أحد جوانب المواجهة المستعرة اليوم: دور الممرات البحرية في الاقتصاد الدولي

أحد جوانب المواجهة المستعرة اليوم: دور الممرات البحرية في الاقتصاد الدولي

على مرّ التاريخ، كانت السيطرة على ممرات النقل إحدى أهم الضرورات لتحقيق الكفاءة العسكرية والاقتصادية وترجيح ميل كفّة موازين القوى الدولية لهذا القطب أو ذاك. وتتمتع ممرات النقل البحرية بأهمية خاصة في هذا السياق، حيث أن القوى البحرية المتقدمة هي أكثر قدرة على تحقيق أقصى قدر من المنفعة الاقتصادية من خلال التجارة وتتمتع بهوامش مناورة أكثر من تلك القوى التي تنحصر قدراتها التجارية في الطرق البرية فقط.

تميل الإمبراطوريات الاقتصادية العالمية التي تتمتع بممرات نقل موثوقة إلى التكوّن في ظل هيمنة اقتصادية متزامنة مع سيطرة قوية على البحار. حيث يمكن للطرف المهيمن تنظيم النظام الاقتصادي الدولي تحت إدارته، أو على الأقل ضمان دور أساسي في تنظيم الاقتصاد الدولي. والملاحظ تاريخياً ميل الأطراف الدولية المهيمنة التي تشارف على التراجع أو الزوال إلى الحدّ من حرية الملاحة وتقييدها بهدف منع صعود الخصوم والمنافسين المحتملين، فمع كل تغيّر كبير حدث تاريخياً في الموازين الدولية كان يرافقه تخبط وارتباك في طرق التجارة البحرية وعودة مؤقتة إلى تعزيز التجارة المعتمدة على الطرق البرية.
ومع اقتراب النظام الأحادي القطب المهيمّن عليه أمريكياً من نهايته، تعمل القوى الصاعدة، وبشكلٍ خاص القوى الأوراسية، على تشكيل التكامل والترابط القادر على زرع الثقة في ممرات النقل الجديدة. لكن قبل الحديث عن مرحلة الصعود الأوراسي في الممرات البحرية الدولية، لا بد من مرور سريع على بعض الإمبراطوريات السابقة التي لعبت سيطرتها على ممرات النقل البحرية دوراً مفصلياً في صعودها وتماسكها.

من الإغريق إلى 500 عام من الهيمنة الغربية

اعتمدت القوة الاقتصادية للإمبراطورية الإغريقية (التي استمرت من العام 449 ق.م. لغاية العام 404 ق.م) بشكلٍ كبير على القوة البحرية. حيث مكَّن الربح التجاري أثينا القديمة من تجهيز أسطول قوي جداً والحفاظ عليه، كما ضمنت البحرية القوية لأثينا طرقاً تجارية محمية جيداً حافظت بدورها على اقتصادٍ قوي. وظلّت هذه الأهمية الجيواقتصادية للسيطرة على ممرات النقل البحرية قائمة وجديرة باهتمام صنّاع القرار منذ ذلك الحين.
وبعد تفكك الممرات البرية لطريق الحرير القديم في أوائل القرن السادس عشر، تمّت استعادة الاتصال التجاري من قبل القوى البحرية الأوروبية، حيث ساهمت السيطرة على طرق التجارة البحرية السريعة بشكلٍ كبير في تمتع الغرب بحوالي 500 عام من الهيمنة على النظام الدولي. إذ تأسست الإمبراطوريات الأوروبية في بداية الأمر من خلال الاستيلاء على الموانئ والسيطرة على الممرات البحرية الاستراتيجية، ثم تطورت إلى إمبراطوريات سيطرت على محيطات بأكملها.
وحتى صموئيل هنتنغتون - الغربي حتى النخاع- أصرّ في كتابه «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي» على أن «المصدر المباشر للتوسع الغربي كان تقنياً: وهو اختراع وسائل الملاحة البحرية للوصول إلى الشعوب البعيدة، وتطوير القدرات العسكرية لغزو تلك الشعوب... لقد فاز الغرب بالعالم ليس بتفوق أفكاره أو القيم أو الدين (الذي تحول إليه عدد قليل من الحضارات الأخرى)، بل من خلال تفوقه في تطبيق العنف المنظّم. وغالباً ما ينسى الغربيون هذه الحقيقة. لكن غير الغربيين لا ينسون ذلك أبداً».

