كورونا... خسائر اقتصادية فهل يكون فرصة صحية؟
كورونا هو حالة الطوارئ الصحية الدولية الأولى المعلنة عالمياً، وتأثيراته الصحية المتداولة على المستوى العالمي، لا تقل تركيزاً وأهمية من تأثيراته الاقتصادية الدولية... الكثير من التهويل على المستوى الصحي، وأيضاً على المستوى الاقتصادي، ولكن تحوّل الكثير من التخويفات إلى مخاوف ونتائج واقعية يعتمد إلى حد بعيد على إثبات الصين لمعجزة جديدة في احتواء هذا الهجوم.
التصريحات الصينية، وحتى التقديرات الرسمية الدولية، مثل تقديرات صندوق النقد الدولي تقول إنه لا يمكن بعد تقدير الأضرار الاقتصادية لفيروس كورونا، ولكن رغم هذا فإن وكالات الأنباء العالمية والغربية تحديداً ترفع التحذيرات الاقتصادية إلى مستوى غير مسبوق. فوفق وكالة بلومبرغ فإن الناتج الإجمالي الصيني قد يخسر نسبة 4% من نموه في الربع الأول لعام 2020 ويسجّل نسبة نمو 2% فقط مقابل 6% في الربع الأول من عام 2019. الأمر الذي يعني خسارة الناتج الاقتصادي العالمي لنسبة 0,1% من نموّه حيث يشكل النمو الصيني ثلث النمو العالمي.
مدّة التوقف تحدد مستوى الخسائر
لا تبدو هذه الخسائر بعيدة عن الواقع أو غير محتملة، وهي تأتي من التوقف الكبير في الاقتصاد الصيني الذي يعتبر مصنع العالم. حيث مددت الصين العطلة القمرية السنوية في أكثر من 14 مقاطعة عبر البلاد، وهذه المقاطعات والأقاليم التي تدخل في عطلة إضافية أنتجت 69% من الناتج المحلي الصيني في 2019. العديد من الشركات العالمية، مثل مقاهي ستاربكس وماكدونالد ومتاجر تويوتا وكذلك شركة أبل، قد أعلنت إيقاف العمل في مكاتبها في الصين حالياً، والكثير منها طلبت من عمالها البقاء في منازلهم والعمل من هناك حيث أمكن. التأثيرات المباشرة والأقرب تنجم عن تباطؤ وشبه توقف للحركة والنقل الدوليين إلى الصين. فالولايات المتحدة مثلاً نصحت مواطنيها في «نصيحة نادرة» بعدم التوجه إلى أي مكان في الصين! ودول عديدة أوقفت رحلاتها حالياً. هذا عدا عن تراجع الناتج السياحي العالمي المتوقع من إنفاق السياح الصينيين في موسم العطلة الصيني، حيث التأثير لا يستهان به بعد توقف السياحة الصينية لحوالي 163 مليون صيني (أكثر من عدد سكان روسيا) أنفقوا عبر العالم ما نسبته 30% من الإنفاق السياحي للأجانب في الدول الأخرى في العام الماضي.
الأنظار كلُّها تتوجه إلى الإمكانات الصحية الصينية، وقد أعطت الصين مؤشرات تجاوب مرتفعة وأرسلتها دعائياً للعالم كما في حالة بناء مشفى علاج كورونا في مدينة ووهان الذي يتسع لألف سرير بظرف أقل من 10 أيام، والنقل المباشر لعمليات البناء المتسارعة يومياً.
تعتبر الصين واحدة من مناطق العالم التي شهدت انتشار فيروسات استثنائية خلال العقود الماضية، فكورونا هو الثاني بعد السارس الذي تمت مواجهته بكفاءة وسرعة نسبية في عام 2003، عندما كان النظام الصحي الصيني أقل تطوراً. ولكن كان الترابط الصيني العالمي اقتصادياً وتجارياً وبشرياً أيضاً أقل، ما يجعل مخاطر كورونا متعددة الأبعاد أوسع.
جاهزية الصين الصحية إمكانات وثغرات
الجاهزية العلمية لمواجهة الفيروس في الصين قد تكون ضمن الأعلى عالمياً، فالشركات الصينية ضاعفت إنفاقها على البحث العلمي الصحي 44 مرّة بين 2000-2016، وأصبحت تنفق ما يقارب 7 مليارات دولار في هذا المجال. كما أصبحت الصين منذ عام 2012 المنافس الأقرب على قيادة الابتكار في المجال الطبي العالمي الذي كانت تحتله الولايات المتحدة لعقود طويلة.
