ما الذي يعنيه وصول الولايات المتحدة لسقف الدين العام؟
وصلت الولايات المتحدة الأمريكية منتصف شهر كانون الثاني - مرة أخرى- إلى سقف دينها العام. وبينما تعصف الخلافات في الكونغرس الأمريكي، ويتقلّص الإنفاق الحكومي الأمريكي، يتابع العالم باهتمام شديد تفاصيل هذه الخلافات ومآلاتها اللاحقة. يجري ذلك في ضوء محاولات محمومة من وسائل الإعلام للتركيز على المسألة بوصفها مجرد «نزاع داخلي» بين الجمهوريين والديمقراطيين، لا بوصفها تهديداً وجودياً للولايات المتحدة يتجاوز حدود الصراع السياسي الداخلي.
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن الدين العام هو مفهوم يشير إلى مقدار الأموال التي اقترضتها حكومة دولة ما (سواء من مواطنيها، أو شركاتها، أو الدول الأخرى)، وذلك بهدف تمويل مشاريعها والوفاء بالتزاماتها المالية بما في ذلك رواتب الموظفين الحكوميين والمشاريع الاجتماعية ودفع الفوائد على السندات الحكومية وما إلى ذلك. وحتى لا ينفلت الدين العام من عقاله كثيراً، غالباً ما يتم تعيين «سقف» لهذا الدين، وهو المستوى الذي لا يعود من الممكن عنده تحمل ديون إضافية.
وفي حالة الولايات المتحدة، تم رفع سقف الدين أو تمديده أو تعديله 78 مرة منفصلة منذ عام 1960. وحدث ذلك 49 مرة في عهد الرؤساء الجمهوريين و29 مرة في عهد الرؤساء الديمقراطيين. وآخر مرة تم فيها تثبيت سقف جديد للدين العام كانت في شهر كانون الأول عام 2021، وذلك عندما قامت الحكومة الأمريكية بإجراء رفعٍ جديد لسقف الدين إلى 31.4 تريليون دولار.
اليوم، بلغ الدين الوطني الأميركي 31 تريليون دولار، بسقف دين قدره 31.4 تريليون دولار، وهو ما يزيد بنسبة 20% عن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي (أي مجموع قيم جميع السلع والخدمات المنتجة في الولايات المتحدة). وهذا يمثل فقط المبلغ الذي تدين به حكومة الولايات المتحدة رسمياً، دون الأخذ في الاعتبار الاقتراض الذي قامت به الشركات والمواطنين بين بعضهم البعض.
قفزات استثنائية خلال سنوات قليلة
منذ عام 2008، بدأت الزيادة الحادة تحدث في الديون الأمريكية: فخلال 15 عاماً فقط، تضاعفت نسبة الديون الأمريكية إلى الناتج المحلي الإجمالي من 60% إلى أكثر من 120%، مما يشير إلى مسألة يغفلها كثيرون، وهي أن التطور السريع للولايات المتحدة خلال هذه الأعوام كان يعود إلى حد كبير إلى الازدياد الكبير في الديون التي تأخذها: تكفي الإشارة إلى أن الناتج المحلي الإجمالي نما على مدى 15 عاماً بنسبة 71.5%، بينما ارتفع حجم الديون بنسبة 457% (مقابل كل دولار واحد يذهب إلى الناتج المحلي الإجمالي، كان ثمة ما يقارب 6.5 دولار من الديون المستحقة).
رغم أن هنالك بعض الدول التي يعتبر وضعها كارثياً من حيث نسبة الديون إلى الناتج المحلي (مثل فنزويلا 350%، واليابان 266%، واليونان 206%، وإيطاليا 156%)، تبقى الولايات المتحدة الدولة الأولى من حيث الرقم المطلق للدين.
وتدين الولايات المتحدة بنحو 27% من إجمالي ديونها لمؤسساتها الحكومية، و33% للمواطنين والشركات الأمريكية، أما النسبة الأكبر فهي للدائنين الأجانب، بحوالي 40%. وأكبر دائني الولايات المتحدة هم اليابان (حوالي 1.2 تريليون دولار) والصين (حوالي تريليون دولار)، تليها المملكة المتحدة والبرازيل وأيرلندا. حيث أقرضت هذه الدول الخمس الولايات المتحدة أكثر من جميع البلدان الأخرى مجتمعة.
من أين تأتي الديون؟
ولماذا وصلت إلى هذا الحد؟
كما قلنا، تحتاج الدول إلى الاقتراض من أجل تنفيذ بعض المشاريع الحكومية (سواء مشاريع اجتماعية أو عسكرية أو غيرها). ويمكن الاقتراض من المواطنين أو الأجانب أو البنوك عن طريق إصدار سندات حكومية، ويمكن للدول أن تقترض أيضاً من البنك المركزي الخاص بها.
