جمركة الموبايلات وغلاء اللابتوبات.. زيادة كبح تطور الكوادر السورية

جمركة الموبايلات وغلاء اللابتوبات.. زيادة كبح تطور الكوادر السورية

يمكن اليوم معاينة الآثار الكارثية التي تركتها سنوات الحرب في جميع مجالات الحياة في سورية، بينها ما هو وليد مرحلة الحرب، وبينها ما هو ناشئ عن طبيعة الحكم وإدارة الاقتصاد في البلاد. ومن بين عوامل القهر العديدة، تعاني شريحة واسعة من السوريين - ولا سيما من فئة الشباب والطلاب- من عجزها عن امتلاك هاتف أو لابتوب محمول قادر على تلبية متطلباتها المتزايدة موضوعياً، ذلك في ظل أسعارٍ فلكية ورسوم جمركية استثنائية على صعيد المنطقة والعالم.

منذ بضعة سنوات، اشتكى الكثير من دكاترة الجامعات في سورية من ظاهرةٍ آخذة في النمو، وهي لجوء العديد من طلاب الكليات لكتابة حلقات البحث الخاصة بهم بالاعتماد على هواتفهم المحمولة، وذلك لعجزهم آنذاك عن امتلاك لابتوب خاص بهم في ظل الارتفاع الكبير في أسعار اللابتوبات في السوق السورية. أما اليوم، ومع اشتداد تدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع أسعار جمركة الموبايلات، فقد بات يعجز الكثيرون حتى عن شراء الموبايلات.


1108a


الرسوم الجمركية تقود ارتفاع الأسعار

في منتصف الشهر الماضي (كانون الثاني 2023)، ارتفعت أسعار الرسوم الجمركية للهواتف في سورية للمرة الثالثة دون إعلان رسمي، وذلك بعد أن تم رفعها للمرة الأولى في شهر أيلول 2022 دون إعلان، وللمرة الثانية في بداية عام 2023 أيضاً دون إعلان). وكما جرت العادة، ما إن تم رفع الرسوم، حتى ارتفعت أسعار الموبايلات في عموم البلاد وبنسبٍ كبيرة، في وقتٍ يؤكد فيه أصحاب محلات الموبايلات أن رفع الرسوم هو السبب في هذه الارتفاعات في أسعار الموبايلات. وهو ما يدفع الكثير من الناس إلى اللجوء نحو شراء الموبايلات القديمة المستعملة التي تكثر أعطالها وتُدخل أصحابها في دوامة الصيانة والاعتماد على قطع التصليح مجهولة المصدر التي تكثر فيها حالات الغش.
وبحسب مديرية الجمارك العامة، فإن المعني بتحديد هذه الرسوم هي الهيئة الناظمة للاتصالات، بينما يقتصر دور الجمارك فقط على تحصيل هذه الرسوم «لكونها ترد في البيان الجمركي من دون أن يكون لها دور في تعديل هذه الرسوم»، فهل يمكن اعتبار جمركة الهواتف في سورية منطقية أو حتى قريبة من المنطق؟

أكثر من 85% رسوم جمركية!

أول الأسئلة التي ينبغي طرحها في هذا السياق، هو لماذا لا يوجد إعلان واضح وصريح للآلية التي تُحسب وفقها الضريبة على الموبايلات؟ حيث تكتفي وزارتا المالية والاتصالات والتقانة بالإعلان عما تسميه «أسعاراً استرشادية» لأجهزة الموبايل، والتي تتوزع على أربعة شرائح: الشريحة الأولى والدنيا بسعر استرشادي 50 دولاراً، والشريحة الثانية بسعر استرشادي 120 دولاراً، والشريحة الثالثة 210 دولارات، والرابعة 270 دولاراً.
ومن أجل فهمٍ أوضح لآلية احتساب الرسوم الجمركية للموبايلات، ليس لنا إلا أن نأخذ عينة من أرض الواقع. حيث قام أحد المواطنين بشراء موبايل من إحدى دول الجوار بسعر 360 دولار، وعندما توجّه إلى أحد فروع شركة «سيرتيل» لدفع الرسوم الجمركية، جاءته الفاتورة وفقاً للبنود التالية: (قيمة أجر التصريح: 1,282,820 ل.س، وقيمة رسم الخدمة 96,180 ل.س، خدمة الطباعة: 340 ل.س، رسوم طابع الإيصال: 360 ل.س). أي أنه دفع في المجموع رسوماً جمركية بمبلغ 1,379,700 ل.س (306,6 دولار، حسب سعر الصرف في النشرة الرسمية آنذاك). بكلامٍ آخر، فإنه دفع رسوماً جمركية تعادل حوالي 85.1% من ثمن الموبايل.


1108b


الاستثناء السوري: مقارنة مع غيرنا من الدول

تفرض السعودية - التي تعتبر واحدة من أعلى الدول على صعيد نسبة الضرائب- رسوماً على الموبايلات الداخلة إلى البلاد تعادل ما يقارب 26% من ثمن الموبايل (توزع 11% كرسوم جمركية، و15% ضريبة قيمة مضافة). وفي لبنان، تصل الرسوم إلى ما يقارب 16% (5% رسوم جمركية و11% ضريبة قيمة مضافة)، وفي الأردن أيضاً، لا تتجاوز الرسوم الجمركية على الموبايلات عتبة 16%. أما في مصر، فإن الرسوم ليست أكثر من 10%. أي أن المواطن السوري يدفع رسوماً جمركية على الموبايلات تزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف ما يدفعه المواطن السعودي، وثمانية أضعاف ونصف ما يدفعه المواطن المصري!