الضعف البحري و«قرن الإذلال» الصيني الروسي

منذ تفكك مملكة كييف روس (دولة اتحادية ضمّت السلافيين الشرقيين والفنلنديين في أوروبا) تعرقل النمو الاقتصادي لروسيا، حيث قطع هذا التفكك روسيا عن الشرايين البحرية للتجارة الدولية. ولم تصبح «عودة روسيا إلى أوروبا» - وبالتالي تحولها إلى قوة عظمى- ممكنة إلا في عهد بطرس الأكبر الذي استطاع الوصول إلى بحر البلطيق. ومنذ ذلك الوقت، اعتمد كبح روسيا واحتوائها إلى حد بعيد على حرمان روسيا من الوصول إلى البحر.
ومنيت كل من الصين وروسيا بهزائم كبرى في منتصف القرن التاسع عشر، وأحد أهم أسباب هذه الهزائم هو عدم السيطرة على ممرات النقل الاستراتيجية. حيث هُزمت الصين من جانب البحرية البريطانية القوية في حروب الأفيون، والتي مكنت بريطانيا من السيطرة على هونغ كونغ والوصول إلى الموانئ، والوصول غير المقيد إلى الممرات المائية الصينية واستخراج مختلف الامتيازات التجارية. وقد أدت هزيمة الصين إلى انهيارٍ اقتصادي وأنذرت بما أسمته الصين لاحقاً «قرن الإذلال».
وبشكلٍ شبيه، هُزمت روسيا في عام 1856 في حرب القرم، ويرجع ذلك جزئياً إلى ضعف البنية التحتية للنقل. حيث - وللمفارقة- كان يمكن لبريطانيا وفرنسا نقل الإمدادات والتعزيزات عبر الممر البحري من جبل طارق إلى شبه جزيرة القرم بشكل أسرع من روسيا التي يمكن أن تصل إلى شبه جزيرة القرم من موسكو.
ردت روسيا على الهزيمة في شبه جزيرة القرم من خلال تطوير شبكة واسعة من السكك الحديدية لربط أوراسيا ودمج أراضيها والتوسع في جميع أنحاء آسيا. حيث مكّنت السكك الحديدية العابرة للقارات روسيا من ربط القارة الأوراسية الكبيرة عن طريق البر. وهددت الممرات الروسية البرية العابرة للقارات تجاه إيران والهند والصين بإزاحة الإمبراطورية البحرية البريطانية، وأدت إلى تنافس بريطاني روسي شديد على أوراسيا على امتداد النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

صعود الهيمنة الأمريكية واستراتيجيات الاحتواء

في تسعينيات القرن التاسع عشر، وضع أميرال البحرية الأمريكية المشهور، ألفريد ثاير ماهان، الخطوط العريضة للأسس الفكرية التي حوّلت الولايات المتحدة إلى قوة عظمى من خلال ترسيخ نفسها كقوة بحرية مثل بريطانيا للسيطرة على التجارة الدولية.
ومنذ أوائل القرن العشرين، رسّخت الولايات المتحدة سيطرة تدريجية على المحيط الهادئ، بينما كانت تربط أيضاً المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ من خلال بناء قناة بنما ووضعها تحت السيادة الأمريكية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، ثبّتت الولايات المتحدة هيمنتها العالمية على ممرات النقل البحري من منطقة الخليج العربي إلى قناة السويس. حيث اعتمدت محاولات كبح الاتحاد السوفيتي على الحد من دخول موسكو إلى المحيط الأطلسي من خلال عرقلة إمكانية الوصول عبر القطب الشمالي وبحر البلطيق والبحر الأسود. كما تم تطوير استراتيجيات مماثلة لمنع وصول السوفييت إلى المحيط الهادئ.
وعلى هذا النحو، تم تطوير استراتيجية احتواء بحري ضد الصين من خلال إنشاء «سلسلتين من الجزر» لتطويق الصين والاتحاد السوفيتي في المحيط الهادئ. ولا تزال سلسلتا الجزر هاتان تلعبان دوراً مركزياً في كبح الصين حتى يومنا هذا. إذ أن السيطرة على نقاط العبور الرئيسية مثل مضيق ملقا تمكّن الولايات المتحدة من خنق الاقتصاد الصيني إذا لزم الأمر، تماماً كما فعلت بريطانيا التي جوعت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى عبر الحصار البحري.

