لماذا الليرة هي عنوان المرحلة؟! إمّا الهاوية أو الخلاص
منذ نهايات العام الماضي والليرة تنهار بمستوى متسارع، بما أصبح ينذر بالوصول إلى الوضع الذي تفقد فيه آخر وظائفها... ترافق هذا مع تشديد العقوبات والحديث عن قانون قيصر، وأزمة لبنان، والركود الاقتصادي، والأزمات بين نخب الفساد والنفوذ والثروة داخل البلاد... وخلال أقل من ستة أشهر شهدنا حالتين تعرضت فيهما الليرة لتدهور يومي متسارع (الأولى: في مطلع العام الحالي، والثانية: في الأسبوع الماضي) وفي الحالتين يتم (وقف) التدهور بآليات أمنية ودعائية مؤقتة، ولكن عند حدود أعلى مما سبق، وغالباً مع رفع سعر الصرف الرسمي.
هنالك طابع أمني لأزمة المضاربة الموجودة، ولكن عمقه سياسي واقتصادي، ولا يمكن التعامل معه أمنياً حتى ولو بشكل مؤقت! فالحجم المالي المتاح للمضاربة كبير جداً، إذ طالما أن قوى المال الكبرى في السوق السورية (تقلب) يومياً أرباحاً تقارب مليار ليرة... (أي تحولها في السوق السوداء من ليرة إلى دولار)، وطالما أنها تجد بالمقابل دولارات في السوق تُضخ من الخارج، وطالما أن إمكانات ضخ الأموال للخارج موجودة، فإن أدوات المضاربة لن تنتهي... والربح الاحتكاري الكبير الذي يراكمه هؤلاء يومياً، مع وجود كتلة دولار كبرى في يد قوى السوق وعابرة للحدود، هي مسألة اقتصادية وسياسية تراكمية تدل على وهن قدرة جهاز الدولة بوضعه الحالي على التعامل مع هذه المسألة.
المضاربة عملية مستمرة، ولها قاعدة متينة لا يمكن مواجهتها (بضربات شكلية)، بل تتطلب إجراءات اقتصادية وسياسية عميقة تتناسب مع حجم المشكلة ودرجة الخطورة، إجراءات في جذرها تزيح الدولار من التداول، وتعيد لجهاز الدولة قدرته الاقتصادية ووظيفته كمالك أساسي للموارد ومنتج وتاجر أساسي...
ولكن، هل يدرك هؤلاء الذين يطرحون أنفسهم كمسؤولين عن أخذ حلول وإجراءات للتصدي لتدهور الليرة؟ ما حجم المشكلة السياسية والوطنية لاستمرار الانهيار؟! سنحاول أن نجمل الآثار السياسية لهذا في ثلاث نقاط...
انهيار الليرة و(الجلطة الاقتصادية)
انهيار الليرة هو تعبير مكثف عن إصابة ما تبقى من الاقتصاد السوري (بجلطة قلبية)، فعندما يتوقف البيع هذا يعني أن التداول وخلفه الإنتاج يتوقف تدريجياً، والأموال تتحرك باتجاهات محددة لتحافظ على قيمتها بالهرب نحو الملاجئ الآمنة: الدولار، الذهب، ومنها للخارج... لتُفرغ البلاد من الموارد الضرورية لإعادة النبض. وعندما تصبح هذه الأداة وهي الليرة غير فعّالة، فإن القوى الاقتصادية التي تبقى لديها القدرة على العمل، ستلجأ موضوعياً إلى وسيلة أخرى: لحفظ الموارد، واستثمارها، والتسعير والتداول. ونحن اليوم في المرحلة التي فقدت فيها الليرة الجزء الأعظم من الوظائف الثلاث، الأولى: الدولار هو حافظة موارد الأثرياء، والاستثمار لا يتم في ظل عدم استقرار التداول، وهو يتوسع بفعالية فقط في مجالات (شاذة وضيقة) وترتبط بالدولار، مثل: التجارة السوداء والتهريب، ومن تبقى من مستثمرين ومنتجين محليين يسعّرون أعمالهم على دولار السوق السوداء، وبالتالي، تحول الجزء الأعظم من تسعير المواد ليرتبط بسعر دولار السوق السوداء، بينما التداول لا يزال بالليرة، ولكنها تصبح تدريجياً (رمزاً وأوراقاً تعكس الدولار)!
الليرة مصير مشترك.. أو أداة للتقسيم
إن تدهور الليرة هو أداة للتقسيم: عندما يلجأ الأمريكيون إلى الحصار الاقتصادي كوسيلة حرب وأداة أساسية لتحويل سورية إلى مستنقع، وطريق لتحقيق هدفهم بالتمهيد لأرضية التقسيم، ومنع عودة البلاد وحدة واحدة متكاملة... فإنهم يعون ما يفعلون! وطبعاً هذا ليس مدحاً لهم، ولكنه ذمٌّ وإدانة لكل من يخفف من خطورة تدهور الليرة ويجري إجراءات شكلية تدفع المصير السياسي للبلاد- وليس الاقتصادي فقط- نحو الهاوية. ومن لا يرى هذا عليه أن يقرأ الإشارات المرسلة خلال الأسبوع الماضي عندما يتم الحديث عن إمكانية تسعير القمح في مناطق الجزيرة بالدولار، وعن دعوة (غرفة تجارة جرابلس) للتعامل بالليرة التركية عوضاً عن الليرة السورية نظراً لعدم استقرارها.
