المكسيك بين مطرقة وسندان التطور الرأسمالي الطرفي
سانغينس وروسو وسيمونازي سانغينس وروسو وسيمونازي

المكسيك بين مطرقة وسندان التطور الرأسمالي الطرفي

في أقلّ من ثلاثة عقود، قفزت صناعة السيارات المكسيكية من موقع صغير إلى منتج السيارات السابع عالمياً. هذا النمو المذهل حدث بالتزامن مع تطوّر الاقتصاد والسياسة العامة في الولايات المتحدة. فبعد فترة أولية من استبدال الواردات، تطورت صناعة السيارات المكسيكية أولاً إلى منتج زهيد الثمن للأجزاء والمكونات لشركات صناعة السيارات الأمريكية الثلاث الكبرى، لتصبح بعد ذلك جزءاً لا يتجزأ من نظام الإنتاج في أمريكا الشمالية، ناهيك عن تخطيها نقطة الدخول إلى السوق الأمريكية كشركات صناعة سيارات غير أمريكية.

ترجمة: قاسيون

مثّلت اتفاقية نافتا NAFTA «اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية» تتويجاً لعملية الإدماج التي أدت لتحول عميق في هيكل صناعة السيارات المكسيكية، ما أدّى لتعميق اعتمادها على السوق الأمريكية. في الواقع، ورغم العديد من اتفاقات التجارة الحرة التي وقعتها المكسيك مع دول أخرى ومنظمات إقليمية، لا تزال أكثر من 80% من الصادرات المكسيكية متركزة في الولايات المتحدة. ولكن، ورغم أنّ نافتا قد ساهمت دون شك في النمو المذهل لصناعة السيارات المكسيكية، فمسألة نتائجها من حيث مرونة الصناعة المكسيكية واعتمادها على الولايات المتحدة، أمرٌ لا يزال يشغل حيزاً كبيراً من النقاشات.
يمكن أن تساعدنا عدسة النظر من زاوية العلاقة بين المركز والأطراف في فهم التكامل الحالي لأمريكا الشمالية، والاتجاه المستقبلي له. تعدّ التجربة المكسيكية جزءاً من الحالة الأكثر عمومية «للأطراف المندمجة»، أي تلك الاقتصادات الطرفية التي تمّ إدماجها في التقسيم الهرمي الجديد للعمل، والذي سمحت فيه التغييرات التكنولوجيّة والتنافسية والجيوسياسية.

الأهمّ ما يحدث في المركز

كما هو الأمر في الحالات الأخرى، لا يمكن فصل التطور المكسيكي عن التطورات التي تحدث في بلد المركز. وخلافاً للأدبيات التقليدية عن المركز والأطراف، علينا أن ننظر إلى الحالة هنا على أنّها علاقة مركز وأطراف ذات بنية معقّدة. في الحالة التي أمامنا، فالمركز «الولايات المتحدة» بات متخلفاً بشكل منهجي عن التحولات الرئيسية التي قادها منافسوه. في السبعينات والثمانينات، كان على شركات السيارات الأمريكية العريقة أن تستجيب للمنافسة المتزايدة «اليابانية بشكل رئيسي» التي طالت أسواقها الخاصة التي كانت محمية حتّى ذلك الحين. في هذا السياق، ومن بين الاستراتيجيات المختلفة المعتمدة، اكتسب نقل العمليات التي تحتاج إلى عمالة كثيفة إلى الخارج، وإعادة تنصيب المصانع في المكسيك، أهمية متزايدة.
لكنّ صناعة السيارات اليوم تواجه تغيراً زلزالياً حقيقياً: السيارات الكهربائية وذاتية القيادة، الأتمتة، والرقمنة والروبوتات، والأشكال الجديدة من امتلاك السيارات والتنقل بها. كلّ هذه التغييرات لديها القدرة على إعادة تشكيل الجغرافيا الصناعية الموجودة حالياً، ممّا سيؤثر على الميزة النسبية التي تتمتع بها الدول الأطراف، حيث تقوم الشركات الرائدة بتبني تكنولوجيا رقمية جديدة، وتحوّل سلاسل توريدها ومصادر أعمالها.
يحدث هذا التحوّل بسرعات متباينة، وتأثيراته على المركز وشبه الأطراف والأطراف في المجموعات الإقليمية المختلفة غير واضحة في الوقت الحالي. لكن من المتوقع أن يختفي جزء كبير من سلسلة التوريد المرتبطة بسيارات محركات الاحتراق الداخلي. قد يكون تطبيق مثل هذه التحولات في المكسيك مكلفاً للغاية. يتمثل التحدي الذي يواجه الشركات المكسيكية في الاندماج في سلاسل التوريد الجديدة في قدرتها على المشاركة في الهندسة الصديقة للبيئة في عملية التصنيع، وفي تكييف النماذج مع الأسواق المختلفة، وفي تصميم وتطوير أجزاء ومكونات جديدة أكثر كفاءة. لكن رغم ذلك، فالنجاح في هذا أمرٌ قد لا تتمكن المكسيك ضمن صيغة عملها الحالية من الوصول إليه.
على الصعيد الوطني، يمكن أن تقلل مشاكل المكسيك طويلة الأمد– البنية التحتية الضعيفة والفساد المستشري– من جاذبية المكسيك للاستثمارات الأجنبية. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ الحكومات المكسيكية قد استثمرت موارد كبيرة في تطوير الإنتاج المحلي والشبكات المؤهلة. موردو السيارات في المكسيك منظمون اليوم في شبكة من المجموعات الوطنية «Red Nacional de Clusters de la Industria Automotriz». هناك تسع منظمات إقليمية مهمتها تسهيل التعاون بين الصناعة والحكومة والمؤسسات البحثية، بهدف تعزيز تنافسية قطّاع السيارات الإقليمي. بذلت الحكومات والشركات جهوداً وأموالاً ليست بالقليلة في تشكيل وتدريب مهندسين وفنيين وعمّال مؤهلين لسدّ النقص في المهارات الفنية في الهندسة، والبرمجيات المتطورة، والمواد والتصنيع– والتي لا تزال حتّى اليوم تضرب الصناعة كالطاعون.