1092-300

ما بعد الحرب الباردة... المزيد من الهيمنة

بعد الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة إلى توسيع دورها كقوة مهيمنة متسيدة على مستوى العالم. ولهذا، كان لزاماً عليها الحفاظ على الهيمنة عبر استمرار احتواء الصين وروسيا كمنافسين استراتيجيين.
في أوروبا، لعب حلف شمال الأطلسي - الناتو دوراً أساسياً في توسيع سيطرة الولايات المتحدة على البحر الأسود وبحر البلطيق والقطب الشمالي. حيث هدف توسع الناتو إلى بلغاريا ورومانيا واحتمال التوسع نحو أوكرانيا إلى تحويل البحر الأسود إلى بحيرة تابعة للناتو. وفي بحر البلطيق، وسع منح عضوية حلف شمال الأطلسي إلى دول البلطيق من نطاق هيمنة الولايات المتحدة. وعبّر عن ذلك الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، أندرس فوغ راسموسن، حين أكد أن التوسع المنتظر للحلف إلى السويد وفنلندا كان انتصاراً استراتيجياً لأنه «إذا رغبنا في ذلك، يمكننا منع جميع عمليات الدخول والخروج إلى روسيا عبر سان بطرسبرغ». كما تعمل الولايات المتحدة على توسيع نطاق انتشارها في أقصى الشمال من خلال تحويل النرويج إلى خط أمامي للولايات المتحدة في القطب الشمالي مع زيادة النشاط العسكري واحتمال إنشاء أربع قواعد عسكرية أمريكية على الأراضي النرويجية.
وفي شرق آسيا، تعمل الولايات المتحدة أيضاً على ترسيخ سيطرتها على سلاسل الجزر كجزء من سياسة احتواء الصين. ولتسهيل انفصال تايوان، تعمل الولايات المتحدة تدريجياً على تفكيك سياسة الصين الواحدة التي دامت 40 عاماً، والتي تعترف بسيادة بكين على تايوان وتقصر العلاقات الأمريكية مع تايوان على العلاقات الثقافية والاقتصادية.
كما أطلقت الولايات المتحدة مفهومها الخاص لـ«طريق الحرير» الذي يستهدف آسيا الوسطى. فبدلاً من ربط أوروبا بروسيا والصين، كان هدف «طريق الحرير الأمريكي» هو ربط آسيا الوسطى بالهند في محاولة لاستمالة الأخيرة وجعلها لاعب في مشروع إضعاف نفوذ وقوة روسيا والصين.

صعود أوراسيا و«تكتيف» الابتزاز الأمريكي

بالنظر إلى أن صعود الصين جعلها تدريجياً خصماً شرساً للولايات المتحدة، بدأت بكين في بناء أسطولها البحري في المياه وكذلك في الجزر الاصطناعية، وترسيخ قدر أكبر من السيطرة على ممرات النقل لضمان الوصول السهل إلى الموارد والأسواق. وتم تشجيع الشركات الرئيسية المملوكة للدولة في الصين على شراء أصول النقل الأجنبية، في حين استخدمت بكين مصطلح «سلسلة اللؤلؤ» للإشارة إلى الجهود التي بذلتها الصين لإنشاء البنى التحتية البحرية عبر المحيط الهندي.
وفي هذا الإطار، تربط مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات العالم بالصين عن طريق البر والبحر، من خلال طرق نقل أسرع وأرخص تلتف على نقاط العبور الرئيسية المعرّضة للابتزاز الأمريكي. وعندما أصبحت الدول الأوروبية مثل اليونان والمجر نقاطاً مهمة في مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، أعاد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اكتشاف حقيقة مفادها أن التبعيات الاقتصادية تتبعها الولاءات السياسية. ومع نضوج ممرات النقل الأوراسية، يضعف ولاء هذه المجموعة من الدول للاتحاد الأوروبي.
وبالمثل، فإن روسيا تتمتع بجغرافيا مواتية للتكامل الأوراسي، وتولي أهمية كبرى لممر النقل الرئيسي من شرق آسيا إلى أوروبا، والذي يتم تطويره من خلال تحديث السكك الحديدية عبر سيبيريا وسكة حديد بايكال - آمور. كما تم تعزيز هذا الممر من خلال تحديث الموانئ الغربية لروسيا في أماكن مثل أوست لوغا والموانئ الحرة الشرقية على ساحل المحيط الهادئ.
ويحتوي الممر بين شرق روسيا وغربها على مكوِّن بحري أيضاً، وهو طريق بحر الشمال (NSR) الذي يعبر القطب الشمالي. وبدعمٍ من أسطول متزايد من كاسحات الجليد، يمكن أن يوفر طريق بحر الشمال اتصالاً بحرياً أرخص وأسرع بين شرق آسيا وأوروبا. كما تم دمج طريق بحر الشمال في طريق الحرير الصيني تحت مسمّى «طريق الحرير القطبي».
فوق ذلك، هنالك ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) وهو شبكة نقل بطول أكثر من 7000 كم ويتألف من السفن والسكك الحديدية والطرق العابرة لمنطقة بحر قزوين. حيث يربط الممر روسيا وإيران والهند ومنطقة آسيا الوسطى المجاورة، ويمتدّ الاتصال أيضاً إلى جنوب شرق آسيا. ويوفر الممر، الذي هو تحت الخدمة حالياً، طريقاً سريعاً ورخيصاً للنقل.

استعادة الربط الدولي وفق موازين جديدة

ينهار النظام الأحادي القطب اليوم أمام أعيننا، وهو أمرٌ يثبته التعقّد والارتباك الحاصل في الممرات البحرية وتراجع الثقة في حرية الملاحة، وأمام هذا الواقع، لا تخلق شبكات النقل الأوراسية ممرات نقل أكثر كفاءة من حيث التكلفة والوقت فحسب، بل إنها تعمل أيضاً على إحياء ربطٍ واتصالٍ جديد موثوق به لا يمكن الهيمنة عليه من جانب دولة واحدة. وتدريجياً، تفكّ القوى الأوراسية معادلة الهيمنة الغربية المترهلة التي وصلت إلى درجة غير مسبوقة من التأزم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1092
آخر تعديل على الإثنين, 17 تشرين1/أكتوير 2022 14:09