الدولار المتراجع والعملات الوطنية: تعددية قطبية أم لا قطبية؟

الدولار المتراجع والعملات الوطنية: تعددية قطبية أم لا قطبية؟

تحوّلت الأحداث الجيوسياسية التي لم يكن من الممكن للبعض تصوّرها قبل سنوات قليلة فقط إلى حقيقة ماثلة أمامنا، تعمل على استبعاد فكرة هيمنة «عملة واحدة موثوقة» وقلبها رأساً على عقب، حيث وجَّهت الدول التي أنشأت وسيطرت على النظام المالي العالمي القائم منذ منتصف القرن العشرين - والتي استفادت بطرقٍ شتى من سيادة هذا النظام المالي على حساب عذابات شعوب ما يسمى بـ«دول الجنوب»- ضربة قاصمة ومدمِّرة لنظامها هذا.

لم يعد التنظير للمستقبل القاتم للدولار الأمريكي حكراً اليوم على بعض المتفائلين بتغيّر مسار الهيمنة الأمريكية الذي تعزّز على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، بل وصل كذلك مراكز وأدوات الهيمنة الغربية ذاتها، مثل حديث النائبة الأولى للمدير العام لصندوق النقد الدولي، غيتا غوبيناث، التي أكدت في مقابلة مع صحيفة «فاينانشال تايمز» في أواخر شهر آذار الماضي أن العقوبات المالية غير المسبوقة المفروضة على روسيا «تهدِّد جدياً بتآكل الدولار الأمريكي تدريجياً، ويمكن أن تؤدي إلى نظام نقدي دولي أكثر تجزيئاً».

كمن يوجّه ضربة إلى صدره

تتفق معظم آراء الخبراء مع «الاستنتاج المرير» الذي خلص إليه صندوق النقد الدولي، ويرون أيضاً أن المبالغة الأمريكية في فرض العقوبات على روسيا جعل الدول الأخرى تدرك أهمية تجاوز أي اعتماد على الدولار الأمريكي والنظام المالي العالمي المُدار من الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد مثلاً، يؤكد مدير معهد تحليل الأمن العالمي (IAGS)، الدكتور غال لوفت، أن عقوبات واشنطن على موسكو تعني أن أصحاب القرار الاقتصادي في دول كثيرة، وكذلك بعض البنوك المركزية، بدأت في طرح السؤال عما إذا كان وضع كل بيضها في سلة واحدة والاعتماد بشكل كبير على الدولار فكرة قابلة للاستمرار. ولا سيما أن دول عدّة انضمت إلى قائمة الدول المُعاقَبة أمريكياً (كوبا وإيران وفنزويلا وأفغانستان وسورية، وغيرهم).
وهذا ما جعل الفكرة تبدو أوضح اليوم: صحيح أن السيطرة على الموارد المالية العالمية هي واحدة من ركائز الهيمنة الأميركية، ولكن في كل مرة تقوم فيها الولايات المتحدة باعتماد الدور القيادي للدولار في النظام المالي العالمي كسلاح لمعاقبة دولة ما، تبدأ بقية العالم في البحث عن بدائل للدولار في التجارة الدولية والتسويات العابرة للحدود.

لا بديل إلا العملات الوطنية

لا يزال الدولار العملة الاحتياطية الدولية الرئيسية، وهذا هو السبب في أن توزّع النقد والتدفقات المالية في جميع أنحاء العالم ترتبط ومرهونة إلى حد كبير بالدورات المالية والاقتصادية داخل الولايات المتحدة.
والنقطة المهمة في هذا السياق هي أنه مع استخدام الدولار الأمريكي للتداول المحلي، بالإضافة إلى خدمة كميات كبيرة من التسويات الدولية، واضطرار البنوك المركزية لمراكمة احتياطيات بالدولار أيضاً، فإنه يُشترط أن يكون هناك أكبر عدد ممكن من الدولارات المتداولة خارج الولايات المتحدة حتى تتمكن واشنطن من استيراد أكبر عدد ممكن من السلع والخدمات مقابل دولاراتها المصدّرة، وهي السلع والخدمات التي يعتمد توريدها بدوره على السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وحجم السوق الاستهلاكية الأمريكية وقدرتها الشرائية. لكن هذا يخلق ميزاناً تجارياً سلبياً ويدفع الدين الوطني الأمريكي إلى الارتفاع لأن بنك الاحتياطي الفيدرالي يصدّر دولارات غير نقدية مقابل سندات الخزانة.
ومن أجل تسريع التسويات الدولية وتعزيز النمو الاقتصادي العالمي، يجب أن يزداد عجز ميزان المدفوعات في الولايات المتحدة وديون حكومة الولايات المتحدة والبنوك والشركات والأسر باستمرار. كان هذا هو نموذج رأس المال المالي المهيمن، والذي بدا من الواضح اليوم أنه لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. حيث إن أزمة النظام المالي، والتدابير الرامية إلى مكافحة التضخم المرتفع بشكلٍ قياسي، والتشديد الذي يضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لفرضه، والركود في الاقتصاد الأميركي، وأزمة الديون التي تتفاقم، سوف تأخذ قدراً كبيراً من الدولارات «الخارجية» التي يستهلكها النظام المالي العالمي. ولا يمكن الاستعاضة عن النقص في الدولار، بوصفه عملة التسوية الرئيسية في التجارة، إلا بالعملات الوطنية للدول الرئيسية التي تلعب دوراً محورياً في هذه التجارة الدولية.

