الدولار والذهب والصين مؤشرات لهزّات النظام النقدي الدولي
تهزّ أزمة 2020 أسس النظام النقدي والمالي الدولي الهشّة، والجميع يجهّز لمرحلة قادمة، ولصدمات كبرى، السؤال الأكبر فيها: هو حول مصير الدولار، باعتباره محور هذا النظام الغربي المتشكّل خلال سبعة عقود... مؤشرات عديدة تقول: إن الدولار معرّض لهزات في سعره، وبالتالي، قابليته للبقاء في موقعه العالمي كعملة الاحتياطي الدولية الأبرز لوقت طويل.
مجموعة متغيرات مترافقة: فمن تراجع أسعار الدولار، إلى سياسات مواجهة الأزمة في الولايات المتحدة... مروراً بأسعار الذهب وما تعكسه، وصولاً إلى الإجراءات الصينية والبدائل، جميعها جوانب تدل على المتغيرات التراكمية نحو بدائل للنظام النقدي الحالي.
الإفراط في إصدار الدولار والتضخم المرتقب
سجل الدولار هبوطاً في أسعاره، ليصل إلى مستوى هو الأقل خلال عامين، ورغم أن هذا التراجع لا يعكس بمفرده شيئاً هاماً... إلّا أن الأهم هو: احتمالات استمرار هذا الاتجاه.
صرّح بنك غولدمان ساكس مؤخراً، أنّ الدولار الأمريكي قد يفقد قريباً وضعه كعملة احتياطية دولية... وجاء في إستراتيجيته ما يلي: (إن التخوفات الجادة حول استدامة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية دولية قد بدأت بالظهور).
مشيراً إلى أن الدولار يواجه عديداً من المخاطر: مستويات الدَّين المرتفعة في الولايات المتحدة بالقياس إلى الناتج التي وصلت إلى 130% من الناتج، إضافة إلى مسعى الحكومة الأمريكية والبنك الفيدرالي إلى تسريع التضخم وتخفيض قيمة الدولار.
إن سياسة مواجهة الأزمات الاقتصادية بطريقة (ضخ المال) عبر الاحتياطي الفيدرالي والحكومة الأمريكية، تؤدي عملياً إلى تراجع الثقة بالدولار، وتراجع الطلب على الاستثمار في الأوراق المالية المرتبطة بالعملة الخضراء، مثل: سندات الخزينة وغيرها. وتحديداً مع إعلان الفيدرالي الأمريكي مؤخراً، أن هذه السياسة ستستمر بالأدوات الحالية وستبقى أسعار الفائدة عند مستوى قريب من الصفر لأمد غير منظور.
أسعار الفائدة الصفرية تعني: أن عوائد الاستثمار بالدولار تنخفض، وأن المستثمرين الماليين لا يتوقعون ارتفاع أسعاره مستقبلياً، بل على العكس يتوقعون أن أسعاره ستتجه للتراجع، الذي قد يشهد (هزّات درامية) أو يتم بشكل تدريجي، وهو أمر يصعب تقديره مع تداخل العوامل التي تؤثر في الطلب على الدولار عالمياً...
تشير هذه السياسة الأمريكية، وتصريحات غولدمان ساكس، إلى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الحفاظ على هيمنة الدولار مستقبلاً، وهي تستخدم دوره في الأمد المتوسط باتجاهين:
الأول: على المستوى المحلي عبر الفيدرالي الأمريكي للقيام بعملية إنقاذ الشركات الكبرى، عبر تمويلها، وشراء ديونها المتعثرة، وإدارة إفلاس الأصغر، وحماية الأكبر، أمّا على المستوى الدولي، فيتم استخدام هيمنة نظام الدولار لفرض العقوبات على الآخرين.
ارتفاع أسعار الذهب والملجأ الآمن
المؤشر الآخر لتراجع الدولار، هو الارتفاع القياسي والمستمر في أسعار الذهب، إذ تجاوز السعر العالمي حدّ 1921$ للأونصة، وفي بورصة هونغ كونغ وصل إلى حد الـ 2000$. والذهب الذي تربطه بالدولار علاقة نديّة يعكس بارتفاعه تراجع الثقة بالدولار، على اعتباره يشكّل الملاذ الآمن التقليدي عند الاضطرابات والأزمات.
