«الواقعيون» الاقتصاديون.. المتمسكون بالدولار
«فلنكن واقعيين» أو «غير حالمين»، جملة تتكرر كثيراً في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي الذي يتعامل اضطرارياً مع الوضع الاقتصادي الصارخ... يدعونا الإعلاميون والمحللون الأكاديميون إلى «الواقعية الاقتصادية». وهذه الواقعية تظهر فجأة عند الحديث عن: التوجه شرقاً، وإزاحة الدولار، والاستيراد عن طريق الدولة، والتبادل بالعملات المحلية...
يتفق الجميع أن نقص الدولار والطلب الكبير عليه والمتاجرة به، والاعتماد الواسع على الاستيراد، عناوين أساسية في التأزم الاقتصادي الحالي وفي مستويات الأسعار ومعدلات الربح الجنونية. ولكن عندما يذهب الحديث إلى الحلول الجذرية لهذه المسألة: بتقليص الاستيراد للأساسيات، وتحويله إلى استيراد دون دولار. يظهر «العقلانيون» ليقولوا إن هذا الأمر صعب وغير ممكن.
إزاحة الدولار: صعبة لكن ممكنة
بالفعل التعامل بالعملات المحلية ليس مسألة شائعة عالمياً، ولم يتحول إلى نمط معمّم مع استمرار هيمنة الدولار على التبادلات الدولية. ورغم تسارع وتيرة التجارة بالعملات المحلية، فإن هذه العمليات لا تزال تتم تحت غطاء دول كبرى ذات علاقات سياسية واقتصادية متشعّبة وتدخل في مواجهة مع الغرب.
روسيا والصين رائدتان في هذا المجال، مثل توسع التجارة الصينية الروسية بالعملات المحلية، واتفاقات تجارية استثمارية مباشرة بين الدول كما بين الهند وروسيا في بعض الجوانب وخاصة العسكرية، وبين إيران وروسيا، وتركيا وروسيا. حيث تعتبر روسيا المهدّدة بشكل مستمر بتوسيع العقوبات الغربية مهتمة بهذا المجال لأسباب اقتصادية أمنية. وكذلك الصين التي تسعى إلى تقليص حصة الدولار من تجارتها الدولية وتحويل اليوان إلى عملة معتمدة في التبادلات. ويظهر هذا في العلاقات الصينية الخليجية مثل قطر والإمارات بالدرجة الأولى، ومع إفريقيا بوضوح أكثر.
نيجيريا مثلاً، انضمت في شهر 8-2019 إلى عمليات تشكيل احتياطي مركزي باليوان الصيني، ووقعت الحكومتان الصينية والنيجيرية اتفاقاً لمدة ثلاث سنوات لتبادل العملات بقيمة 2,5 مليار دولار، إذ بدأت نيجيريا تبيع اليوان لتجارها المحليين وقطاع أعمالها ليستوردوا من الصين بالعملة الصينية مباشرة. ونيجيريا هي آخر دولة انضمت إلى هذه الاتفاقيات من أصل 14 دولة إفريقية أخرى في شرق وجنوب إفريقيا.
تجارب التعامل بالعملات المحلية أصبحت موجودة، وبينها ما هو مشترك: أولاً وجود أطراف هي دول كبرى مع قدرة استقلال اقتصادي عالية عن المنظومة الغربية، وصاحبة مشروع وطني اقتصادي عام. وثانياً علاقات واتفاقيات بين الدول مباشرة، لتنسّق السياسة الحكومية علاقات الأطراف الاقتصادية وقطاع الأعمال.
في الحالة السورية الأطراف الدولية العاملة على إزاحة الدولار هي أكثر الأطراف إيجابية في الأزمة السورية: تدعم طروحات الحل السياسي وإعادة الإعمار والاستقرار، وتبقي علاقات رسمية ولا تلتزم بالعقوبات، وبالتالي استعدادها عالٍ لعلاقات اقتصادية محددة، وفي مجال الأساسيات على الأقل. ولكن الأطراف المحلية غير مستعدة لإزاحة الدولار بعد...
الصعوبة محلية: تقليص الربح من 500 إلى 10%
الاقتصاديون والإعلاميون السوريون ومن خلفهم القرار الحكومي ومن خلفهم أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى في قطاع المال والأعمال والتجارة، وبعمق هؤلاء جميعاً أصحاب النفوذ والسلطة والمال من النخب السورية المتحكمة... جميع هؤلاء «واقعيون» ويرون أن مسألة إزاحة الدولار مسألة صعبة وغير متاحة، وإن تحدثوا فيها فإنهم «يقزّمونها» لتكون آمالاً وتطلعات.
