كي لا ندفع ثمن الزلزال مرتين.. «اجتثاث الفساد» ضرورة كبرى!

كي لا ندفع ثمن الزلزال مرتين.. «اجتثاث الفساد» ضرورة كبرى!

حتى اللحظة، يصعب حصر الخسائر الاقتصادية التي خلّفها الزلزال المدمّر الذي ضرب مناطق جنوبي تركيا وشمال سورية فجر يوم الإثنين 6/2/2023. فعدا عن الخسائر البشرية السورية التي قاربت 5000 حالة وفاة وأكثر من 7 آلاف إصابة (حتى ساعة كتابة هذه السطور)، تكبدت سورية خسائر اقتصادية مباشرة لم يتم الكشف عنها رسمياً ولو بشكلٍ تقريبي بعد، وخسائر اقتصادية غير مباشرة ستؤثر بشكلٍ مؤكد على الاقتصاد الوطني لسنواتٍ قادمة.

ساد اعتقاد لدى بعض السوريين أن تعرُّض البلاد لهذه الكارثة الجديدة من شأنه أن يدفع الاقتصاد السوري إلى الأمام قليلاً كنتيجة لتدفق أموال المساعدات واجتذاب كتلة دولارية جديدة من الخارج، ولا سيما بعد إعلان وزارة الخزانة الأمريكية عن تخفيف بعض القيود التي تفرضها العقوبات الأمريكية على سورية لمدة 6 أشهر (رغم كل المزاعم السابقة حول أن العقوبات الغربية لا تؤثر على وصول المساعدات الإنسانية إلى سورية)، وذهب بعضهم إلى حدّ انتظار تحسن كبير ودائم في سعر صرف الليرة السورية كنتيجة لذلك. فهل هنالك ما يدعم هذا الاعتقاد؟ وأي دور يمكن أن يلعبه الفساد السوري فيما سيلي من أيام الكارثة.


1109a


دور الفساد الكبير في تضخيم آثار الكارثة

كما سبق لنا أن ذكرنا، فإن نسبة الوفيات إلى المصابين ملفتة للنظر عند مقارنة سورية بتركيا، ففي حين بلغت النسبة في تركيا (وفقاً لإحصاءات الأحد 12/02/2023) أن ضحيتين فارقتا الحياة مقابل كل 10 إصابات، وصلت النسبة في سورية إلى 6 مقابل كل 10 إصابات! وهو ما يعكس بشكلٍ مباشر الخلل العام في الأبنية المنهارة، وبطء الاستجابة الضرورية، وضعف إمكانات الإغاثة...
بهذا المعنى، دفع السوريون المنكوبون في هذه الكارثة ثمناً باهظاً لفاتورة الفساد الكبير ونهبه المستمر للدولة خلال عقود من الزمن، الأمر الذي ترك البلاد في وضع شديد الهشاشة إزاء أية كارثة إنسانية حدثت أو ستحدث لاحقاً. وفوق ذلك، فإن استمرار تقسيم الأمر الواقع للبلاد إلى «مناطق نفوذ» - وهو ما يتحمل مسؤوليته الفساد الكبير الذي عطّل الحل السياسي واستعادة وحدة البلاد على مدار سنوات - قد فاقم بشكلٍ ملموس من آثار الكارثة الحالية. هذا إن لم ندخل في التفاصيل ونتحدث عن دور هذا الفساد في السماح لعدد كبير من المتعهدين بإنشاء أبنية غير مطابقة للمواصفات، (منذ عام 1995، كان يجب أن يكون كل بناء يتجاوز الأربع طوابق مدروساً ومقاوماً للزلازل، لكن لم يكن هنالك التزام فعلي بذلك، علماً أنه وفقاً للباحث في جامعة البعث السورية، وعضو لجنة الكود السوري لتصميم المباني، عصام ملحم، فإن الفرق في التكلفة بين بناء مقاوم للزلازل وآخر غير مقاوم لها ليس كبيراً، حيث تصل الزيادة إلى 10% فقط. لكن منظومة الفساد الموجودة سمحت بأن تكون الأمور مدروسة وقانونية على الورق، لكن في التنفيذ لا يتم الالتزام بالمواصفات الضرورية).


1109-3


فاجعتنا فرصة لهم.. المزيد من النهب آتٍ في الطريق!