إن الليرة السورية هي الجسر والطريق المتبقي لربط مناطق البلاد ببعضها البعض، ودمج المجتمع السوري بمصير مشترك... وارتفاع قيمتها وتثبيتها كأداة استثمار وتسعير وتداول هي أهم وسيلة مواجهة، والأداة الفعالة الحاسمة في (الصمود والتصدي والسيادة).
أداة للتجويع والفوضى
انهيار الليرة أداة للتجويع والفوضى: ترافق الأسبوع الماضي مع دعوات (جنونية) من الخارج للتهليل (لثورة الجياع) القادمة إلى سورية... على اعتبارها معطى سياسي يغيّر المعادلات، وهي كذلك بالفعل! ولكن بغض النظر عن رؤية هؤلاء وطروحاتهم المتطرفة فإن ثورة الجياع في سورية ممكنة ومرغوبة من جانب الأطراف الدولية (وربما أطراف محلية أيضاً) التي ترغب بفتح بوابات الفوضى وإعادة العنف، والتي تخاف من السير نحو حلول سياسية توافقية، تلزم الجميع على تقديم تنازلات تكون بمثابة (خسائر مليارية) لأوجه التطرف والمستفيدين من وضع سورية الماضي والحالي.
ارتفاع الدولار الذي يعكس تدهور الليرة يقود معه أسعار الغذاء في سورية بنسب متسارعة، وبالأرقام، يمكن رصد الأشهر التسعة الماضية، فسعر الدولار في السوق ارتفع بنسبة: 425% بالمقابل تكلفة سلة الغذاء السورية الأساسية ارتفعت بنسبة 240%. إن أكثر من نصف تكلفة سلة الغذاء السورية مسعّرة بالدولار، بينما معظم منتجاتها منتجة محلياً، وكل ارتفاع بالدولار هو نقل لمئات الآلاف بل ملايين إضافيين من السوريين إلى ظل الجوع وليس الفقر. فماذا بعد 8 مليون جائع؟! وفق تقديرات المنظمات الدولية المعنية بالغذاء، والتي تملك أدوات لتسبر ما الذي يتناوله السوريون على وجباتهم اليومية، وهل يأكل أطفالهم أم لا يأكلون...
إن من لا يرى العملية المنظمة للتجويع كأداة للفوضى عليه أن يجد تفسيراً لعمليات حرق القمح، والإشارة المراد إيصالها منها... وعليه أن يقرن الأمر بتحول السوريين إلى ميليشيات تستخدم في الفوضى الإقليمية، وعليه أيضاً أن يجد تفسيراً لاستدامة وتوسع وازدهار تجارة الحبوب والمخدرات، وتحول سورية إلى مركز أساسي مورّد للإقليم، وبينما ترتفع أسعار الغذاء، فإن أسعار هذه المنتجات داخل البلاد لا ترتفع! وجهان أساسيان لا ينفصلان عن بعضهما البعض: التجويع، وتحويل الجوعى إلى مرتزقة في كل الأطراف، وعلى كل الجبهات... وكلاهما وقود جديد لاحتمال تسعير العنف.
انهيار الليرة يشبه (الإرهاب في دمشق)
إن مشكلة انهيار الليرة، وتغوّل الفقر والجوع، واستمرار آليات النهب والفساد والإجرام كمحدد لسلوك (المواجهة)... تدفع البلاد إلى قاع الفوضى مجدداً وصولاً للتقسيم، وهي معركة خطرة لا تقل خطورة عن محاولة الإرهاب الدولي التمركز في سورية وتحويلها إلى منصة له. وإن كانت تلك المرحلة قد تم تجاوزها بجهود دولية وإقليمية، فإن هذه المرحلة أعقد، وقد لا تكون قابلة للنجاح بجهود إقليمية ودولية فقط، كما حصل في المنعطف السابق عندما كان (الإرهاب الدولي) يطرق أبواب دمشق، وتمّ انتشال البلاد من هذا المنعطف... ولكن هل المنعطف الحالي قابل للحل بالطريقة ذاتها؟! وهل سيستطيع تغيّر ميزان القوى الدولي فقط أن يجري حلولاً إنقاذية دون تغيير ومساندة من السوريين ذاتهم؟!
تغيير ميزان القوى المحلي وحلول سياسية
إن هذه اللحظة تتطلب تغييراً جدّياً في ميزان القوى المحلي... يجب أن يجري أو يُفرض التغيير الذي يسمح لعموم السوريين بتحويل رغبتهم في المحافظة على البلاد إلى قوّة مادية، تفرض على الأطراف المحلية المعيقة أن تلتزم، وتتنازل وتخضع لحاجة الملايين، أن يتم الدفع والضغط لتطبيق القرارات الدولية التي تلزم المتطرفين السوريين والمتشددين بالخضوع، وإتاحة الباب للمجتمع السوري ليحل المشكلة ويتصدى لها. ليستطيع أن يزرع ويصنع ويبني المنازل والمرافق مستعملاً عملته دون أن يتحكم بمصير هذا العمل قلة قليلة من المضاربين المتنافسين على أكبر قدر من النفوذ والثراء، أو قلة قليلة من السياسيين الذين يرفعون شعارات متشدقة تهلل للعقوبات، أو تطالب (الجوعى بالصمود)! يجب أن يتراجع أمثال هؤلاء الذين يسيرون بالخط الأمريكي بخطى وطيدة، ويدفعون البلاد نحو مسار قد لا يكون الرجوع منه متاحاً...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 970