تخلّف المنظومة الرأسمالية السورية..
الإنسان هو الركن الأساس في البنية الإنتاجية والخدمية، التي يتطور المجتمع ويؤمن أساسياته عبرها... تلك البنية التي تسمى بشكل غير دقيق (الاقتصاد). وهذه البنية في العصر المتخلف الذي تعيشه البشرية (عصر الإنتاج الرأسمالي) لا تنطلق من الإنسان، ولا تعمل من أجل تقدّمه بل تقوم على استغلاله، وهي تنطلق من مصلحة (الصفوة المنتخبة) مالكة الموارد والقرار، والتي مسعاها الدائم أقصى ربح وبأي ثمن.
إنها حكاية قديمة يعرفها الجميع ويواجهونها يومياً، رغم كل الفقاعات الدخانية التي تغلّفها... ولكن في أوقات الأزمات ومع زيادة تفسّخ المنظومة وشيخوختها يزداد هذا الواقع الهجمي تجلياً. كأن يكون العنف والحرب أداة تغذية المنظومة، وأن تعلن الحكومات المتأنّقة والمنتخبة بأنها سترسل موظفيها إلى العمل ليؤمّنوا استدامة الربح لحيتانها، حتى لو كان من المؤكد أن وباء لا علاج له إلى الآن سيقضي على 5% وسطياً، والهمجية تزداد كلما كانت البنى المحلية الحاكمة متخلفة، وذات موقع متأخر في المنظومة العالمية.
في سورية تتجلى اليوم وحشية منظومة رأس المال بأكثر أشكالها تخلفاً، عندما يتم فقدان القدرة على التحكم بأي جانب من جوانب التدهور والكارثة الصحية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعيشها البلاد وأهلها. عندما نضطر لأن نرتهن في صحتنا وغذائنا وأمننا إلى إدارة هي على مستوى من التخلف، لدرجة أنه في ظل انتشار واسع لوباء صحي تقام الحفلات والمهرجانات، وتستمر طوابير الخبز وترتفع أسعار الدواء، وتحاول وزارة الصحة أن تغطّي الوقائع التي يعرفها الناس بموت جيرانهم وأقربائهم...
بل يمكن أن يكون أكثر ما يعبر عن بنية (رأس المال السوري) هي أنّ آخر الإجراءات الحكومية المتعلقة بانتشار الوباء هي (إيقاف برامج الملاهي الليلية) بعد العيد! إنهم لا يخجلون أن يعلنوا أنهم يديرون الأمور عند هذه المستويات، بينما المطلوب مثلاً: أن يتم حجر مدينة مليونية، مثل: دمشق وتنظيم حاجات أهلها، وإقامة المشافي الميدانية فيها!
إننا نعيش في ظل منظومة إنتاج تتحكم بها نخبة شديدة الفساد والتخلف، وترهن جهاز الدولة وتفرغه من كل دور له، وتحديداً دوره الخدمي والمدني والتنظيمي والاقتصادي طبعاً... فمثلاً: يجوع الناس ويتراجع إنتاج الطاقة، وتتدهور المنظومة الصحية، وتتقلص الأعمار، ويتوقف الإنتاج، وبالمقابل تزدهر تجارة المخدرات.
ما جرى حتى عام 2017 كان قد أفقد السوريين 4,5 سنة وسطياً من أعمارهم، وبالفعل قصّرت الأزمة أعمارهم، أما ما يجري اليوم فهو ينقلنا إلى عتبة جديدة، ويضعنا في مواجهة عنيفة مع الجوع والتردي الغذائي والأمراض...
اليوم وبالأمس، يمكن أن توجد حلول لكل المشكلات مهما تعقّدت، أن تعبّئ الموارد من أجل الزراعة وإنتاج الغذاء، أن تبني جسوراً وعلاقات مفتوحة لتأمين مستلزمات الصحة، أن تبني الثقة بين المجتمع والمؤسسات لتواجه وباءً، أن تأخذ من الرابحين وتوزع على الأكثر خسارة، أن تطبق عدالة في الحرمان.
المشكلات دائماً، يمكن أن يكون لها حلول، حتى لو كانت في الوضع السوري بعد حرب ومع عقوبات... إذ يمكن أن تخفف من وقعها، أن تلغي آثارها، أن تعبّئ المجتمع لمواجهة فعلية وواسعة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والصحية والأمنية...
ولكن، هذا لا يجري لأن كل المشكلات تتواجه مع تخلّف المنظومة التي تملك القرار والإدارة، وتخلّف مصالحها ومستوى أدائها المتردي الذي يظهر في كل شيء، حتى في طبيعة وجوه و(رجالات الدولة) التي تنتجهم. عندما تصبح المصالح ضيقة إلى حد الذهاب بالبلاد إلى حافة الكارثة، مقابل عدم التضحية بأية مصلحة جدية من مصالح النخبة، يصبح من الصعب التعويل على حلول من البنية ذاتها، ويصبح التجهيز لبدائل وتعبئة المجتمع للانتقال هو الضرورة الوحيدة الممكنة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 977