أزمة الغذاء السورية... ستتصاعد ماذا بعد 8 مليون جائع!

أزمة الغذاء السورية... ستتصاعد ماذا بعد 8 مليون جائع!

تقشف في الطحين وبطاقة ذكية للخبز، أسعار خيالية للخضار المحلية وأسمدة محلية بأسعار أعلى من العالمية... البيض يدخل في (مصلحة) التهريب والبيضة بـ 100 ليرة، واللحوم الحمراء نسيت السوريين ونسوها وإنتاجها تصديري تهريبي، والـ 8 مليون سوري الذين عدّتهم المنظمات الدولية غير آمنين غذائياَ يتزايدون يومياً. وإن كان جرس الإنذار قد قُرع سابقاً ومطوّلاً، فإننا اليوم في (الخطر) وأزمة الغذاء ستشتد... لماذا ستتصاعد، ومسؤولية مَنْ، وهل من سبيل للخروج؟

(منظومة الغذاء) السورية تترنح حتى قبل أن تأتي العاصفة، فكل التوقعات تقول: إن أسعار الغذاء العالمية ستتجه نحو الارتفاع، وهو ما يحدث عادة خلال الأزمات الاقتصادية العالمية كما حدث جراء أزمة عام 2008، فأسعار الغذاء العالمية ارتفعت بين 2006- 2011 بما يزيد على 60% ولم تبدأ بالانخفاض إلا في عام 2015 ولكنها بقيت أعلى من مستويات عام 2007. إذ يتراجع الطلب والإنتاج وتتحول السلع الأساسية لتصبح موضعاً للمتاجرة والمضاربة الدولية وكل هذا يدفع نحو ارتفاع أسعار القمح والشعير والأرز والسكر والحبوب دولياً...
وعلى الصعيد السوري فإن هذا لن يؤثر فقط على أسعار الغذاء المستورد بجزء هام منه، بل سيؤثر أيضاً على أسعار طيف أوسع من المنتجات المحلية وزيادة كلف إنتاجها وشحّ في توفرها محلياً عبر زيادة نشاط تهريب المنتجات السورية للإقليم، ليصبح تهريب كيلو العدس والحمص إلى الأردن فالخليج مجدياً، وليس فقط رأس الغنم والمنتجات الحيوانية كما هو الحال اليوم. فنحن نعيش في إقليم هو من أكثر مناطق العالم تهديداً بأزمة الغذاء مع تصاعد الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث أعلى الكثافات السكانية عبر العالم، وأكثف نسبة شباب وأعلى معدل بطالة بينهم، وأعلى اضطرابات سياسية وأكثر الأنظمة تخلفاً وتأزماً، وحيث لا يُنتج الغذاء الأساسي بل يُستورد.

(منظومة الغذاء) السورية

أكثر من 113 مليون عبر العالم يعانون من انعدام الأمن الغذائي، 8 مليون منهم في سورية، التي يصنفها برنامج الغذاء العالمي خامس أكبر أزمة غذاء عبر العالم... (تسبقها اليمن، جمهورية الكونغو الشعبية، أفغانستان، وإثيوبيا)، وقد عادت أزمة الجوع السورية لتتصاعد بعد أن كانت قد تراجعت نسبياً بين عامي 2016-2017.
وخلال 2019 ارتفع عدد المصنفين كجوعى بمقدار يقارب 1,5 مليون ونسبة 22% بين عامي 2018-2019! وذلك وفق التقديرات الدورية لبرنامج الغذاء العالمي WFP لأزمة الغذاء في سورية.
تقدم المنظمات الدولية مساعدات غذائية متقطعة لـ 6,5 مليون من أصل 8 مليون يحتاجون مساعدات غذائية بشكل ملح، والمساعدات هي سلّة من طحين وعدس ورز وسكر وزيت تغطي 1930 حريرة يومياً لأسرة من خمسة أشخاص وتغطي خمسة أنواع من المكونات، تقول WFP إن كلفة هذه السلة ارتفعت بنسبة 67% في سورية خلال 2019 وأصبحت تُكلّف قرابة 40 ألف ليرة، وهي السلع المرشحة لارتفاعات أعلى في أسعارها العالمية لأنها السلع الأكثر تداولاً عالمياً.
إن ملايين يعيشون على هذه السلة المتقشفة غذائياً والتي تصل بشكل متقطع وليس شهرياً، بينما هنالك نقص حادّ في مكونات غذائية أخرى وتحديداً اللحوم والمنتجات الحيوانية والفواكه وحتى الخضار.
يمكن القول: إن وضع التغذية السوري الآن هو إدارة الجوع، فالأسر (تتحايل) لإدارة استمرارها الغذائي، حيث سجلت مسوح المنظمة الدولية أن معظم الأسر في معظم المحافظات قلصت وجباتها من 3 إلى 2 اعتباراً من شهر 9-2019، وتعتمد آليات مثل: أن يقلص الكبار من حصصهم الغذائية للتغذية الصغار وتحديداً من القليل المستهلك من المنتجات الحيوانية كالبيض والألبان. إضافة إلى كثافة الاعتماد على الخبز هذا الذي تعمل الحكومة بدأبٍ لتقليص كمياته وإدخاله في خطة التقشف والحرمان عبر البطاقة الذكية.

