الصين والنظام المالي العالمي الجديد
New Economic Institute New Economic Institute

الصين والنظام المالي العالمي الجديد

إنّ صعود الصين هو حقيقة لا جدال فيها. لهذا تشكّل خطراً وجودياً على الإيديولوجيا الرأسمالية- النيوليبرالية، رغم أنّ الصينيين أنفسهم لم يبذلوا سوى القليل من الجهد لتعريف تجربتهم، ولم يبذلوا جهداً على الإطلاق لتصديرها للعالم بوصفها نموذجاً اقتصادياً منافساً. رغم ذلك، تبقى الصين تمثّل تحدّياً لا يمكن للرأسمالية النيوليبرالية احتمال وجوده.

ترجمة: قاسيون

يجعلنا هذا نأخذ في اعتبارنا الخيارات التي حاول فيها الغرب توصيف التجربة الصينية. وفقاً للمنظرين الغربيين قبل أن تظهر المواجهة مع الصين إلى العلن، وهو الأمر الذي لم يعد كثيرون يتحدثون عنه اليوم، فقد حققت الصين «انتقالاً ناجحاً إلى الرأسمالية» وتدين بنجاحها في ذلك إلى مبادئ السوق الحرة. لكن إن كان الأمر كذلك، لماذا يشتكي الغرب؟ أليس أمراً غير رياضي أن تبدأ بمهاجمة من يتفوق عليك في لعبتك؟
لهذا كان على النخب الغربية أن تبحث عن خطاب آخر: نعم لعبت الصين لعبة الرأسمالية، لكنّها اكتسبت ميزة غير عادلة من خلال ثّني «القواعد». على سبيل المثال من خلال الاستيلاء على «الملكيّة الفكرية»، أو التلاعب بقيمة عملتها، أو إدارة نظام صناعي منخفض الأجور. لكن في الحقيقة لا تفعل مثل هذه الادعاءات سوى كشف القواعد على حقيقتها: محاولة الحفاظ على احتكارات وامتيازات الأغنياء. تمّ كسر هذه القواعد من قبل كلّ قوة صاعدة ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر، حتّى بات اسمه: «النظام الأمريكي».
لهذا لم يتبقَ أمام الأمريكيين سوى خيار وحيد تناولته بشغف الأصوات الإعلامية والسياسية الناطقة باسمهم: الصين دولة «شمولية»، وقوة اقتصادية عدوانية، يدفعها إلى الأمام بلا رحمة الحزب الشيوعي. لكن يبقى هذا الحل مربكاً، فهو يرقى إلى الاعتراف بتفوق الشيوعية ودونيّة الرأسمالية و«الديمقراطية» أمامها في الازدهار والاقتصاد. لهذا على هذا الخيار أن ينكر أنّ الرأسمالية- النيوليبرالية هي المسؤولة عن كلّ ما حدث.

الصين الحقيقية

في الواقع، الصين التي يراها المرء بعيون خبيرة وغير منحازة، لا تنسجم بسهولة مع الأفكار البسيطة التي حاول الغرب تكوينها واستخدامها. للصين الخصائص الرئيسية التالية:
لديها اقتصاد كبير جداً، ولا مركزي إدارياً، ومتكامل داخلياً.
لديها عدد كبير من الأشكال التنظيمية: العامة، والخاصة، والمشاريع المشتركة، والحكومية، والمقاطعاتية، والبلدية، والقروية.
يتم تمويلها من خلال نظام مصرفي مملوك للدولة، يوفّر دعماً مرناً للنشاط من أجل الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، والأهداف الأساسية، والمحفظة الكبيرة من القروض المتعثرة لعرضها عليه.
تتمتع الدولة على جميع المستويات بسيطرة كبيرة على الأرض، وبالتالي لديها القدرة على كسب إيجار الأرض، وهي قادرة على تحفيز وتوجيه المشاريع الاستثمارية الكبرى في مشاريع البناء الحضري، وإدارة المياه والطاقة الكهربائية والنقل الجماعي، بما في ذلك الطرقات والنقل الجوي والقطارات فائقة السرعة الحديثة.
الاقتصاد الأكبر قادر على استيعاب التكنولوجيا من الغرب، وكذلك إنشاء تكنولوجيا خاصة به، والوفاء بمعايير الأسواق الغربية، وبالتالي حلّ مشكلة التحكّم بجودة السلع الاستهلاكية التي عانت منها بعض التجارب الاشتراكية تاريخياً.
لا تزال الصين مصانة إلى حدّ ما من نهب التمويل الدولي المفترس، عبر الاحتياطي الكبير من العملات الأجنبية، والتطبيق المستمر والدائم لضوابط حركة رأس المال.

