دول الخليج النفطية... وضع مالي معقد أمام أزمة عاصفة
3.5 مليار دولار يومياً هو مقدار الخسارة اليومية لمنتجي النفط العالمي بعد انخفاض السعر بنسبة تفوق 60% بين شهر 2 وشهر 3 من العام الحالي، وهو ما يعني خسارة تقارب 1.3 تريليون دولار في السنة فقط من تغيّر السعر... خسارات تريليونية يتكبدها المنتجون عبر العالم، وتحديداً في منطقة الخليج العربي، حيث النفط مربح وقليل التكلفة... ولكنه (العمود الأساس- والمهتز) لبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية كاملة، الأمر الذي يجعل منطقتنا عرضة لتغيرات كبرى في ظل تراجع أسعار النفط.
لا يبدو أن أحداً يعتقد أن اتفاق أوبك + قادر على التحكم بالتدهور في سوق النفط العالمية، فالاتفاق الذي خفض الإنتاج بنسبة 10% تقريباً، لا يزال أمام تحدّ لتراجع الطلب العالمي بمقدار يفوق الربع في الظروف الحالية... والكثيرون يدعون للتكيف مع أسعار نفط منخفضة لفترة أطول.
قبل أن تنخفض أسعار النفط بهذا المستوى، وفي شهر 9-2019 أرسل صندوق النقد الدولي رسالة تحذيرية لدول الخليج بأن احتياطياتها المالية التي يقدرها الصندوق بـ 2 تريليون دولار ستنفذ خلال 15 سنة... والأسعار الحالية ستقلّص هذه المدة بسرعة قياسية، والاحتياطيات المالية للخليج قد لا تستمر لعقد قادم. إن دول الخليج تحتاج إلى أسعار نفط مرتفعة حتى تستطيع أن تغطي إنفاقها دون استدانة.
العجوزات المالية في الخليج
تعتبر دول منطقة الخليج الأقدر على الحصول على ربح وفوائض من القطاع النفطي، فعدا عن الإنتاج الكبير وتحديداً في السعودية فإن التكلفة الوسطية للاستخراج منخفضة وتسمح بربحية عالية حتى لو انخفض السعر إلى ما دون 15 دولار للبرميل.
ولكن انهيار الأسعار يعني تراجع كتلة فوائض النفط لهذه الدول، وهذا له تأثير كبير على البنية المالية للخليج ودوله التي تعتمد على النفط كأساس في استمرارية إنفاقها واستدامة الجوانب المتعددة لمستوى ونمط معيشة سكانها، بل أكثر من ذلك لدورها الوظيفي في المنطقة وعبر العالم.
منذ عام 2014 بدأت معظم دول الخليج تسجّل عجوزاً مالية في ميزانياتها، أي أنها تعتمد على الاستدانة لتغطية إنفاقها العام، حيث انتقلت السعودية على سبيل المثال من تسجيل فوائض تقارب 11% من ناتجها في عام 2012 إلى تسجيل عجز يقارب 2.3% في عام 2014، بعد أن انخفض سعر برميل النفط من 100 إلى 50 دولار للبرميل.
وفي عام 2019 سجّلت مجمل دول الخليج عجوزات مالية، باستثناء قطر والكويت، التي لا يزال لديها فائض يعادل نسبة 7% من ناتجها، بينما العجز في السعودية 6% من الناتج، وفي الإمارات 2%، وفي إيران 5%...
دون النفط... العجوزات أعلى بكثير
المشكلة الأساسية في دول الخليج هي درجة الاعتماد على النفط لاستمرار البنية... فعلى الرغم من محاولات وشعارات التنويع الاقتصادي، إلا أن معظم هذه الدول لا تستطيع أن تحصل على إيرادات مالية من القطاعات الأخرى لتغطي نفقاتها.
فإذا ما تم استثناء إيرادات القطاع النفطي فإن العجوز المالية في هذه الدول تصل إلى نسب كبرى، أعلاها في الكويت التي تعتبر الأقل تنوعاً ويصل عجزها دون النفط إلى نسبة 65% من الناتج. والوضع في السعودية أيضاً سيئ، فالسعودية دون إيرادات النفط تواجه عجزاً يقارب 40% من ناتجها، بينما الوضع في الإمارات أفضل نسبياً ولكن مع ذلك فإن العجز دون إيرادات النفط يشكل نسبة 26%. والملفت في هذا السياق هو الوضع الإيراني، فإيران دون النفط تعاني من عجز مالي لا يتعدى 7% من الناتج، فالدولة المحرومة من الاستفادة من ثروتها النفطية كيّفت إنتاجها وقطاعاتها لتحصل على عوائد من القطاعات الأخرى، ولهذا أثر إيجابي في أزمات من نوع انخفاض سعر النفط العالمي...
ما سعر النفط المناسب لدول الخليج؟
تحتاج دول الخليج إلى أسعار نفط مرتفعة لتنتشل إنفاقها وتغطي العجز، وفي تقدير لصندوق النقد الدولي فإن السعر التعادلي للنفط في دول الخليج الذي يسمح بتغطية عجز الميزانية هو أضعاف السعر العالمي الحالي في كل الدول.