هل المشكلة نقص غذاء؟

عادة ما تنتج أزمات الغذاء بحالاتها الحادّة، إمّا من نقص المتاح من الغذاء أو صعوبة الحصول عليه. أي إما لنقص الغذاء قياساً بحاجات الجميع، أو توفّره ولكنك صعوبة الحصول عليه مادياً. وفي الحالتين فإن الشرائح الأضعف والأفقر هي التي لا تستطيع أن تؤمن غذائها، وتحتاج للمساعدات والإعانات للاستمرار.
في الحالة السورية لا يوجد نقص وسطي في كميات الغذاء الضروري حتى مع تصدير كميات منه، فمنظومة الإنتاج الزراعي السورية منوعة وتتمتع بمرونة نسبياً. ولكن المشكلة في عدم قدرة السوريين على دفع ثمن الغذاء المتوفر، والذي ارتفعت أسعاره بمستويات أعلى من ارتفاع أسعار باقي السلع.
تستخدم منظمة الفاو (منظمة الغذاء العالمية) مؤشراً لقياس مدى توفر الغذاء كميّاً، يقيس حجم المتوفر من الغذاء قياساً بالمطلوب. ووفق هذا المؤشر فإن المتاح من الغذاء في سورية يغطي حاجات كل فرد من (الكيلو حريرة) بنسبة 127% في عام 2018، متراجعاً عن مستوى 134% قبل الأزمة.
والشكل التالي يوضح المقارنة بين مؤشر كفاية إمدادت الطاقة في الدول التي تشهد أكبر خمس أزمات غذاء، بالإضافة إلى إيران التي تعاني عقوبات أشد من العقوبات السورية، إضافة لدول أخرى في الإقليم.

 

يتبين من المقارنة الجوانب التالية:

مقابل كل 100 من حاجات الغذاء لكل فرد في سورية، فإنّ الغذاء المتوفّر في السوق وهو المكوّن من (الغذاء المنتج محلياً + المستورد – المصدّر) يستطيع أن يغطي هذه الحاجات وفوقها 27% إضافية، أي بالمجمل عرض الغذاء أعلى من المطلوب بمقدار الربع تقريباً.
المؤشر السوري قريب من المؤشر الإيراني والدولتان تعانيان من عقوبات دولية، ولكن الفارق أن إيران لا تشهد أزمة جوع وأمن غذائي، والغذاء المتوفر يستطيع الإيرانيون أن يستهلكوه كي لا يجوعوا.
المؤشر السوري أعلى من مؤشر بعض الدول في الإقليم، مثل: لبنان والأردن، حيث عَرض الغذاء أعلى من الطلب بنسبة 14% فقط، وهو ما يشير إلى حافز تهريب الغذاء إلى كل من الدولتين حالياً، والذي سيترفع مستقبلاً.
الأهم أن سورية هي الوحيدة بين الدول التي تشهد أكبر خمس أزمات غذائية والتي لا تعاني من نقص في كميات الغذاء قياساً بالحاجات، ففي اليمن والكونغو وأفغانستان هنالك نقص في الغذاء الكافي، وفي إثيوبيا هنالك فائض يعادل 5% فقط، مقابل 27% في سورية! وهذا يشير إلى أن أزمة الغذاء السورية احتكارية الطابع وترتبط بعدم قدرة الشريحة الواسعة من السوريين على دفع ثمن غذائهم بينما الفائض يتمتع به ويتاجر به سوريون آخرون.
فائض الغذاء المتاح في سورية والمعبّر عنه بهذا الرقم هو مؤشر عام وتقديري، ولكنه ذو دلالة... إذ إنه حتى مع فائض في الغذاء المتاح يقارب الربع فإن أسعار الغذاء في سورية شهدت أعلى الارتفاعات قياساً بأسعار السلع الأخرى.