الحيوية الإقليمية

هل يمكن للإشارات الدالة على الحيوية الإقليمية، والموجة الأخيرة من الاستثمار الأجنبي المباشر في المكسيك- إلى جانب درجة الإدماج التي وصلت إليها الصناعة المكسيكية والأمريكية- أن تمنح بعض التفاؤل بمستقبل صناعة السيارات المكسيكية في عصر السيارات الكهربائية؟ لا يمكن الجزم بذلك مع التحولات التي تأخذ مكانها في قطاع صناعة السيارات العالمي والمشهد الجيوسياسي: نهاية نافتا ومجيء USMCA، ودخول منافسي الولايات المتحدة الأقوياء إلى السوق العالمية، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وآثار تشكّل القطب الناشئ للسيارات في جنوب شرق آسيا.
في الحقيقة، أمام المكسيك الكثير من العقبات على طول الطريق. بادئ ذي بدء سياسة الولايات المتحدة نفسها. فمرّة أخرى تخلفت الولايات المتحدة عن الركب في التحوّل العميق الذي تشهده الصناعة، ثمّ بدأت في الآونة الأخيرة تبذل جهوداً للحاق بالصين والاتحاد الأوروبي. يمكن أن يحدّ المشرّع الأمريكي المصمم على إعادة صناعة السيارات والشاحنات إلى الولايات المتحدة، من قدرة وصول الإنتاج المكسيكي المستقبلي إلى سوق الولايات المتحدة. كما أنّ نجاح المكسيك في تأمين اتفاقات تجارة حرة قد يتقلّص من خلال نقل جزء من الإنتاج في الصين إلى الدول المجاورة لها، مع صعود معاهدات تجارية جديدة داخل آسيا. خاصة إذا كانت الولايات المتحدة منضمة لجزء من هذه المعاهدات.
إنّ إنشاء صناعة محلية مستقلة هو هدف تسعى إليه باستمرار جميع الحكومات المتأخرة صناعياً. حظر استيراد المركبات الجاهزة، وحظر الملكية الأجنبية هي من بين التدابير التي تنفذها عادة الدولة المتأخرة لحماية الصناعات الوليدة. نجح عدد قليل من الدول بتطبيقها، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية، وفشلت الكثير من الدول. وعلى الرغم من كون المكسيك هي السابعة عالمياً في إنتاج السيارات، فهي لا تزال تفتقر إلى شركة تلعب دور «البطل الوطني».
لقد وقفت «السياسة الصناعية» المكسيكية التي توجهت نحو الحفاظ على المزايا النسبية– تكاليف العمالة المنخفضة والعلاقات الصناعية المروّضة– عائقاً في وجه تطوّر السوق المحليّة. هل يمكن لأيّة حكومة مكسيكية اليوم أن تلحق بركب تطور صناعة السيارات الكهربائية بشكل تنافسي؟ رغم أنّ عدم اليقين لا يزال يسري عموماً بين جميع من يدرس هذا الأمر، يرى البعض بأنّ عمليّة الخروج المكسيكي من بين مطرقة وسندان التطوّر المرتكز على الشركات والسوق الأمريكية ممكن، ولكن يحتاج إلى «بطل وطني» تساهم الدولة المكسيكية في خلقه وحمايته بأسرع ما يمكن.

بتصرّف عن: Mexico’s Automotive Industry: A Success Story? Working Paper No. 166

معلومات إضافية

العدد رقم:
1042
آخر تعديل على الإثنين, 01 تشرين2/نوفمبر 2021 14:22