ولكن بالمقابل، إن التغيّر الكبير في نمط الحياة الصيني وكثافة الانتقال الاقتصادي الذي جرى خلال عقدين ماضيين، ترافق مع ارتفاع إجمالي الإنفاق على الصحة (الذي ارتفع بمعدل 5-10% سنوياً وأعلى من معدل نمو الناتج) وارتفعت مستويات الأمراض المزمنة وضعف المناعة والسرطان، ولكن ارتفع معها أيضاً الأداء الحكومي في مواجهة هذه التحديات، إذ ضاعفت الحكومة حصة الفرد من الإنفاق الصحي 10 مرات بين 2006-2016.
الصين تضع إلى جانب إزاحة الفقر مشكلة ارتفاع وسطي العمر الذي يترافق مع ارتفاع الإنفاق الصحي للمجتمع، فعملياً 36,5% من سكان الصين هم فوق عمر الـ 60 وهذه النسبة تفوق المعدل في الكثير من الدول المتقدمة التي تعاني من زيادة الشيخوخة في التركيبة العمرية، ويغد هذا في الصين إلى التغيرات الديموغرافية الكبرى التي حصلت مع عقود من سياسة الطفل الواحد.
ولكن رغم الإنجازات الصحية الهامَّة إلّا أنَّ الإنفاق الحكومي الصيني لا يزال يشكل نسبة 10% من مجمل الإنفاق الصحي في الصين، وبالمقارنة فإن النسبة في ألمانيا هي 21% تغطيها الحكومة من مجمل الإنفاق الصحي للأسر.
تسعى الصين إلى زيادة التغطية العامة للتأمين الصحي، ولكن العائلات الصينية لا تزال تدفع نسبة 32% من الإنفاق على الصحة، على الرغم من أنها كانت تدفع 60% من هذا الإنفاق قبل عشر سنوت.
جزء أساس من الإنفاق الصحي الحكومي تركّز على بناء المشافي الكبرى في المدن التي ساهمت بنسبة 54% من الإنفاق. وتضاعف مؤشر عدد أسرّة المشافي مقابل كل 1000 مواطن خلال عشر سنوات، ولكن مع هذا لا يزال أقل بكثير من معدلات هذا المؤشر في دول متقدمة، مثل اليابان وكوريا وألمانيا، ولكنَّ الوضع الصيني لا يزال أفضل من الوضع في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا والسويد ولدى المواطنين الصينيين فرصة أعلى للحصول على مكان في المشافي مما لدى المواطن الأمريكي وغيره.
البعض يرى أن التوسع في الإنفاق الصحي الصيني على البنى التحتية كالمشافي، لم يترافق مع توزيع متناسب بين الريف والمدن، ولم يترافق مع زيادة عدد المؤهلين والمتخصصين، وتحديداً في الريف. فعلى سبيل المثال لا تزال نسبة 6% فقط من العاملين في القطاع الصحي في الريف تحوز شهادات فوق الثانوية، مع نقص كبير في الممرضات والأطباء. ويرتبط هذا بفوارق الأجور الطبية بين الريف والمدن التي تنخفض في الريف بنسبة 37%...
أنجزت الصين الكثير في المجال الصحي خلال عقود توسع نموها الاستثائي، ولكن البعض يشيرون إلى أن جزءاً من هذا الإنجاز يرتبط بعمليات الاستثمار في القطاع الصحي، نظراً لارتفاع مستوى الأمراض والإنفاق، أي إن جزءاً هاماً من زيادة الإنفاق كان بدافع ربح الشركات. وبينما بذلت الحكومة جهوداً استثنائية وأحدثت نقلات كبرى في إنفاقها وفي تغطيتها لإنفاق الأسر على الصحة، إلا أن الكثير من الفراغات لا تزال موجودة في النظام الصحي الصيني تجعله أقل من مستوى الصين الاقتصادي. فهل يكون كورونا فرصة لنقلة حقيقية في مؤشرات النمو والتطور الفعلية في الصين؟ وهل تحوّل الصين أزمتها إلى فرصة كما اعتادت أن تفعل لتطوّر منظومتها الصحية إلى مستوى أعلى؟ إن حصل هذا فإن الناتج الصيني الحقيقي سيزداد بعد هذا الوباء، لأن تحسن الوضع الصحي وإن كان لا يقاس كميّاً إلا أنه يعوض تراجع رقم النمو الاقتصادي للناتج.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 951