أسعار الغذاء بعيدة المنال

تحوّل الغذاء مع توسع الفقر السوري وتراجع النشاط الاقتصادي، إلى واحدٍ من المجالات الأساسية لنشاط قوى المال: يحتكرونه ويتاجرون به وتحديداً المستورد منه، يتحكمون بمستلزمات إنتاجه ويتسلبطون على نقله، كما يصدّرونه ويهربونه ويسرقون دعمه وغيرها من النشاطات... إذ إن الغذاء أصبح الكتلة الأكبر من الإنفاق القليل المتبقي لدى السوريين ويجب أن يُجمع الربح منه وفق مفهوم قوى المال.
وينعكس هذا النشاط في العلاقة غير المنطقية بين ارتفاع أسعار الغذاء وبين مستوى توفّره، فأسعار الغذاء في سورية ارتفعت بمستوى أعلى من ارتفاع المستوى العام للأسعار، وذلك وفقاً للإحصائيات الحكومية للتضخم، فبين 2010-2019 ارتفعت أسعار الأغذية 1002% أكثر من 10 أضعاف، بينما ارتفعت مجموع أسعار السلع الأخرى بنسبة 826%.
والمفارقة، أن الارتفاعات في أسعار بعض المكونات المنتجة محلياً، أعلى من المكونات المستوردة بالكامل، فمثلاً: البقول والخضار ارتفعت بمستويات أعلى من ارتفاع السكريات التي تعتمد على السكر المستورد، والارتفاع في الألبان والأجبان والبيض أعلى من الارتفاع في البن والشاي وهي مستوردة بالكامل.

توزيع المسؤوليات..