المصالح تدفع الدول بعيداً عن الدولار

على هذا النحو، فإن العمليات التي تحفّز الانتقال واسع النطاق إلى التسوية بالعملات الوطنية بدأت الآن تتكشّف بوضوح في الاقتصاد العالمي، حيث تحاول الدول التي تخضع بالفعل لعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك الدول التي تشعر بالتهديد من قبل واشنطن، تجنب تسوية معاملاتها بالدولار الأمريكي، والتوقّف عن مراكمة الاحتياطيات بالدولار الأمريكي واليورو، وفوق ذلك، سحب أموالها من الأصول الموجودة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إن أمكن، إذ تجبر المخاطر الجيوسياسية الدول على التحول نحو العملات الوطنية في التسويات، والمضي قدماً في إنشاء أنظمة دفع بديلة.
وتحاول العديد من الدول التي تشعر بالقلق إزاء انعكاسات التضخم الجاري في الولايات المتحدة وإمكانية أن يقلّ المعروض من الدولار، عليها هي بالذات أن تتحول أيضاً إلى تسوية معاملاتها المالية بأقوى عملة إقليمية متاحة وفقاً لبنى التجارة العابرة للحدود. لذلك، واعتباراً من أواخر عام 2021، احتل اليوان الصيني المرتبة الرابعة من حيث حصته في المعاملات الدولية.

الدولار الأمريكي من 71% إلى 59%

الاحتياطيات الدولية التي يشار إليها غالباً كاحتياطيات الذهب والنقد الأجنبي هي أصول خارجية موثوقة وسلسة بحيث يمكن استخدامها لأغراض التوازن في حالة وجود عجز في ميزان المدفوعات وضبط الميزان التجاري. وهذا هو السبب في أن البنوك المركزية تراكم احتياطياتها بالعملات التي تستخدمها شركات هذه الدول في التجارة الدولية، والتي يتم بها الاقتراض في أسواق رأس المال الأجنبية.
وقبل جائحة فيروس كورونا، كانت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم تحتفظ بنسبة 62% من احتياطياتها من النقد الأجنبي بالدولار الأمريكي، لأن الدولار كان عملة التبادل الرئيسية في عمليات التجارة الخارجية في معظم الدول. أما اليوم، فإن الوضع يتغيّر، حيث يجبر التضخم في الدول المتقدمة، والحرب الاقتصادية الشاملة التي تشنها الولايات المتحدة وحلفاؤها، الدول على التحول إلى المعاملات والتجارة بالعملات الوطنية.
في هذا الصدد، يؤكد رئيس بنك VTB المملوك للدولة الروسية، أندريه كوستين، على سبيل المثال لا الحصر أن روسيا تتحول بالكامل إلى استخدام الروبل و«العملات اللينة» التي يمكن استخدامها في التسويات مع الدول غير المعادية لروسيا.
وإذا كان استخدام الدولار واليورو في المعاملات الدولية آخذ في الانخفاض، فإن حصة هذه العملات في احتياطيات البنوك المركزية سوف تنخفض باطراد أيضاً. وللتذكير، لم يعد الجنيه الإسترليني العملة الاحتياطية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك لأن المملكة المتحدة تراكمت عليها ديون هائلة. اليوم، يتّبع الدولار الأمريكي خطى الجنيه الإسترليني في منتصف القرن العشرين. فإذا استمر دَين مصدر العملة الاحتياطية بالارتفاع مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، وساءت «حالة صافي الأصول الأجنبية» للبلاد مع استمرار نمو ديونها الخارجية، فسوف يفقد نظراؤها الأجانب في نهاية المطاف الاهتمام بعملة تلك الدولة.
ووفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي، انخفضت حصة الدولار الأمريكي في احتياطيات البنك المركزي من 71% في عام 1999 إلى 59% في أواخر عام 2021. ويجري حاليا الانتقال إلى 'العملات الاحتياطية غير التقليدية'، على وجه الخصوص، بمقدار الربع مقابل اليوان الصيني وثلاثة أرباع العملات في عدد من الاقتصادات الأصغر حجما، بما في ذلك الدولار الأسترالي والكندي، فضلا عن الوون الكوري.