تجاوز سعر أونصة الذهب عالمياً حد الـ 1000 دولار في عام 2008 مع مواجهة الأزمة المالية بإصدار واسع للدولار أيضاً، ولم تنخفض بعدها... واليوم، مع أزمة عام 2020 والركود العميق، من المتوقع أن الأونصة ستتجاوز عتبة 2000 دولار. بل إنّ بنك غولدمان ساكس أيضاً يضع توقعاً وسعراً معيارياً للذهب وصل إلى 2300 دولار خلال الأشهر الـ 12 المقبلة. حتى الآن لم يصل السعر الحقيقي للذهب (المعدّل بالتضخم) الحد الأعلى الذي سجله في مطلع عام 1980 عندما وصل إلى سعر 850 دولار وهو ما يعادل اليوم 2800 دولار للأونصة، ولكن البعض يتوقع أن الوصول إلى هذا السعر قد لا يكون بعيداً مع المتغيرات الحالية.
في مطلع العام الحالي، أصبح الطلب المرتفع على الذهب غير مقتصر على البنوك المركزية للدول الصاعدة، التي كانت تتصدر قائمة مشتري الذهب منذ أزمة عام 2008، بل توضّح أن شركات وصناديق الاستثمار المالي الدولية تتجه إلى شراء الذهب، وزادت مخازينها منه... الأمر الذي يدل على أن هذه الجهات المضاربية الدولية التي تعتمد على توقعات ارتفاع السعر تقلل استثماراتها في الأصول المالية المرتبطة بالدولار وبمنظومة الديون العالمية، وتتجه إلى الذهب أيضاً كملجأ آمن تتوقع ارتفاع سعره.
ولكن واحداً من العوامل غير المباشرة لازدياد الطلب على الذهب، هو توقّع تبدلات في النظام النقدي الدولي، ونشوء بدائل من المرجح أن يتم ربطها بالذهب كقاعدة أساس، وهو ما يسلّط الضوء على الصين اللاعب الأهم عالميا، وفي هذا المجال تحديداً.
الصين تعمل ببطءٍ وهدوء
في نيسان من العام الحالي، دعا رئيس بورصة شانغهاي مجدداً إلى الحاجة إلى عملة سيادية دولية جديدة غير الدولار، لتخفيض هيمنته العالمية، متوقعاً أن أسعار الدولار ستضطرب وتنخفض وتحديداً مع تسارع ارتفاع أسعار الذهب العالمية.
كما تحاول السلطات الصينية وبنوكها أن تضبط وتنظم عملية التسارع في استثمار الذهب داخل الصين في سوق شانغهاي، حيث يتم تداول الذهب والفضة، داعية إلى زيادة إدارة المخاطر والاستثمار بعقلانية، فالصين المنتج الأكبر للذهب عالمياً معنية بعدم حدوث صدمات كبرى لمنظومة الدولار، وتعمل قدر الإمكان على انتقالات سلسة وغير صدامية.
العديد من المحللين يربطون زيادة الطلب على الذهب باقتراب الوقت المناسب لإعلان اليوان المغطّى بالذهب، حيث إنّ الصين ستلجأ إلى خطوة ربط عملتها بالذهب، عندما تصل السياسات المالية والنقدية الغربية إلى منتهاها، ويصبح فشلها مرئياً، والتجهيز لهذه الخطوة يقترب.
خلال العام الحالي، أعلنت الصين عن قرب إطلاقها لليوان الإلكتروني، الذي سيستبدل اليوان الحالي، وغالباً سيكون إصداره مرتبطاً بالذهب، وخلال أسبوع قادم سيصبح اليوان الرقمي مطبقاً في أربع مدن أساسية وحتى عام 2022 سيكون تطبيقه مكتملاً في الصين، وسيتم تجريبه على الحضور الدولي للألعاب الأولمبية في بكين.
الصين، لن تقوم بخطواتها بشكل صادم وسريع، وعملية التهيئة لبدائل في النظام النقدي الدولي تتم بالتدريج، وتتسارع منذ أزمة عام 2008، ولكن الخطوات تتسارع اليوم مع زيادة (البطش الأمريكي) كما يظهر في العقوبات والحرب التجارية المفتوحة، وصولاً إلى التصعيد الدبلوماسي والعسكري الأخير ضد الصين، إنّ منظومة الدولار هي شبكة متوغّلة في كافة جوانب الاقتصاد العالمي: ترتبط بالتجارة والتمويل وبالديون وبالتسعير العالمي... ولكن الولايات المتحدة تحوّل هذه المنظومة إلى أداة عدوانية لفرض العقوبات على المستوى الدولي، ولإدارة الأزمة في الداخل الأمريكي، بينما الآخرون، وفي مقدمتهم الصين، يحاولون احتواء هذا السلوك العدواني ببناء تدريجي للبدائل: نظام مدفوعات بديل، عملات إلكترونية مركزية، مراكمة الذهب كضمان وأساس موثوقية للبديل، والأهم علاقات سياسية دولية قائمة على التعاون والسلم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 977