المنظمات الدولية التي ترصد وضع الغذاء في سورية بشكل حثيث، تركّز على أن سبب أزمة الغذاء السورية هو سنوات الحرب، وتشير إشارة خجولة إلى أثر العقوبات الدولية... بينما الحكومة تعيد وتكرر أن (الإجراءات القسرية المطبقة على الشعب السوري) هي المسؤولة عن تدهور الوضع مع الإشارات السطحية (لدور تجار الأزمة وضعاف النفوس كما تسميهم). ولكن فعلياً لا يمكن فصل المسؤوليات بشكل دقيق، فالأزمة السورية التي لا تنتهي إلى حلول وتسويات حتى الآن بفعل مصالح منظومة الدمار والنهب الدولية والمحلية هي التي تحول ملايين السوريين إلى جوعى وتهدد بالمزيد... وتتكاتف القوى الدولية والمحلية في التعدي على السوريين وموائدهم في كافة الجوانب التي تؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء.
أولاً الغذاء المتوفر في سورية غير موزع بشكل فعّال بين جميع المناطق، فالجزء الأهم من الأراضي الزراعية والإنتاج الزراعي السوري موجود في المناطق التي تفرض القوات الأمريكية سيطرتها عليها في الجزيرة السورية، حيث يقطّع الاحتلال الأمريكي أوصال البلاد عن بعضها ويمنع وصول الغذاء إلى السوق الأساسية في دمشق وباقي المحافظات حيث يتجمّع السوريون بكثافة. والبضائع التي تصل تكون محمّلة عملياً بتكاليف أتاوات الطريق التي تفرضها قوى السلاح من كل الأطراف، من الجزيرة إلى دمشق، وتعتبر أحد أوجه النهب على حساب الجوع.
المشكلة الثانية المتمثلة بالعقوبات، تظهر واضحة في كلف مستوردات الغذاء... فالعقوبات المفروضة على القطاع التجاري والمالي تجعل جميع عمليات الاستيراد إلى سورية أكثر تعقيداً وتحتاج إلى وسطاء وتكاليف أعلى للتأمين والنقل. وتسمح لقلة محلية تحتكر استيراد الأساسيات بأن تفرض أسعار استثنائية لقاء المواد الغذائية تفوق التكلفة العالمية (المحسوبة مع تكاليف النقل والتأمين والشحن) حيث يسعّر الغذاء المحلي بأسعار أعلى من العالمية بنسبة تتراوح بين 40% وصولاً إلى 160%. وهنا يظهر واضحاً كيف تتحول العقوبات الدولية إلى فرصة للقلة المتنفذة القادرة على استثمار أموالها وعلاقاتها لاستغلال الحاجة إلى استهلاك الغذاء.
المشكلة الثالثة تظهر في الإنتاج الزراعي المحلي، وفي توزيعه... فالفساد الذي يسم الاقتصاد السوري منذ عقود، تحوّل إلى حالة فوضى و(مافيوية) يصعب ضبطها بل تتحكم بالقرار لمنظومة اقتصادية ينتشر فيها حملة السلاح بشكل واسع. ويظهر هذا في غياب أي إجراءات لدعم الإنتاج بشكل فعّال، بينما تنشط فوضى الهيمنة واستغلال الإنتاج الزراعي، كأن تفتح جهات المال والنفوذ الباب لتهريب الغذاء من سورية بشكل منظّم وتحديداً إنتاج لحوم الأغنام في سورية، التي وصلت تقديرات تهريبها اليومية إلى 3000 رأس غنم يومياً بينما كانت في 2017 تقارب 700 رأس.
كما يتم تهريب الخضروات والفواكه في بعض المناطق الحدودية وصولاً إلى البيض، ستتوسع هذه التجارة غير المنظمة مع ارتفاع أسعار الغاء العالمية واشتداد حدة تأثير الأزمات المالية الدولية على دول الإقليم من لبنان إلى الخليج. كما تظهر الفوضى أيضاً من قرارات لا يمكن تبريرها لرفع أسعار الأسمدة بنسبة 40-100% لتصبح أعلى من الأسعار العالمية بينما تستثمرها شركات خاصة بمزايا استثنائية. وتظهر الفوضى من إيقاف تمويل المزارعين بالقروض وحصر تمويل المصرف الزراعي للمؤسسات الحكومية تقريباً، وتظهر في كل جوانب غياب دعم الزراعة لتصبح مؤسسة البذار غير قاردة على تأمين إلا ما نسبته أقل من 15% من بذار القمح ونسب لا تذكر في محاصيل أخرى، هذا عدا عن سوق الطاقة التي رفعت كلف المازوت وبالتالي الري...

 

إن الوضع الزراعي المترنح في سورية مهدد فعلياً، فمنظومة الإنتاج الزراعي مستمرة لأن سكان الريف في سورية لا زالوا يشكلون نسبة تقارب 47%، ولأن المزارعين يذهبون إلى أراضيهم... أما كل العوامل الأخرى فهي لا تدفع للاستمرار وتقلص الحافز الزراعي سنوياً. المزارعون اليوم يزرعون أراضيهم معتمدين على الدين والضمان وتأجير الأراضي، يعتمدون على زراعة قليلة التكلفة بتقليص استهلاك السماد واسترخاص في أنواع البذار، واعتماد الزراعة البعلية المتروكة لتقلبات المناخ، ولكنهم بالنهاية يحاولون... والنتيجة غلّة أقل وعوائد قليلة ومخاطر عالية ولكن لا خيارات أخرى. أما المستجدات المتعلقة بارتفاع أسعار السلع العالمية فهي ستزيد كلف المزارعين وستزيد نشاط تهريب الإنتاج الزراعي وستقلص الطلب المحلي، وستفاقم أزمة الجوع إذا لم تحدث تغيرات تعطل آليات منظومة النهب الدولية والمحلية اللتان لا تنفصلان عن بعضها البعض. إنهاء الحرب، إزالة كل القوى والحواجز والعوائق التي تقطع أوصال البلاد، رفع العقوبات، استرداد أموال الثراء من الجوع وإنهاء احتكار الغذاء، تخصيص الأموال لدعم الإنتاج الزراعي زيادة المساحات والغلة وأعداد الثروة الحيوانية ومنتجاتها، تجارة خارجية منظمة للغذاء تعادل حاجات الاستيراد مع تصدير الفوائض، وتجارة داخلية للغذاء تجعله قابل للاستهلاك ومتاحاً للجميع وتعوض الملايين عن جوع السنوات الماضية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
961
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 14:30