أمريكا وهدف القضاء على المنافس الأوروبي
لطالما كان المحرك الرئيسي للجيوبوليتيك الأمريكي هو السيطرة وإعادة تخصيص سوق الهيدروكربون. لهذا الغرض، يتم تنظيم الحروب والانقلابات والصراعات الأخرى. ولإخفاء هذه التطلعات الواضحة إلى حد ما لغزو سوق الطاقة العالمية، تبنت واشنطن في العقود الأخيرة نوعاً من «الحرب المقدسة على الإرهاب» سعياً وراء مثل هذه السياسات.
ترجمة: قاسيون
في الوقت نفسه، أدركت الولايات المتحدة أن سوق النفط ستصبح غير مربحة بشكل متزايد بمرور الوقت، وبعد ذروة الإنتاج في عام 2030، سوف تنخفض الأعمال. وأحد الأسباب هو أنه سيكون هناك نفط قابل للاستخراج بشكل أقل وأصعب، وسيصبح «الذهب الأسود» باهظ الثمن وغير قادر على المنافسة. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت سوق النفط لضربة حساسة في السنوات الأخيرة من قبل مقاتلي «الاحتباس الحراري» الذين تم استثمار حججهم بشكل كبير من قبل مختلف الأحزاب السياسية والمصالح التجارية في جميع أنحاء العالم. أمّا بالنسبة لتوازن القوى السياسية الداخلية في الولايات المتحدة بشأن هذه القضية، فقد فازت «منح الابتكار الأخضر» من قبل الشركات المرتبطة بالمعسكر الديمقراطي، بينما يواصل خصومهم الجمهوريون السيطرة على قطاع النفط.
ومع ذلك، فإنّ الوضع في سوق الغاز مختلف تماماً: الغاز صديق للبيئة على عكس الفحم والنفط. يحتوي على الصيغة الكيميائية الأكثر كفاءة في استخدام الطاقة «هناك 4 ذرات هيدروجين لكل كربون دفعة واحدة»، ومن المعروف أن الهيدروجين هو الذي يعطي أكبر قدر من الطاقة. لهذا ومع إنشاء عملية نقل الغاز في أي مكان في العالم عن طريق الأنابيب أو الناقلات، زادت احتمالات نمو حصته في أعمال الطاقة بشكل كبير. ومع ذلك، زاد أيضاً اهتمام الولايات المتحدة بكسب الهيمنة العالمية على سوق الغاز، مما يعد واشنطن بفرصة زيادة هيمنتها كما حدث مع غزو واشنطن لسوق النفط العالمي.
تشتهر روسيا وإيران وقطر بقيادة الدول العشر الأولى التي تمتلك أكبر احتياطيات مؤكدة من الغاز الطبيعي، بينما تحتل الولايات المتحدة المرتبة الخامسة بعد تركمانستان.
حرب على الجميع
أسست روسيا وإيران وقطر «أوبك للغاز» في طهران في عام 2001- منتدى الدول المصدرة للغاز (GECF)، الذي تأسس قانوناً في موسكو في 23 كانون الأول 2008 ومقره في العاصمة القطرية الدوحة. بعد ذلك، جمع المنتدى 12 دولة تمتلك 73٪ من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم، وتمثل 42٪ من الإنتاج العالمي: الجزائر، بوليفيا، فنزويلا، مصر، إيران، قطر، ليبيا، نيجيريا، الإمارات العربية المتحدة، روسيا، ترينيداد وتوباغو، غينيا الاستوائية. توسعت هذه المنظمة الحكومية الدولية مؤخراً لتشمل 19 دولة عضو. ومع ذلك، على عكس أوبك النفطية، لم تصبح أوبك للغاز كاملة لأنها لا تستطيع تحديد حصص إنتاج أو التأثير على الأسعار.
استناداً إلى صراع الولايات المتحدة حول التوسع العالمي، فإن حرب الغاز ضد روسيا وإيران وقطر هي التي اتبعتها واشنطن بنشاط في السنوات الأخيرة.
في حزيران 2017، على سبيل المثال، أعلنت عشر دول في الشرق الأوسط فرض حصار اقتصادي وسياسي على قطر. يشار إلى أن «الحصار غير المتوقع» لقطر بدأ بعد أسبوعين من زيارة الرئيس الأمريكي للسعودية، والتي كانت أول رحلة خارجية لدونالد ترامب منذ تنصيبه. على خلفية اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية التي تم التوصل إليها خلال تلك الزيارة، فضلاً عن توقيع اتفاقيات بقيمة 280 مليار دولار، كانت نقطة مهمة جداً في مفاوضات ترامب مع العاهل السعودي هي «محاربة الإرهاب ومكافحته»، ومعاقبة مموليه.
