أن تكون مستورداً  كبيراً في سورية

أن تكون مستورداً كبيراً في سورية

انتفضت الحكومة فجأة لتلزم المستوردين الممولين بالدولار الرسمي بنسبة 25% من مستورداتهم عليهم أن يبيعوها للحكومة، وللسورية للتجارة تحديداً. فهل ينفع هذا الإجراء في مواجهة الاحتكار الاستثنائي لسوق الغذاء المستورد لسورية؟ هل ينفع في مواجهة من يربحون من الدولار الرخيص ومن احتكار السلعة ومن البيع المحلي بضعف السعر العالمي؟

نشرت صحيفة تشرين نقلاً عن بيانات جمركية أن بضعة مستوردين يتحكمون باستيراد المواد الغذائية الأساسية، كالسكر مثلاً أو الرز أو غيره، وما قالته الجريدة كانت قد تحدثت عنه سابقاً هيئة المنافسة ومنع الاحتكار السورية... ومعروف في السوق السورية، وهو يحقق نسب ربح استثنائية للمتحكمين بأزمة سورية.

يحصل مستوردو المواد الغذائية على الحصة الأساسية من التمويل الحكومي للمستوردات، ويحصلون على دولار رخيص بسعر لا يتجاوز 440 ليرة، كما أنهم يمتلكون عملياً حسابات في الخارج بالدولار تؤهلهم للقيام بعمليات الشراء والتحويل وغيرها. أي: أنهم عملياً يرممون قطعهم الأجنبي المنفق، بقطع أجنبي رخيص الثمن، وبفارق يفوق 140 ليرة مربحاً في كل دولار. أما سعر البيع المحلي، فهو عالمي، بل يفوق الأسعار العالمية، الذريعة: تكاليف العقوبات المختلفة من نقل وتأمين ومخاطرة وغيرها... وأقرب مثال كان منذ فترة قريبة أسعار صفقات استيراد القمح التي دفعتها الحكومة من المال العام، والتي سعر الطن فيها أعلى من السعر العالمي بنسب تتراوح بين 26-57%. وهي تكاليف يدفعها المستهلك السوري النهائي. ولكن ينبغي الانتباه إلى أن هؤلاء القلة باستيرادهم لكميات كبيرة، فإنهم يحصلون على أسعار أقل وباستيراد نوعيات أقل تناسب «المستهلك السوري»، فتكون النوعيات الرديئة قريبة من السعر العالمي، فالسعر العالمي للأرز أقل من نصف دولار (0,4 $) للكيلو غرام، أي: وفق سعر الدولار الرسمي: 175 ليرة للكغ! بينما أرز المعونات الدولية في سورية بسعر بـ 300 ليرة أي: بنصف دولار وفق سعر السوق السوداء.
والسعر العالمي للسكر (0,27$) للكيلو غرام، أي: حوالي 120 ليرة للكيلوغرام، وفق سعر الدولار الرسمي، بينما أقل سعر سجله كغ السكر في سورية: 250 ليرة!
وأخيراً، سعر الشاي يقارب 2,4 دولار للكغ، أي: حوالي 1000 ليرة، بينما سعره في السوق السورية لا يقل عن 2500 ليرة لأردأ الأنواع.
أن تكون مستورداً كبيراً ومتنفذاً في سورية، يعني: أن تحصل على مربح من شراء الدولار الرخيص تزيد على 140 ليرة في كل دولار، لتعوّض ما أنفقته من دولارات مع ربحٍ. وأن تحصل على حصة كبرى في السوق، وتستورد بسعر منخفض نتيجة الكم الكبير والنوع الرديء الذي لا ينافسك عليه أحد، وبالمقابل، تبيع بأسعار أعلى من الأسعار العالمية بنسبة تفوق 100% في المواد الأساسية الثلاث المذكورة: السكر والأرز والشاي وهلم جرّاً...
اليوم، تدّعي الحكومة أنها تقوم بإجراء جذري، بأن تلزم المستوردين من السلع الأساسية بحصة 25% من مستورداتهم الممولة، للشركة السورية للتجارة، لتباع بأسعار أقل. وهو إجراء جيد، ولكنه لا يمنع الالتفاف. فأولاً: تمّ تطبيقه سابقاً بنسبة 15% من المستوردات ولم تحمل آثاراً إيجابية على أسعار السوق، وتمّ إلغاؤه بعدها. وثانياً وهو الأهم: أن هذه العملية لا تمنع المستوردين المهيمنين على 75% المتبقية من حاجات السوق، من رفع السعر إلى مستوى أعلى لتعويض حصة الدولة!
إن كانت الحكومة تريد كسر الاحتكار، فعليها أن توصف هذه العمليات على أنها سرقة موصوفة، ربحاً غير شرعي من التمويل الحكومي للمستوردات، وربحاً غير شرعي من مضاعفة أسعار البيع... وأن تصادر أموالاً على هذا الأساس! ولكن من أين لها هذه النوايا والقدرة، وهي التي لا تنوي حتى امتلاك القدرة على الاستيراد المباشر، أي: أن تكون حتى لاعباً في السوق بموازاة هؤلاء!
لا تستطيع الحكومة أن تمنع الاحتكار أو تخفف من نسب الأرباح هذه، إلا إذا امتلكت القدرة على الاستيراد والبيع المباشر وليس عن طريق وسطاء. وهذا له طريق واحد في ظل العقوبات، باتفاقيات رسمية مع دول مستعدة وبفروع بنوك رسمية معنية بالتعامل مع سورية فقط، وبعملات غير الدولار، وبشحن حكومي مختص بنقل البضائع إلى سورية. وعندها لن تستطيع العقوبات أن تحاصر فرع بنك أو سفينة شحن لا تعمل إلا في هذا المجال! دون إجراءات من هذا النوع، ستبقى السورية للتجارة، بل والحكومة، بل والسوق السورية بمجملها، مرهونة للمستوردين المتنفذين الكبار، وشبكة فساد هؤلاء هي التي تمنع السير بهذا الاتجاه، الذي سارت به كل الدول الجدّية التي واجهت عقوبات.
المفارقة، أنّ كل أموال هؤلاء مصدرها أموالنا... فالدولارات التي يتمولون بها من الحكومة، آتية بالدرجة الأولى من الحوالات التي يرسلها السوريون لأهلهم، والأرباح التي يحصّلونها بالليرة، ندفعها نحن من حاجتنا الاضطرارية للإنفاق على الأساسيات. أما ماذا يفعلون بهذه الأموال؟ فإنهم عملياً يشترون بها البلد: عقارات ومنشآت وتبييض أموال، وكلّما ضاقت بهم سبل الاستثمار ضاربوا بقيمة الليرة، ورفعوا سعر الدولار، ليسحبوا من صغار المدخرين ومن الارتفاع العام للأسعار

معلومات إضافية

العدد رقم:
920
آخر تعديل على الإثنين, 08 تموز/يوليو 2019 12:34