البضائع التركية في سورية إيرادات المعابر والتهريب قد تفوق 500 مليون دولار سنوياً
عندما تكون الحدود السورية مع تركيا تقارب 820 كم، فإن ضبط حركة البضائع المتدفقة على طرفي الحدود هو مسألة مستحيلة، وتحديداً في الأوضاع الحالية، حيث ازدادت كثافة السوريين والنشاط الاقتصادي السوري في تركيا، وفي المناطق الحدودية على وجه التحديد.
البضائع المهرّبة هي عنوان أساس لدى الصناعيين السوريين العاملين داخل البلاد، ولكن مهما تعالت شكواهم فإن التهريب يبقى أقوى... حجم البضائع الداخلة من تركيا بالدرجة الأولى، والواصلة إلى الأسواق حلب ودمشق وحمص واللاذقية وغيرها، هو واحد من مؤشرات حجم سوق الفوضى السورية، ووزن «أزلامها» ومستوى تشبيكهم العابر للجبهات! فعبور التهريب قد يكون أهم موارد تمويل الميليشيات.
كما أصبحت تركيا موضوعياً مصدر الإمداد الأساس لمناطق ومراكز كثيفة السكان في إدلب، وريف حلب الشمالي الغربي، بعدد سكان يزيد عن 4 ملايين نسمة، وتركيا هي منفذهم الخارجي الوحيد، كما تدخل البضائع التركية من كردستان العراق إلى مناطق الشمال الشرقي السورية، ولكن مع ذلك فإن مستوى تدفق البضائع التركية أعلى من احتياجات مناطق شمالي سورية بكثير، وهي تعكس عمليات التهريب المنظمة جنوباً.
أكثر من مليار دولار سنوياً
قبل الأزمة وخلالها
لا تورد بيانات التجارة الخارجية السورية أية معلومات عن استيراد البضائع من تركيا، ولكن البيانات الدولية حول التصدير التركي لسورية يشير إلى نقل بضائع بما يقارب 1,3 مليار دولار من قيم البضائع إلى سورية. وهي قيم لا تقل كثيراً عن مستوى عام 2010 عندما سجّلت الواردات التركية إلى سورية: 1,67 مليار دولار. وكانت تصل بشكل نظامي إلى كافة المناطق السورية، وإلى بلاد كانت في وضع اقتصادي طبيعي وتضم قرابة 23 مليون مواطن!
بين 2010 و2019 وخلال 9 سنوات من الأزمة، لم تتراجع البضائع التركية المورّدة إلى سورية إلا بنسبة 24% تقريباً، بينما مجمل المستوردات السورية تراجعت بمقدار يقارب 75%! أي: إن تركيا بقيت مصدر أساس لتوريد البضائع إلى سورية خلال سنوات الأزمة، ولم تقل المستوردات من تركيا عن 1 مليار دولار إلّا في عام 2012 عندما سجّلت أقل من 500 مليون دولار. (ICT trade map).
سلسلة من المعابر
خارج وداخل البلاد
إن هذه البضائع تمر عبر المعابر السورية التركية التي يبلغ عددها الإجمالي 20 نقطة عبور، يعمل منها بشكل كامل في الظرف الحالي: 5 معابر في إدلب وحلب: (باب الهوى في إدلب، و«غصن الزيتون» في عفرين، باب السلامة قرب اعزاز، ومعبري الراعي وجرابلس). وتدير الجهات الرسمية التركية كل هذه المعابر من الطرف التركي، وتسجّل بيانات التصدير بشكل رسمي، أما في سورية تديرها ميليشيات في الشمال السوري، أو الجهات التمثيلية السياسية التي تتبع لها، مثل: (حكومة الإنقاذ). إضافة إلى وجود معابر مفتوحة بشكل مقيّد، أحدها: معبر خربة الجوز في إدلب تديره «هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة»، ومعبرا تل أبيض ورأس العين في الرقة والحسكة، ومعبر كسب تديره الحكومة السورية. وفق بيانات منظمة UNOCHA بتاريخ 3-12-2020، إضافة إلى معبر سيمالكا بين دهوك في العراق والحسكة.