في 14 حزيران 2017، في أعقاب الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على قطر، أيد مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية مطلقة مشروع قانون لتوسيع وتشديد العقوبات المناهضة لروسيا، والتي كانت في نفس الحزمة مثل العقوبات ضد إيران. تبع ذلك حرب الغاز الأمريكية المستمرة ضد روسيا بفرض عقوبات وأدوات أخرى غير قانونية لتقييد تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا وتعطيل مشروع السيل الشمالي2. كان الخاسر الواضح في هذه الحرب هو دول الاتحاد الأوروبي ومواطنيها، الذين دفعوا ثمن ضغط الغاز لواشنطن مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء المحلية، وإفلاس وإغلاق العديد من الشركات الأوروبية، وتراجع القدرة التنافسية الأوروبية أمام الولايات المتحدة. لكنّ ضرب القدرة التنافسية لأوروبا لم يكن مجرّد حدث عرضي، بل كان جزءاً من الهدف تحديداً، إضافة إلى فرض الاعتماد الكامل للطاقة الأوروبية على الولايات المتحدة على أوروبا.
سياسة مستمرّة
كجزء من سياسة العقوبات الغربية المعادية للروس، تشرع الولايات المتحدة بثبات في رفع أسعار الغاز في الأسواق الأوروبية والعالمية، والتي تعاني منها أوروبا أكثر. وهكذا، بعد إعلان شركة بيكر هيوز الأمريكية قرارها بوقف خدمة جميع مشاريع الغاز الطبيعي المسال الروسية، أصبحت أسواق الغاز الأوروبية والعالمية أكثر اضطراباً. بعد كل شيء، تسحب الشركة مهندسي الخدمة من مشاريع غازبروم سخالين-2 ويامال للغاز الطبيعي المسال التابعة لشركة نوفاتيك، بالإضافة إلى مهندسي التصميم من شركة نوفاتيك Arctic LNG-2 قيد الإنشاء. أضف إلى ذلك تواطؤ العقوبات الفاسدة بين الولايات المتحدة وكندا بسبب تعطيل أوتاوا لإصلاح وصيانة وإعادة توربينات الغاز في السيل الشمالي، الأمر الذي أدى بالفعل إلى التخفيض القسري لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا. نتيجة لذلك، تسارعت أسعار تبادل الغاز الأوروبي بنسبة 25٪ تقريباً في الأيام القليلة الأولى وحدها، حيث تجاوز تداول الغاز الطبيعي 1300 دولار لكل ألف متر مكعب للمرة الأولى منذ 27 نيسان.
لكن ليس هذا حدّ معاناة أوروبا الأقصى، لأن محطة التصدير من الولايات المتحدة لن تعمل لمدة ثلاثة أشهر تقريباً بسبب عواقب حريق في مصنع فريبورت للغاز الطبيعي المسال الأمريكي. كانت نسبة 68٪ من شحنات الغاز الطبيعي المسال من المصنع متجهة إلى أوروبا. لقد جاء إغلاق فريبورت للغاز بمثابة مفاجأة غير سارة للمستهلكين الأوروبيين الذين يحاولون تقليل اعتمادهم على الغاز الروسي، أو الذين رفضوا التحول إلى آلية الدفع الجديدة مع غازبروم. ارتفعت أسعار الغاز الفورية في دول الاتحاد الأوروبي مرة أخرى بعد ذلك الحادث مباشرة.
لكنّ الأمر الهام الذي يجدر ذكره، أنّه في الولايات المتحدة نفسها، أدى انهيار مصنع تكساس للغاز الطبيعي المسال إلى خفض تكلفة المواد الخام بنسبة 17٪ بسبب انخفاض الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي. كما أشار جينغو لي، الكاتب الأمريكي في صحيفة وول ستريت جورنال في 16 حزيران، فالصناعيون الأمريكيون الذين لمسوا بشكل واقعي الترابط بين انخفاض تكاليف المواد الخام وعدم التصدير إلى أوروبا، سيقومون بالضغط مستقبلاً لقطع هذه الإمدادات.
من هنا لا يمكن استبعاد أنّ الخلاف وشيك بين واشنطن وبروكسل بشأن توريدات الغاز الطبيعي المسال، وعندها لن يكون أمام الأوروبيين حلّ سوى الاستعانة بمنتدى الدول المصدّرة للغاز، وعلى رأسها روسيا وإيران.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1078