«مسيرة جديدة لتعاون بريكس» في عالم ما بعد الهيمنة الغربية

«مسيرة جديدة لتعاون بريكس» في عالم ما بعد الهيمنة الغربية

خلال العام الجاري، تولت الصين رئاسة مجموعة دول بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا). حيث حملت الفترة ما بين 22 و24 حزيران الماضي قمة مجموعة بريكس الرابعة عشرة التي تزامنت مع حوارٍ رفيع المستوى بشأن التنمية العالمية. وتحت شعار «تعزيز شراكة بريكس العالية الجودة، وبدء عصر جديد للتنمية العالمية»، قام قادة الدول الخمس بمناقشة عميقة حول تعاون الدول الأعضاء في كافة المجالات والقضايا ذات المصالح المشتركة. أما الميزة الأساسية لهذا العام، فهي أن القادة لم يناقشوا نواياهم اللاحقة حول النتائج الابتكارية فقط، بل احتفلوا بنتائج حقيقية على الأرض تم إنجازها، وباتت تمهّد الطريق لدخول منظومة بريكس في مرحلة جديدة كلياً باعتراف المحللين الغربيين.

يتحدث قادة بريكس اليوم علناً عن تعزيز ما يسمونه بالتعاون القائم على الفوز المشترك لتحسين نظام الحوكمة العالمية وكذلك عن إقامة علاقات الشراكة عالية الجودة وإطلاق «مسيرة جديدة لتعاون بريكس». وهو ما أثمر في القمة التي تم عقدها في حزيران حين وقّع قادة دول المنظومة على «إعلان بكين لقمة مجموعة بريكس الرابعة عشرة» والذي يتكون من خمسة وسبعين بنداً تم توزيعها على ثمانية مجالات عكست آراء دول بريكس وتوجهاتها الحازمة «لحماية العدالة والإنصاف الدوليين وموقفها المشترك تجاه القضايا الأساسية».

المسؤولية التاريخية أمام المنظومة

اليوم، تشهد الموازين الدولية تغيّرات كبيرة خلافاً للمصلحة الأمريكية والغربية عموماً، إلى حد بات الحديث عن تغير طبيعة العالم الذي نعيش فيه ليس حكراً على الدوريات والصحف الشرقية، بل وكذلك مراكز التحليل الغربية التي يضطر عدد متزايد منها للاعتراف بالحقائق والوقائع الجديدة.
ومع هذه التغيرات وزيادة التحديات العالمية، أصبح البحث في أسس النظام العالمي القادم موضوع اهتمام دول العالم كلها. ومن الطبيعي في هذا السياق أن تتحمل دول بريكس، باعتبارها الدول النامية الكبيرة والدول الناشئة الأساسية في العالم، المسؤولية التاريخية، حيث تعمل بشكلٍ مشترك في سبيل كسر هيمنة الغرب والمساهمة بفعالية في دفع العالم نحو أعلى درجة ممكنة من الاستقرار في ظل ردود الفعل الغربية غير المرحبة بوقائع العالم الجديد وتوازناته.

كسر التبادل اللامتكافئ

لا تترك دول بريكس فرصة إلا وتستغلها لتؤكد أن الذي يسير عكس تيار التاريخ ويحاول قطع طريق صعود الآخرين سيجد طريقه مسدوداً في نهاية المطاف، وتمشي المنظومة خطوة إضافية بإعلان قادتها نيتهم «إزالة جميع الحواجز التي تعرقل تطور القوى المنتجة»، و«قيادة ودفع التطور السلمي العالمي» و«خلق نظام تجارة تعددي». ولتحقيق ذلك، تتشاور دول المجموعة فيما بينها وتتعاون على أرضية تحقيق مصلحة الجميع وتعزيز الاقتصاد العالمي وزيادة تمثيل دول الأسواق الناشئة والدول النامية، وضمان مساواة الدول أمام الحقوق والقواعد والفرص، بما يعني كسر منظومة «التبادل اللامتكافئ» التي ارتكز الغرب عليها بوصفها جوهر النهب العالمي بحق الدول النامية.

لعالم أكثر إنصافاً وعدلاً

في مواجهة الأزمة الاقتصادية المتجذرة التي يواجهها العالم، تشير دول بريكس إلى أنه لا يمكنها تقليل آثار هذه الأزمة الاقتصادية إلا بتكثيف التضامن والتعاون فيما بينهم بشكلٍ فعال، حيث يجب على كل أطراف المجموعة أن توحّد أفكارها وجهودها وتعزز التنسيق حول سياسات الاقتصاد الكلي لتجنب انعكاسات هذه الأزمة ليس على دول المجموعة فحسب، بل وعلى الدول النامية عموماً.
وتؤكد المجموعة أنه يجب على الدول المؤثرة الرئيسية أن تنتهج سياسات اقتصادية مسؤولة تفادياً للتداعيات السلبية الناتجة عن سياساتها المعنية تجاه الدول الأخرى أو تشكيل صدمات كبيرة على الدول المجاورة. ما يعني أنه وبرغم الصعوبات والتحديات الناجمة عن طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها العالم اليوم، فإن لدى دول مجموعة بريكس كامل الرغبة في قيادة بناء العالم الجديد الذي يجب -وفقاً لبيان بكين الأخير- أن يكون أكثر إنصافاً وعقلانية وشمولاً وتسامحاً.