في وضع الولايات المتحدة، يلعب بنك الاحتياطي الفدرالي دور البنك المركزي، وهو الذي لديه احتكار حق طباعة الدولارات. فعلى سبيل المثال، تأتي الحكومة الأمريكية - ممثلة بوزارة الخزانة - إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي، وتقول إنها تحتاج إلى 500 مليار دولار لهذا الغرض أو ذاك. بدوره، يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي بطباعة الدولارات للولايات المتحدة بنسبة مئوية معينة تساوي سعر الفائدة الرئيسي. (أي إذا كان معدل الفائدة الرئيسي هو 4.5% مثلاً، فسيتعين على الحكومة إعادة ليس 500 مليار دولار، بل 522.5 مليار دولار).
وثمة طريقتان لسداد الديون: إما كسب المزيد من المال وسداد الديون عبرها، أو تحمل ديون جديدة لتغطية الديون القديمة. وتعمل الولايات المتحدة بالطبع وفقاً للطريقة الثانية. وكما هو الحال، إذا بدأت دولة ما في الحصول على الكثير من الديون لتغطية الديون القديمة، فستتوقف جميع البنوك عن إعطائها أموالاً جديدة وستقول لها: «كفى، سددي ديونك أولاً!» لكن الوضع ليس كذلك بالنسبة للولايات المتحدة، حيث يستمر الاستثمار في السندات الأمريكية، وذلك بسبب السيادة الأمريكية على العالم وتسيد الدولار كعملة عالمية ترتباط بها جميع الدول، وقدرة الولايات المتحدة على القيام بعمليات طباعة مستمرة للدولار ما يسمح لها بسداد ديونها.
الآن، تبلغ مدفوعات الفائدة على الديون 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، أي أن هذا هو المبلغ الذي يتعين على الولايات المتحدة إنفاقه سنوياً على خدمة الدين لفترة طويلة، ولكن نظراً لحقيقة أنه لا توجد أموال فإن المدفوعات تأتي من عمليات الاقتراض الجديدة. وفي غضون 10 سنوات، يتنبأ المحللون أن معدلات الفائدة ستبلغ ما يقارب 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ضعف ما هو عليه الآن!
ما هو دور الكونغرس في هذه العملية؟
قبل الصيف المقبل 2023، يجب على الكونغرس الأمريكي أن يقرر ما إذا كان سيرفع سقف الدين مجدداً ويقترض، أو أنه سيفرض التقشف، بما في ذلك التقليل من برامج الاستثمار، والتوقف عن دفع رواتب الموظفين الحكوميين، وبيع أصول الدولة، وما إلى ذلك من أجل البدء في سداد الديون. وتنتهي هذه العملية نظرياً في إعلان التخلف عن سداد الدين.
في العادة، يتصدر الديمقراطيون قائمة المطالبين برفع سقف الدين، بينما يرفض الجمهوريون زيادة سقف الدين، ولكن «المفارقة» التي تحدث دائماً، هي أن الحزب الجمهوري يرفض الذهاب نحو الخيار الثاني (أي بيع الأصول وتقليص الإنفاق)، مما «يضطره» للذهاب نحو الموافقة على رفع سقف الدين مقابل تقديم الديمقراطيين تنازلات في بعض المطارح.
ماذا سيحدث بعد ذلك؟
يقترح ممثل الحزب الجمهوري من ولاية بنسلفانيا، بريان فيتزباتريك، ربط الدين الأمريكي بالناتج المحلي الإجمالي: أي تحديد السقف بقيمة معينة، على سبيل المثال، أن يكون يمثل 125% من الناتج المحلي الإجمالي. لذلك، فإنه من أجل زيادة سقف الدين العام بنسبة 1%، من الضروري زيادة الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 1%. وبالنظر إلى المعدل السريع الذي نمت به الديون على مدى السنوات العشر الماضية، فإن هذا الخيار سيؤدي إلى توقف حاد في بعض عمليات الإنفاق، بما في ذلك تلك المتعلقة بالسياسة العسكرية والخارجية.
ورغم غلبة الجمهوريين في مجلس النواب، سيتم غالباً رفع سقف الدين مرة أخرى، وعلى الأرجح لن يكون هنالك تخلف عن السداد، حيث لا يزال لدى الولايات المتحدة الكثير من الفرص لكسب الأموال. وسوف تستمر الولايات المتحدة على وضعها الحالي الذي لا ينبئ إلا بمستوى جديد نوعي من الأزمة الأمريكية، حيث ليس هنالك ما يمكن فعله لتغيير الوضع الحالي دون تغيير النظام الاقتصادي والمالي للبلاد بشكلٍ جذري، وهذا بالتوازي مع تغييرات عالمية واسعة النطاق تجري أمامنا اليوم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1107