النموذج الناجح

نجح النموذج الصيني– الذين يعتمد على التجربة والخطأ– بأقلّ من ٥٠ سنة في القضاء على الفقر المدقع، وفي خلق عالم مدني آمن إلى حدّ بعيد، يعيش فيه شعبٌ متعلّمٌ يتمتّع بصحّة جيدة إلى حدّ كبير. في عام ٢٠٢٠، نجحت الصين بحشد الشعب لهزيمة وباء كوفيد-١٩، بينما لم يتمكن ولا مجتمع غربي كبير من فعل ذلك.
تقوم الصين اليوم بتقديم خدماتها الهندسية كصادرات إلى العالم النامي بشروط مالية مواتية وبدون أعباء إيديولوجية أو دبلوماسية. ليس على الصينيين أن يعلنوا عن الأمر، فنجاح النموذج وجاذبيّة العروض تتحدّث عن نفسها. لهذا السبب فالهجوم المضاد للعلاقات العامة من الغرب- الذي ركّز على العيوب وضخمها، سواء الواقعية منها أو الخيالية- يمكن فهم سبب تكثيفه.
هل المحرك الصيني المرتبط بشكل متزايد بروسيا التي يتمّ إعادة هيكلتها، وقوته الجاذبة لأكبر منطقة ديموغرافية وإنتاجية وتجارية في العالم: منطقة الاتحاد الأوراسي الاقتصادي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ستؤدي فيه إلى إنهاء اتفاقية بريتون وودز؟ هل سنرى بعد طول انتظار إنهاء النظام الدولي القائم على الدولار؟
لن تعتمد الإجابة عن هذا السؤال على الحجم والإنتاجية والتطور التكنولوجي للدولة الصينية واقتصادها وحسب، بل ستعتمد أيضاً على دور الأصول المالية الصينية في العالم ككل، وما له علاقة بالدور الحالي للأصول المالية للولايات المتحدة، وأوروبا، وبقيّة الدول «الغربية»، والمؤسسات الدولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي.
تُعدّ الصين الآن أكبر اقتصاد في العالم من خلال مقاييس القوة الشرائية. إنّها أعظم دولة تجارية في العالم، لكنّها لا تلعب الدور المالي العالمي أو الأمني، وليس لديها طموحات واضحة للقيام بذلك. قد يجادل المرء في واقع الحال بأنّ تولي مثل هذه الأدوار سيكون مناقضاً لنموذج التنمية الصيني الذي يعتمد على البناء والإنتاج بدلاً من التمويل، وهو دفاعي بالكامل من الناحية العسكرية، ويعتمد على المؤسسات الدولية والقانون والتعاون من أجل الحفاظ على السلام العالمي. علاوة على ذلك، تحمي الصين أصولها الداخلية وتحدّ من الامتداد الخارجي للاعبين الاقتصاديين من خلال فرض ضوابط على حركة رأس المال. تحتفظ الصين بأكثر من ترليون دولار من السندات الحكومية الأمريكية، ولا يمكنها بيعها بسهولة حتى لو رغبت بذلك، دون التأثير على سعر السندات أو سعر صرف الدولار، وبالتالي خفض قيمة ممتلكاتها.
ما يمكن أن تفعله الصين بمرور الوقت هو اتخاذ خطوتين من الواضح أنّهما على جدول أعمالها بالفعل. أولاً: يمكنها ترتيب آليات دفع ثنائية أو متعددة الأطراف مع شركاء راغبين بحيث تتجاوز الوسيط التقليدي، الدولار الأمريكي. يمكنها على سبيل المثال أن تدفع بعملتها مقابل النفط الإيراني، وأن تقبل إيران البضائع الصينية. يعمل هذا بشكل جيد طالما أنّ التجارة في القطاع اللادولاري متوازنة بشكل معقول، بحيث لا ينتهي الأمر بالشريك في مركز الفائض بحيازات كبيرة من الأصول المالية، التي لا يريدها أو لا يكون قادراً على استخدامها في معاملات أخرى. لهذا فمسألة وجود بديل للأصل الاحتياطي المقوّم بالدولار ستُثار حتماً.
يكمن الحلّ الواضح لهذه المشكلة في الأصول الاحتياطية المشتركة لمنطقة التداول الناشئة بعملة غير الدولار. هذا هو الدور التاريخي لسبائك الذهب. لكن في العالم الحديث من غير المرجح أن يلعب الذهب هذا الدور بالكامل، نظراً لعدم الاستقرار الشديد في سعره في السوق، وكذلك عدم الاستقرار المضاربي الناشئ عن الأنشطة خارج منطقة الاحتياطي المشترك. لهذا فالنهج المنطقي هو إيجاد أصل مالي دولي، يتألف من مجموعة مرجحة من السندات الوطنية للدول المشاركة، مدعومة بالالتزامات المشتركة بما يتناسب مع الحجم والقدرة للصين وروسيا وإيران والدول الأخرى المشاركة، مثل: كازخستان وبيلاروسيا. بالنسبة للواقع في أوراسيا، سيعني هذا سنداً أساسه العملة الصينية. لن يمكن اختبار قدرة وصلابة مثل هذه الأداة مقابل سندات الخزانة الأمريكية إلّا بمرور الوقت.

بتصرّف عن:
China’s Challenge to the Neoliberal World.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1069
آخر تعديل على الإثنين, 09 أيار 2022 13:57