النمو: طريق الحفاظ على السلم العالمي

السلام حاجة مشتركة لكل الشعوب وشرط أساسي لتحقيق النمو. لكن، في الوقت الراهن، يواجه المجتمع الدولي مزيداً من التحديات الأمنية.
في مجال الأمن التقليدي، وبينما لا تزال بعض المشكلات القديمة التقليدية - الناتجة عن البنية المهترئة للعالم القديم بزعامة واشنطن- مستمرة، ظهرت بوادر جديدة لتعقيد الوضع عالمياً، حيث تشهد الأسعار العالمية للحبوب والطاقة وغيرها تقلبات، وتواجه سلاسل التوريد العالمية عراقيل خطيرة.
وفي مجال الأمن غير التقليدي، تظهر التهديدات تباعاً. حيث ما زالت جائحة كورونا ومتحوراتها المتعددة تتفشى في العالم مع ظهور «فجوة لقاحات» كبيرة بين الدول المتقدمة والدول النامية، وكذلك تشهد المنظمات الإرهابية المدعومة من المركز الغربي موجة جديدة، بينما تزداد مخاطر تغير المناخ، وتقع حوادث الأمن السيبراني مراراً وتكراراً.
على هذه الأرضية، تقدّمت الصين رسمياً بمبادرة الأمن العالمي على هامش منتدى بوآو الآسيوي هذا العام، وهي المبادرة التي لاقت استجابة ودعماً إيجابيين من المجتمع الدولي، حيث دعت الصين إلى شق طريق جديد يتميز بالحوار بدلاً من الصراع، والشراكة بدلاً من التبعية، والمصلحة المشتركة بدلاً من ألعاب المصلحة الصفرية على الطريقة الغربية التي تفرض على دول العالم إما الرضوخ لإرادة المركز الغربي وإما التهديدات التقليدية وغير التقليدية من كل حدب وصوب.
وعلى ما يبدو، سيكون لمبادرة الأمن العالمي أهمية فعلية وتأثير بعيد المدى، حيث تشير التقديرات إلى أن الصين تنوي الاستفادة من قضية السلم العالمي للدخول على خط حل العديد من الصراعات الإقليمية القائمة في آسيا وخارجها، وهي الصراعات التي وظفها الغرب في سبيل «شفط ثروات» عدد كبير من الدول والحد من نموها الاقتصادي.

1084-2

مبادرات: قول وفعل حقيقي

منذ تأسيسها، تقوم مجموعة بريكس في أحد وجوهها على فكرة أن النمو الاقتصادي هو المفتاح لمعالجة المشاكل المتنوعة التي تقف عائقاً أمام تطور الدول ورفاه شعوبها. وبناءً على ذلك، وضعت دول المجموعة مبادرة التنمية العالمية في الأمم المتحدة، والتي دعت من خلالها المجتمع الدولي لوضع مسألة النمو في مكانٍ بارز وفي رأس أولويات السياسة العالمية، بما في ذلك تقديم دعم أكثر فعالية واستهدافاً للدول النامية التي يعاني ما يقارب 2.1 مليار من شعوبها الموزعين على أكثر من 70 دولة جراء آثار الجائحة ونقص الغذاء والطاقة وأزمة الديون.
وحصلت مبادرة التنمية العالمية على استجابة واسعة في المجتمع الدولي، وخلافاً للرغبة الغربية التي حاولت تجاهل هذه المبادرة، فقد انضمت أكثر من ستين دولة إلى ما بات يعرف بـ«مجموعة أصدقاء مبادرة التنمية العالمية» التي أطلقتها دول بريكس.
وسرعان ما نقلت دول المجموعة رغبتها ونيتها هذه إلى إطار الأفعال وليس مجرد الأقوال فقط، حيث تم إنشاء «صندوق التنمية العالمية والتعاون ما بين دول الجنوب»، وإنشاء مركز تعزيز التنمية العالمية، ودفع العالم نحو تحقيق أهداف خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وإنشاء «الشراكة الخاصة بمكافحة الفقر ودفع التنمية العالمية»، وإطلاق المشروع الخاص لزيادة محاصيل الحبوب، وتأسيس تحالف الابتكار، والبحث والتطوير والتعاون الدولي في مجال اللقاحات، ودفع عجلة بناء شراكة التعاون الدولي للطاقة النظيفة، وإنشاء الشبكة الإدارية المستدامة العالمية للغابات، وغيرها من النتائج التي تغطي مجالات التعاون الثمانية ذات الأولوية لمبادرة التنمية العالمية، بما فيها تخفيف الفقر، والأمن الغذائي، ومكافحة الجائحة وتوفير اللقاحات، والتمويل من أجل التنمية، وتغير المناخ والتنمية الخضراء، والتصنيع، والاقتصاد الرقمي والترابط والتواصل في العصر الرقمي. وجميع هذه الإجراءات الابتكارية لاقت إقبالاً كبيراً بين كثير من القادة الذين رأوا أنها تتفق مع الاحتياجات الملحة لتنمية الدول النامية.

