمح للسفن البحرية الصينية باستخدام الميناء، بل إنه مخصص للقيادة البحرية لسريلانكا فقط.
وفي الآونة الأخيرة، بدءاً من شهر آذار 2022، شهدت سريلانكا احتجاجات حاشدة، حيث خرج الناس إلى الشوارع محبطين بسبب نقص الوقود وارتفاع تكاليف المعيشة. ومرة أخرى، انتهزت وسائل الإعلام الغربية مثل «واشنطن بوست» و«سي إن بي سي»، و«أسوشيتد برس» والعديد من وسائل الإعلام الأخرى، الفرصة لإلقاء اللوم على «الإقراض الصيني» في «إغراق» سريلانكا في أزمة اقتصادية.
وبتحويل اللوم بعيداً عن دور صندوق النقد الدولي، وصفت صحيفة وول ستريت جورنال الصين بأنها «أكبر دائن لسريلانكا» وأن سياساتها الإقراضية «ساعدت في خلق» الأزمة في البداية. لكن مرة أخرى، هذا غير صحيح. واعتباراً من عام 2021، كانت 81% من ديون سريلانكا مملوكة للمؤسسات المالية الغربية والحلفاء الغربيين مثل اليابان والهند. وأقل من 10% مملوكة لبكين. والواقع أن صندوق النقد الدولي وحده كان قد منح في ذلك الوقت قروضاً لسريلانكا 16 مرة، واستمر في إعادة هيكلتها في أوقات الأزمات الاقتصادية لصالح دائنيه. بمعنى واضح، لا يوجد «فخ ديون» صيني في هذه المسألة، وإقراض المؤسسات المالية الغربية وما يصاحبه من تقشف قسري وليبرالية جديدة تضرب الاقتصاد هو الذي خلق أزمة سريلانكا.
وهذه قصة مطار إنتيبي الدولي في أوغندا
في تشرين الثاني 2021، نشرت صحيفة «ديلي مونيتور» الوطنية الأوغندية قصة بعنوان «أوغندا تتنازل عن الأصول الرئيسية مقابل أموال الصين». وادعى المقال أنه ما لم يعاد التفاوض على بعض الأحكام الواردة في العقد لتوسيع مطار إنتيبي الدولي في أوغندا، فإن البلد معرض لخطر إجباره على تسليم المطار إذا لم يسدِّد القرض.
وبلغت قيمة القرض المذكور الممنوح لأوغندا لتوسيع المطار 207 ملايين دولار بفائدة 2% من بنك التصدير والاستيراد الصيني، وهو مشروع في إطار مبادرة «الحزام والطريق».
انتشر العنوان على نطاق واسع، حتى أن صحيفة «ديلي شو» بثت مقطعاً يغطي القصة كأحدث مثال مفترض على «دبلوماسية فخ الديون» الصينية، كما تم التقاطه من قبل صحيفة «وول ستريت جورنال» وصحيفة «إيكونوميك تايمز» الهندية، حيث ادعى الأول أن «بنداً في اتفاقية مع الدولة الأفريقية قد أثار جدلاً حول ما إذا كانت البلاد قد وقعت ضحية السيطرة المالية المفروضة على مطار إنتيبي الدولي».
ولكن وفقا لتحليل أجرته AidData، التي حصلت على نسخة من العقد، لم يكن المطار حتى مصدراً للضمانات التي يمكن للطرف المقرض الاستيلاء عليها في المقام الأول! فما تطلبته شروط الاتفاقية هو وضع الضمانات النقدية في حساب ضمان منفصل، يمكن بعد ذلك الحجز عليه في حالة التخلف عن السداد - وهو بند مثالي إلى حد ما لتمويل المشاريع الدولية.
بعد فترة، دفع انتشار القصة الغربية التي انتشرت مثل الفيروس المتحدث باسم هيئة الطيران المدني الأوغندية، فياني إم لوجيا، إلى نفي مزاعم الخطط الصينية للاستيلاء على المطار جملة وتفصيلاً.
وعلى الرغم من كل الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك، فإن ذلك لم يمنع المصادر الإعلامية الغربية من نسج رواياتها الخاصة.
فخ الديون الحقيقية.. انظروا غرباً تجدون الحقيقة
من الواضح أن ما يعرف بـ«دبلوماسية فخ الديون» الصينية هي رواية أمريكية مقدمة لإخفاء سياساتها الإمبريالية المكشوفة، لصرف الانتباه عن ممارسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الخاصة بدفع القروض المفترسة ذات أسعار الفائدة المرتفعة للغاية إلى دول الجنوب العالمي.
الجدير بالذكر أن القروض الصينية تُمنح اليوم لمشاريع البنية التحتية، التي تعتبر حاسمة لتنمية أي بلد، فهي ليست مرتبطة بمشاريع الخصخصة والتكيف البنيوي كما هي قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
والواقع أن قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تُمنح بشروط خصخصة القطاعات العامة، وتدمير برامج الرعاية الاجتماعية، وتحرير التجارة لإثراء المصالح الرأسمالية الغربية. وتضمن أسعار الفائدة المفترسة عدم إمكانية سداد هذه القروض أبداً، ما يبقي البلدان المقترضة فقيرة ويحبسها في حالة من التخلف لضمان المزيد من النهب وتوجيه الموارد نحو أيدي هؤلاء الرأسماليين الغربيين أنفسهم. هذا هو فخ الديون الحقيقي!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1123