ومن هذه المعابر تدخل بضائع فاقت في عام 2019: 1,8 مليون طن من البضائع المختلفة، تعبر بالشاحنات. وهي لا تغطي فقط مناطق الشمال، بل تصل جنوباً إلى أسواق دمشق وريف دمشق، وتمتلئ بها أسواق حلب واللاذقية وغيرها. إن قرابة 80% من سكان سورية اليوم يتواجدون في مناطق السيطرة الحكومية، ونسبة هامة من البضائع التركية التي تعادل مستوردات 2010 موجهة لهم.
تجد البضائع طريقها إلى المدن السورية الأساسية عبر مجموعة من المعابر المحلية التي كانت تعمل بشكل مستمر تقريباً خلال سنوات الأزمة، منها مثلاً: قلعة المضيق، ومورك، والمنصورة، والعيس، والحاضر، وأبو الظهور، كما يتم الحديث عن معبر سراقب حالياً. يضاف إلى هذا المعابر مع الشمال الشرقي التي يتعدى عددها 6 نقاط عبور: (الصبخة وصفيان ومسكنة في الرقة، ومعابر الصالحية والعكيرشي في دير الزور إضافة لمعبر التايهة بين مدينتي منبج وحلب). وجميع هذه المعابر تفتح وتغلق تبعاً للظروف الأمنية والسياسية، ولكنها بالعموم تسمح بالعبور والحركة التجارية.
المعابر بين القوى المتنافرة هي واحدة من الظواهر المعروفة والموضوعية في اقتصاديات الحرب، ولكنها عملياً واحدة من أدوات تمويل أطراف وقوى مسلحة وترسيخ أمر واقع، وبناء شبكات مصالح ترتبط باستمرار الحرب! وفي الحالة السورية تدفع نحو تعزيز حالة تقسيم البلاد، بين مناطق نفوذ تتنافر قواها السياسية وتتشدد، بينما تتقاطع مصالح أمراء حربها، بل يرتفع التنسيق بينهم إلى مستوى مرتفع.
البضائع التركية الداخلة إلى سورية عبر شبكة هذه المعابر تعطي مؤشراً على حجم موارد المعابر، التي لا تقتصر طبعاً على البضائع المهرّبة، ولكنها تشكل جزءاً هاماً من دخلها.
هل يمكن تقدير إيرادات المعابر من بضائع تركيا؟!
يصعب الوصول إلى تقدير دقيق لحجم إيرادات المعابر، وهو رقم تأشيري محاولة الوصول إليه هي سياسية أكثر مما تعني أنه رقم دقيق اقتصادياً.
العديد من التحقيقات الصحفية ووسائل الإعلام المحلية في مناطق سورية كافة، تنشر معلومات حول كلف عبور الشاحنات على المعابر بين تركيا وسورية، وبين المناطق السورية. ورغم التباين النسبي في هذه التقديرات، إلّا أنها تتقاطع على أرقام متقاربة نسبياً: 300-500 دولار لكل شاحنة عابرة من تركيا إلى سورية، وصولاً إلى 1000 دولار في بعض أنواع البضائع. ما يعني أنّه بالحدود الوسطية فإن الشاحنة تدفع: 400 دولار تقريباً... أما تقدير حركة شحن البضائع فإنّه أيضاً بشكل تقريبي يتطلب نقل ما يزيد على 1.8 مليون طن من البضائع عبور أكثر من 500 ألف شحنة خلال السنة، بحمولة وسطية 3.5 أطنان للشاحنة، رغم أن الشحنات قد تكون أكثر من ذلك، مع عبور الشاحنات الصغيرة غالباً ما يزيد الإيرادات.
ويمكن أن نصل إلى تقدير بأن عبور الشاحنات من تركيا إلى سورية يمكن أن يؤمن للقوى المسيطرة على المعابر الخارجية ما يقارب: 200 مليون دولار بالحدود الوسطية. مع العلم أن تقديرات أخرى أشارت إلى أن هذه الجهات تشير إلى أن إيرادات المعبر الواحد وسطياً: 13 مليون دولار شهرياً، ما يعني أن خمسة معابر في حلب وإدلب فقط يمكن أن تحقق عوائد تقارب 780 مليون دولار سنوياً، ولكن هذه الإيرادات ليست من البضائع التركية فقط، وهي متحققة من حركة العبور والدخول.