التوسع والتجذر على أرضية قوة المجموعة

حققت آلية تعاون دول بريكس توسعاً وتجذراً كبيرين. ونظرة سريعة على واقع تطور المجموعة كفيل بإيضاح حجم الخطوة الكبيرة التي أنجزتها المجموعة خلال فترة قياسية، ففي أيلول عام 2006، عقد وزراء خارجية البرازيل وروسيا والهند والصين أول اجتماع لهم، في إشارة على بدء التعاون بين الدول الأربع رسمياً. وفي ديسمبر عام 2010، انضمت جنوب أفريقيا إلى المجموعة رسمياً، فأصبحت تتكون من خمس دول. وعلى مدار السنوات الـ16 المنصرمة، شكلت آلية التعاون في بريكس إطاراً تعاونياً شاملاً ومتعدد المستويات وواسع النطاق يغطي عشرات المجالات: الاقتصاد والتجارة، والمالية، والعلوم والتكنولوجيا، والزراعة، والثقافة، والتعليم، والصحة، والمؤسسات الفكرية وإنشاء رابطة توأمة المدن... إلخ.
وتحتل دول بريكس 26% من مساحة العالم، ويشكل سكانها 42% من سكان العالم، وتساهم بنحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و18% من حجم التجارة الدولية. وبسرعة غير متوقعة، باتت المجموعة منصة أساسية لتعزيز التعاون بين الدول الناشئة والدول النامية، وقوة مهمة أساسية لا يمكن تجاهلها على الساحة الدولية، حيث تمثل الاتجاه التاريخي الصاعد للقوى النامية.
وبهذا المعنى، فإن مجموعة بريكس ليست نادياً مغلقاً، وإنما كتلة مترابطة تسعى إلى التعاون والمصلحة المشتركة. ومع زيادة الشركاء باطراد، تُظهر مجموعة بريكس مدى التضامن بين الدول النامية، حيث أجرت دول بريكس محادثات وحوارات مع قادة عدد من الدول الأفريقية، ودول أمريكا الجنوبية، وقادة الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وقادة الدول الأعضاء والدول المراقبة والدول المدعوة في منظمة شنغهاي للتعاون، وقادة الدول الأعضاء في «مبادرة خليج البنغال للتعاون الاقتصادي والتقني المتعدد المجالات»، الأمر الذي عزز إلى حد كبير التأثير الدولي للمجموعة.
وفي عام 2017، على هامش قمة بريكس في شيامن بالصين، قدم الرئيس شي جين بينغ فكرة التعاون الجديدة «بريكس+»، داعياً المزيد من الدول الناشئة والدول النامية للمشاركة في أعمال بريكس، وذلك من أجل تحقيق التنمية والازدهار المشتركين. وفي عام 2021، وسّع بنك التنمية الجديد لدول بريكس قدرته مرتين، معلناً الموافقة على انضمام دولة مصر والإمارات وبنغلاديش وأوروغواي إلى البنك كأعضاء جدد.

«بريكس+» والمستقبل غير الغربي

ارتقت أنشطة حوار «بريكس+» في عام 2022، إلى مستوى وزراء الخارجية. وإلى جانب ذلك، ستجري المجموعة مناقشة فيما بينها بشأن توسيع نطاق المجموعة أيضاً.
في هذا الصدد، استضافت الصين الحوار الرفيع المستوى بشأن التنمية العالمية في إطار «بريكس+»، حيث حضر قادة الدول الأعضاء الخمس وقادة من ثلاث عشرة دولة ناشئة ودولة نامية غير عضو، تحت عنوان «إقامة علاقات الشراكة للتنمية العالمية في العصر الجديد والعمل سوياً على تنفيذ أجندة الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة»، إذ أجرى القادة مناقشات وتبادلوا الآراء بشأن قضايا التنمية العالمية ذات الاهتمام المشترك.
وعلى خلفية هذا التطور في الدور الذي تلعبه المجموعة، سيجري خلال العام الجاري ما يقارب 170 نشاطاً متنوعاً متعلقاً ببريكس، سيشارك فيها أكثر من خمسين دولة غير عضو في المجموعة. أما عن صورة مجموعة بريكس في المستقبل، فتتطلع المجموعة إلى تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء والدول النامية في إطار «بريكس+» إلى مستوى أعلى، وفي مجالات أوسع ونطاق أكبر، لإضافة قوة حيوية للعالم الذي تسوده الاضطرابات والتحديات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1084