إن الاستيراد من الصين باليوان، أو من روسيا بالروبل، يتطلب مبادرات واتفاقات رسمية عالية المستوى. تنسّقها السلطات الحكومية والنقدية العليا بين الدول: لفتح حسابات مشتركة وإيجاد بنية مالية ومصرفية معتمدة، وإيجاد آليات إشراك الأطراف الاقتصادية المحلية المستوردة.
هذه المبادرات لم تتم، وما ينقله «الواقعيون الاقتصاديون» يشير إلى مستوى عدم جدية التعاطي مع هذه المسألة، وبالتالي ضعف المبادرة بأفضل الأحوال، إن لم يكن إغلاقها.
أما السؤال لماذا؟ يضع الجواب الواضح والصريح ماثلاً أمامنا... الاستيراد في سورية في ظل العقوبات هو نشاط أساس للنخب المالية، وهو يجمع أرباحاً كبرى تصل في بعض المواد اليوم إلى 500% وعشرات مليارات الليرات في شهر واحد! هذا الربح يصبح مهدداً فعلياً في حال إزاحة الدولار من الاستيراد، أو الاستيراد بالقنوات الرسمية دون وسطاء.
فعمليات استيراد الأساسيات لسورية وتسعيرها بأسعار مضاعفة عن الكلف العالمية، يعتمد على مسألتين: استمرار نقص الدولار والمتاجرة به، واحتكار الاستيراد لدى قلّة تمتلك حسابات بالدولار في المصارف المحلية وفي الخارج.
الوصول إلى اتفاقيات بين الدول يعني تقليص الربح من استيراد المواد الأساسية إلى نسبة 5-10% وهو معدل الربح المقدّر والمنطقي لاستيراد مواد غذائية أساسية بكميات كبيرة. ففي الاتفاقيات بين الدول يتم التسعير على أسعار قريبة من الأسعار العالمية الوسطية، وبتكاليف هامشية لعمليات النقل والشحن والتأمين، وأسعار مستقرة لا ترتبط بتقلبات سعر الدولار، وقد تؤدي عملياً إلى تراجع كبير وسريع في سعره المعتمد على طلب كبار المستوردين والمضاربين عليه.
والأهم، أن الاستيراد باتفاقيات بين الدول قد يعيد لجهاز الدولة دوره الاقتصادي، بعد أن أصبح «موضوعاً على الرف» ومعنياً بالحديث عن وهمية السعر والمراقبة والمعاقبة، وإجراءات تراقب آخر حلقة، وتعاقب من يمسك الدولار ويبيعه، وليس من يستورد بأسعار مضاعفة وعلى أساس دولار السوق!
الدفاع عن «الربح الإجرامي»
إن الوصول لاتفاقيات لإزاحة الدولار تعني تقليص الربح إلى مستويات 5-10% في المواد الغذائية الأساسية، وقد تعني توقف ربح الدولار نهائياً. وتقليص الربح بهذه المستوى سيعني خسائر كبرى لكبار المتنفذين والنخب وحائزي الدولار، وهؤلاء يفعلون المستحيل لتجنب خسائر بهذا الحجم. أقل ما يمكن أن يفعلوه هو الدعاية والتسويق لعدم واقعية هذه الطروحات، وقد يذهب هؤلاء للإجرام الاقتصادي وفتح احتمالات الفوضى في سبيل هذا الربح، وهو ما يحصل اليوم.
إن تجارة الأساسيات بهذا المستوى من الربح هو تهديد البلاد الهشّة بإيغال في الهشاشة والعودة إلى الاقتراب من الخطوط الحمراء للتصعيد الأمني والعسكري الذي يضعه الجوع أمام الجميع.
على «الواقعيين» الذين يعتبرون إزاحة الدولار «غير واقعية» أن يقيسوا الأمور بنتائجها الفعلية، إنهم عملياً يدافعون عن استمرار الاستيراد بالدولار وعن استمرار الوضع الحالي، ويرون أن الواقعي هو حصر الإجراءات بالرقابة، أي «بلا شيء»... والأهم، أن الدفاع عن استمرار الوضع الحالي يؤدي إلى تفعيل القوانين الاقتصادية الاجتماعية الواقعية فعلاً، التي تقول إن مزيداً من الإيغال في الإفقار والفاقة والربح الإجرامي، يؤدي حكماً إلى الفوضى.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 950