ولكن الشاحنات لا تدفع إيرادات عبور لمرة واحدة، بل تدفع أيضاً عند نقاط العبور المحلية، تشير بعض التقديرات إلى أنها بلغت في عام 2018 مثلاً: 200 ألف إلى مليون ليرة لكل شاحنة، أي: ما كان يعادل في حينها: 400-2000 دولار للشاحنة. وإذا ما أخذنا هذا الرقم للتقدير، فإن مليون طن فقط من مجمل البضائع التركية منتقل إلى الأسواق السورية في حلب ودمشق، وعموم المدن السورية الأخرى، يمكن أن يحقق دخلاً قد يصل إلى 340 مليون دولار للميليشيات التي تدير المعابر المحلية.
أكثر من 540 مليون دولار دخل سنوي يدفع للمعابر الحدودية والمحلية لمرور البضائع التركية إلى داخل سورية، وجزء هام منها إلى مناطق سيطرة الحكومة. وتقديرياً أيضاً، فإننا نتحدث عن دخل خلال يقارب: 2,7 مليار دولار خلال الفترة بين 2015-2019، ويصل إلى 3.5 مليار دولار إذا ما ابتدأ العد منذ عام 2013 عندما استقرت سيطرة الميليشيات على المعابر الشمالية مع تركيا، وذلك مع أخذ عام 2019 كمعيار للقياس مع العلم أنه العام الذي سجلت فيه حركة البضائع أقل معدل لها.
خلاصة
إن حركة البضائع من تركيا إلى سورية لم تتغير كثيراً بين ما قبل الأزمة وما بعدها، ولا تزال الحدود التركية الواسعة والتواجد السوري المكثف على طرفي الحدود مصدراً أساساً لتأمين تدفق البضائع إلى سورية، بينما تراجعت الواردات السورية الإجمالية بنسبة 75% تقريباً، فإن الواردات التركية لم تتراجع إلا بمقدار أقل من الربع.
حركة هذه البضائع لا تتدفق فقط إلى مناطق شمالي سورية، بل كثافة التجارة تدل على أن مناطق سيطرة الحكومة ومدن سورية الأساسية، حيث 80% من سكان سورية هم وجهة أساسية لهذه البضائع.
البضائع تمر عبر مجموع المعابر الحدودية والمحلية التي تسيطر عليها وتديرها قوى وميليشيات عسكرية من كافة الأطراف، وهي تحقق دخلاً وسطياً تقريبياً يفوق 540 مليون دولار سنوياً من رسوم العبور، يعادل نسبة 44% من قيمة البضائع.
يؤدي هذا التدفق إلى زيادة وزن ودخل ونفوذ هذه القوى المسلحة، ويشكل مصدر دخل هام لها، وهو ما يفسّر صعوبة مواجهة البضائع المهرّبة ووقف التهريب، حيث تكمن خلفه مصالح وإيرادات تتراوح بين 2,7 مليار دولار وقد تفوق 3,5 مليارات دولار خلال سنوات الأزمة، فقط من مرور البضائع التركية.
المعابر هي واحدة من أهم آليات اقتصاد الحرب وزيادة قوة أمرائها وثرائهم، ولهؤلاء مصلحة جدية باستمرار وجود المعابر، واستمرار العلاقات السياسية المتدهورة مع تركيا، وعدم تنظيم العلاقات والتجارة المطلوبة موضوعياً لسورية، التي تعتبر تركيا محيطاً حيوياً ضرورياً لها، ولكن الأهم: أن لهؤلاء الذين يديرون حركة العبور من الميليشيات المختلفة مصلحة جدية باستمرار تقسيم مناطق النفوذ عبر البلاد.
إن وزن الميليشيات التي تدير المعابر لا يعيق فقط التسويات السياسية، بل إن ربحها ودخلها يدفعه عموم السوريين في كافة المناطق من إدلب إلى حلب إلى دمشق وفي الحسكة، فهذه النسبة من قيم البضائع التي تقارب 44% هي ارتفاع في أثمان البضائع التركية الموجودة كأمر واقع في الأسواق، ويدفع تكلفتها السوريون في ظروف المستوى الكارثي من الفقر والحرمان.
الضرر أيضاً يصيب ما تبقى من صناعات سورية، التي تنافسها هذه البضائع بشدّة، وتحديداً مع الصعوبات الاستثنائية والعراقيل غير المفسّرة، وغياب أي دعم لهذه المنتجات، وسيكون على الصناعيين أن يواجهوا قوى الحرب والمعابر ليستطيعوا أن يضمنوا سياسيات جدية تحمي منتجاتهم من منافسة هذه البضائع المنتجة في تركيا في ظروف أفضل، والعابرة براً لمسافات قصيرة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 995