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 6.1 مليون مواطن سوري تضرروا من الزلزال، بينهم ما يقارب 400 ألف شخص اضطروا لمغادرة منازلهم، بينما تؤكد تقديرات منظمة الصحة العالمية أن عدد من تضرروا من الزلزال قد ارتفع إلى حوالي 11 مليون في سورية، وتضرر عدد كبير من المنازل لم يتم الانتهاء من إحصائه بشكل كامل بعد، بينما أعلنت وزارة التربية السورية تضرر ما لا يقل عن 600 مدرسة حكومية.
في هذا الصدد، ثمة بعض الأوساط الأكاديمية والإعلامية التي سارعت إلى تقدير حجم الخسائر الأولية بما يقارب 1.1 مليار دولار، وإلى تقدير التكلفة الاقتصادية للزلزال بما يقارب 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي للفرد، لمدة قد تصل إلى 8 سنوات. بينما تشير تقديرات أخرى، إلى أن الخسائر ممكن أن تصل إلى 20 مليار دولار في تركيا، و3 مليارات في سورية، لكن في كل الحالات، فإن الخسائر غير المباشرة في البلدين قد تتجاوز هذه الأرقام.
هذه التقديرات - وما سيتبعها من تدقيق في قادم الأيام - تشير إلى أن البلاد بحاجة فعلية إلى إنفاق الموارد لتجاوز آثار الكارثة. وبطبيعة الحال، ليس لدى الفساد الكبير في البلاد (الذي يكدس ثروات قادرة على انتشال البلاد من كوارث عدّة) سوى استجداء المساعدات من الخارج. لكن، وكما يتيقن السوريون من تجارب السنوات السابقة، فإن أي مبلغ أو مساعدة تصل إلى سورية، ومهما كانت كبيرة، بإمكانها أن تتبخر وتختفي في أقنية الفساد الكبير الممتدة إلى جميع شرايين الدولة والمجتمع. وهو ما تثبته ليس التجربة السورية فحسب، بل وكذلك تجارب دول أخرى تحولت مصائبها إلى مصادر إضافية لكبار الفاسدين فيها.


1109b


الأرباح للفساد الكبير والكارثة للمنكوبين

تزخر الأبحاث وصفحات الكتب بالأمثلة على أموال المساعدات التي تبخرت بعد الكوارث في العالم: بعد تعرضها لزلزال مدوي في 2010، حصلت هاييتي على مساعدات خارجية تقدّر بـ13.5 مليار دولار، أي ما يكافئ ضعف ناتجها المحلي الإجمالي آنذاك، لكنها تبددت في أقنية الفساد، وزاد وضع المنكوبين سوءاً منذ ذلك الحين. وكذلك الحال في بويرتوريكو، التي ضربها إعصار ماريا عام 2017، ثم وصلتها أموال تقدر بـ3.8 مليار دولار لإصلاح الشبكة الكهربائية، بينما لا يزال المواطنون هناك دون كهرباء.
وصل الأمر في بعض الحالات إلى حدود تثير السخرية، في هاييتي ذاتها مثلاً، حصلت الحكومة على 1% فقط من المساعدات التي وصلت إلى البلاد، بينما تبددت 99% منها في الجمعيات غير الحكومية NGOs دون أن يُعرف مصيرها (في كثيرٍ من الحالات حول العالم، تمثل الجمعيات غير الحكومية غطاءً «إنسانياً» للفساد المحلي كي يستطيع شفط الأموال المخصصة لإغاثة المحتاجين، ويجري ذلك في أغلب الأحيان بتواطئ غير معلن بين الفساد المحلي والمانحين الدوليين).
لهذا، فإن مصير أية مساعدات ستدخل سورية، في ظل منظومة الفساد الكبير المستشرية والمتحكمة في جميع مجالات الحياة، ستكون عرضة هي الأخرى للنهب والضياع كما ضاعت جميع المساعدات والمعونات الاقتصادية التي قدمتها الدول الصديقة لسورية سابقاً.


1109c


هل حقاً ليس هنالك حل للنهب؟

في الحديث الدائر بكثافة عن المساعدات في سورية هذه الأيام، ثمة من يكرر الترويج لفكرة أن «الفساد موجود في كل مكان في العالم» وأنه ليس هنالك من مناص لعكس هذه الحالة في سورية. وعدا عن أنه من الواضح أن هذا الترويج هدفه الإبقاء على الوضع الحالي، فإن هذه الفكرة تغيّب أبسط البديهيات التي لا يمكن نكرانها: ليس هنالك أسهل من ضبط عمليات الفساد لو كان هنالك قرار سياسي بمحاربتها.
وقد يبدو السؤال ساذجاً لشدة بساطته: ما الذي يمنع أصحاب القرار الفعلي في البلاد من الكشف عن كامل المبالغ المالية والسلع التي تم التبرع بها داخلياً وخارجياً، وضمناً وجهات الإنفاق والمستفيدين (حيث لا يحتاج هذا إلى أكثر من موقع إلكتروني يستطيع أياً كان مراقبة مدخلاته ومخرجاته). الإجابة البسيطة هي أن هؤلاء هم المستفيدون الفعليون من عمليات النهب هذه، وهم السبب في اعتكاف الناس عن التعامل مع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ومبادرتهم في هذه الكارثة لتنظيم بعض عمليات توزيع المساعدات وعمليات الإغاثة بأيديهم، الأمر الذي ساهم في رفع خبرة الناس في تنظيم أنفسهم، هذه الخبرة التي تصقلها الظروف التي أجبروا على العيش في ظلها خلال سنوات الأزمة كما هم مجبرون عليها اليوم.
تثبت الكارثة المستجدة مرة أخرى ما أثبتته الكوارث السابقة في درب الآلام السوري، وهو أن أية خطوة نحو الأمام في معيشة السوريين وأوضاعهم مرهونة باجتثاث الفساد الكبير الذي يمصّ دماء المنهوبين ويتربح من أوجاعهم المتراكمة كل يوم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1109