تحتاج السعودية إلى سعر لبرميل النفط يقارب 87$ للبرميل لتغطي عجز ميزانيتها، والسعر الحالي هو ثلث هذا السعر... أما الإمارات فتحتاج سعر 70$، بينما قطر والكويت تستطيعان التكيف مع أسعار أقل ويمكن تغطية إنفاقهما عند سعر 49$ للأولى، و54$ للثانية فاحتياطيات الدولتين أكبر من إنفاقهما مع عدد سكان أقل من السعودية والإمارات.
بالمقابل فإن إيران تحتاج إلى سعر لبرميل النفط يعادل 156$ ليستطيع نفطها أن يغطي عجز ميزانيتها، ولكن إيران لم تعد تعتمد على النفط بشكل أساسي لتغطية إنفاقها. وسنضيف بعض التفاصيل بما يتعلق بالدول الأساسية في المنطقة...
السعودية والإمارات
السعودية، هي ثاني أكبر منتج نفط عالمي وأكبر مصدّر، كما أنها صاحبة أكبر فوائض نفطية مالية عبر العالم، ولكن السعودية منذ عام 2014 بدأت تتحول إلى مصدر لتدفق الأموال إليها عوضاً عن تصديرها للفوائض المالية. والأموال التي تتدفق إلى السعودية هي من سوق السندات ومساهمات الدَّين العالمية، حيث ارتفع الدَّين العام السعودي ليصل إلى نسبة 20% من الناتج بين 2014-2019. وتقلّص صافي الوضع المالي بنسبة تقارب 60% من الناتج، وهو الذي يعبر عن (مجموع الدَّين الداخلي والخارجي بالمقارنة مع الودائع الحكومية). السعودية كانت قادرة خلال الفترة الماضية على اجتذاب الدَّين العالمي إليها، ولكنها تحولت من دولة فائض إلى دولة عجز، مع التنويه إلى أن صناديقها السيادية تمتلك استثمارات وشراكات واسعة عبر العالم.
السعودية قادرة على الحصول على مزايا وتمويل من السوق المالية العالمية، ولكنها تربط نفسها أيضاً وبعمق باضطرابات هذه السوق وباتجاهات مستثمريها.
الإمارات في وضع أفضل نسبياً من السعودية، بعجز أقل وتنوع أعلى في الاقتصاد، ولكن الإمارات وتحديداً دبي تعاني من تحديات أخرى... فهي لم تتعافَ تماماً من آثار أزمة عام 2008 حتى الآن، واشتد الوضع سوءاً في العامين الماضيين فمحاولة تنويع الاقتصاد عبر الشركات الحكومية ارتبطت بديون عالية وصلت إلى ما يقارب نصف ناتج إمارة دبي، كما أن مؤشر سوق التداول في دبي فقد 61% من قيمته منذ عام 2014، وتراجعت أسعار العقارات نتيجة التخوف من أزمة مالية جديدة في الإمارة.
إيران والعراق
في إيران الوضع معقد، فرغم أن إيران تعاني من عجز أقل من دول الخليج الأخرى، ولديها تنوع أعلى... إلا أن العقوبات المفروضة على إيران أدت إلى انكماش لعامين متتالين ليتراجع الناتج الإيراني في 2018 بنسبة 4.8%، ثم بنسبة 9.5% في 2019، مع ارتفاع مستوى التضخم بنسبة 35% وتراجعت القدرة الشرائية للإيرانيين. فإيران اضطرت إلى تقليص صادراتها النفطية اليومية إلى أقل من خُمس مستواها في عام 2017، من حوالي 2.5 ملون برميل يومياً إلى أقل من 0.5 مليون برميل. ولكن بالمقابل فإن إيران لن تتأثر كثيراً بالانخفاض الحالي في الأسعار العالمية للنفط لأنها لم تعد قادرة على الاعتماد على النفط لدعم ميزانيتها، وهي لا تعتمد عليه إلا بنسبة 30%، وهي نسبة منخفضة قياساً بالدول الأخرى. ولكن التحدي الذي يُصعّد الوضع في إيران هو تفشي وباء كورونا في البلاد الذي دفع إيران للمرة الأولى منذ عام 1962 لطلب تمويل من صندوق النقد الدولي بما يقارب 5 مليار دولار، إن لبّاه الصندوق فإنه سيضع شروطاً قاسية لتخفيض الإنفاق الاجتماعي والدعم بمستويات عالية.
أخيراً العراق، قد يكون العراق هو النقطة الأضعف وسيكون وضع الحكومة العراقية سيئاً للغاية مع تراجع أسعار النفط إلى هذه المستويات، فالميزانية العراقية تعتمد على النفط بنسبة 95% ومع التراجع ستقل قدرتها على دفع الرواتب والأجور والإمداد بالخدمات من طاقة ومياه وكهرباء، وهي التي كان وضعها متردياً قبل هذا الانخفاض. الأسوأ أن الاحتياطيات العراقية الحكومية المودعة في البنك المركزي العراقي، توضع عملياً في الولايات المتحدة الأمريكية ما يعقّد الوضع السياسي العراقي ويفتح كل الاحتمالات، فالولايات المتحدة أجَلت تحويلات شهرية عدّة مرات لأسباب سياسية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 962