1078-3

ضربة الغاز بالروبل… تمهد للجديد

كان من الملفت التقرير الذي نشره البنك الاستثماري العالمي Credit Suisse مؤخراً، والذي اعتبر فيه أن العالم يشهد ولادة ما يشبه «بريتون وودز» بنسخةٍ ثالثة، وهو نظام نقدي عالمي جديد يعتمد على العملات المدعومة بالسلع الأساسية.
وبدأ موردو السلع الأساسية يملون القواعد التي تحكم الاقتصاد والتمويل العالمي. حيث قال رئيس شركة غازبروم، أليكسي ميلر، في معرض SPIEF 2022: «إن الطلب على المواد الخام يحلّ بشكل متزايد محل احتياطيات النقد الأجنبي. وهذا تحوُّل تكتوني كبير» و«هذا النموذج الآخذ في التحول يفسح المجال للتسوية بالعملات الوطنية».
وكان بنك Credit Suisse من بين أوائل الذين لاحظوا أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ترددت في الاعتراف بأن قرار روسيا بتحويل مدفوعات الغاز إلى الروبل كانت خطوة قسرية عليهم، واتضح أنها ذات أهمية استراتيجية وأصبحت نقطة محورية في النظام المالي العالمي.
ولا تتعرض المدفوعات بالروبل مقابل إمدادات الطاقة وغيرها من السلع القادمة من روسيا لخطر العقوبات. حيث أن الدول المعادية والصديقة لروسيا، ليس لديها خيارات كثيرة. حيث عليهم إما الموافقة على شراء النفط والغاز من روسيا مقابل الروبل، أو البدء في البحث عن بدائل أثبتت تجربة الشهور الماضية أنها غير موجودة.
وخارج الاتحاد الأوروبي، تتحول روسيا والهند إلى معاملات بالعملات الوطنية، وتتفاوض المملكة العربية السعودية مع الصين لبيع جزء من نفطها مقابل اليوان الصيني، وليس الدولار الأمريكي. وبدعم من الصناعة التحويلية في الصين، فإن اليوان يواصل طريقه كعملة عالمية مرموقة.
ويمكن لتكامل الفضاء الأوراسي، من خلال جهود الاتحادات الإقليمية الكبيرة مثل منظمة شانغهاي للتعاون SCO ورابطة أمم جنوب شرق آسيا ASEAN، أن يطلق عملية إنشاء هيكل اقتصادي ومالي واستثماري وطاقي على نطاق القارة بأسرها مع إجراء معاملات بالعملات الوطنية للدول الأعضاء. كما من شأن الشراكة الاستراتيجية الأعمق داخل منظومة بريكس أن توسّع نطاق استخدام التعامل بالعملات الوطنية في ثلاث قارات!

بدائل عديدة لا بديل واحد

أنظمة الدفع البديلة ستدفع نظام سويفت التقليدي جانباً. والآن، بعد أن تم عزل البنوك الروسية عن نظام سويفت، فإن إنشاء أنظمة بديلة سوف يتقدم بسرعة.
تستند شبكات الدفع هذه إلى مبادئ مشتركة. حيث يجب أن يعتمد النظام البديل على مجموعة من البنوك المشاركة فيه، وبرامج آمنة خاصة به، ونظام تشفير الرسائل مع تعليمات الدفع. ويمكن للنظام البديل استخدام أية عملة تسوية. لكن الأهم من ذلك، تحتاج البنوك المشاركة إلى حسابات مقابلة مع بنوك البلدان التي سيتم سداد المدفوعات بعملاتها. ويجب أن يشغّل النظام مراكز البيانات الخاصة به، والتخزين المركزي للمعاملات، وشبكة نقل المعلومات الخاصة به، ما يعني المزيد من التشبيك والربط بين هذه الدول.
وإذا تم استيفاء هذه الشروط، فسيكون لدى العديد من الدول بدائلها الخاصة لسويفت لإجراء المدفوعات بالعملات الوطنية، والمهم في هذه الفكرة أنها تؤكد على فكرة أن هذا التنوع لا يدفع العالم نحو التعددية القطبية كما يجري الترويج من بعض مراكز البحث الغربية، ولكن غالباً في اتجاه عالم خال من القطبية.
وأنشأت الصين بالفعل بديلاً، وهو نظام المدفوعات الدولي الصيني (CIPS). كما أنشأت روسيا نظام نقل الرسائل المالية التابع لبنك روسيا (FMTS)، وهو شبكة بين البنوك لنقل المعلومات المالية وإجراء المدفوعات يتم استخدامها بالفعل دولياً. واقترحت روسيا أن تنضم الهند إلى نظام FMTS الروسي لأنه يتكيف مع إرسال رسائل بصيغة SWIFT ولن تواجه البنوك الأجنبية مشكلة في استخدامه. وإذا سارت التجربة الروسية الهندية على ما يرام ، فقد تتوسع جغرافية البديل الروسي لسويفت.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1078
آخر تعديل على الإثنين, 11 تموز/يوليو 2022 14:08