1108d


أعمار السوريين المسروقة: معاينة من الواقع

ثمة جانب آخر في نقاش هذه المسألة لا ينحصر عند حدود الرسوم الجمركية فحسب، بل وكذلك قدرة الأجور في سورية على شراء اللوازم التكنولوجية مقارنة بغيرها. ولتوضيح مقدار المفارقة، سنأخذ عينتين: الأول هو موبايل Xiaomi Redmi Note 10 5G، والثاني هو لابتوب HP 14s fq0042ne، وهي أنواع تعتبر من الفئة المتوسطة. حيث يبلغ وسطي سعر الأول في السوق العالمية حوالي 175 دولار، أما الثاني فحوالي 490 دولار.
وإذا أخذنا بالاعتبار أن الحد الأدنى للأجور يقارب 366 دولار في الأردن، و308 دولار في العراق، و120 دولار في مصر، و64 دولار في لبنان، بينما لا يتجاوز 13,3 دولار في سورية، نكون أمام الواقع التالي:
يحتاج المواطن الأردني إلى أقل من نصف راتبه (47.8%) لشراء الموبايل المذكور، وإلى راتب وثلث (133.8%) لشراء اللابتوب، والمواطن العراقي إلى 56% من راتبه لشراء الموبايل، وإلى راتب ونصف تقريباً (159%) لشراء اللابتوب، والمواطن المصري إلى أقل من راتب ونصف (145.8%) لشراء الموبايل، وإلى حوالي أربعة رواتب (408.3%) لشراء اللابتوب، والمواطن اللبناني إلى أقل من ثلاثة رواتب (273%) لشراء الموبايل، وإلى سبعة رواتب ونصف تقريباً (765%) لشراء اللابتوب.
أما المواطن السوري، فإنه يحتاج إلى ثلاثة عشرة راتباً تقريباً (1315%) لشراء الموبايل المذكور، وإلى 36 راتباً لشراء اللابتوب (3684%)، هذا دون حساب الرسوم الجمركية على الموبايل!


1108c


عودة إلى الرسوم الجمركية.. ضد أم مع؟

الأكيد أن الضرائب هي جزء ضروري من بناء الدولة، والأكثر تأكيداً هو أن المشكلة لا تكمن في الرسوم المرتفعة بحد ذاتها، بل في القدرة على دفعها وفي أن الرسوم المرتفعة يقودها منطق الجباية أولاً. ذلك دون إغفال العديد من التقديرات التي تؤكد أن ارتفاع الرسوم الجمركية للموبايلات (وغياب الشفافية والتفاصيل التي يتم وفقها حساب الرسوم الجمركية في عمليات التصريح الإفرادية) هدفها ليس رفد ميزانية الدولة بالأموال بقدر ما هي محاولة لإجبار المواطنين على حصر التعامل مع كبار محتكري استيراد الموبايلات في البلاد.
مجدداً، تعتبر الضرائب والرسوم نظرياً واحدة من آليات إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، حيث تكون الضرائب إحدى مصادر تمويل المشاريع الجديدة وبالتالي إحدى دوافع النمو الاقتصادي، وكذلك تمويل الدعم الاجتماعي الحكومي للأجور والتعليم والزراعة والصناعة والخدمات وغيرها.. لكن في سورية، فإن زيادة الجباية لم ترتبط يوماً بتحسين واقع أصحاب الأجور في البلاد. بل على العكس من ذلك، ورغم أن أجورهم تتآكل وتتضاءل قيمتها الحقيقة يومياً، يدفع أصحاب الأجور نسبة من أجرهم للضرائب (18%) تفوق النسبة التي تدفعها شركتا الاتصالات في البلاد على ربحهما مثلاً (14%).
وخصوصية المسألة التي نتحدث عنها في هذا الصدد تكمن في أن عدم قدرة الشباب والطلاب بشكلٍ خاص على امتلاك ما يساعدهم في إنجاز تحصيلهم العلمي وتدريبهم العملي يهدد موضوعياً بتراجع كفاءة هذه الكوادر. ذلك في ظل تحول اقتصاد البلاد بهذا الشكل أو ذاك إلى «اقتصاد هجرة» يعتمد في جزء أساسي على هجرة الكفاءات والتحويلات المالية لذويهم.

سؤال لا بد منه

ثمة سؤال لا بد من طرحه أخيراً، وهو أنه من الملفت أنه في رسوم جمركة الموبايلات في سورية هنالك ما يسمى بـ«رسم الخدمة»، وهو يشكل -وفقاً للحالة التي استعرضناها في المقال- ما يقارب 7% من إجمالي المبلغ المدفوع لقاء الجمركة. فلمن يذهب هذا المبلغ؟ وإذا كان يذهب - كما يشير البعض- إلى شركتي الاتصالات، فلماذا هذه النسبة المرتفعة ومقابل ماذا؟ هل تتطلب عملية الجباية التي تسمى هنا «خدمة» هذه النسبة؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1108
آخر تعديل على الإثنين, 06 شباط/فبراير 2023 10:33