التكنولوجيا تنتقل... وتغير العالم
تجري تغيرات على عمليات التراكم الرأسمالي عالمياً بشكل مستمر، حيث يتغير تموضع رأس المال عبر القطاعات، وعبر العالم... ولكن العنصر الأكثر حسماً في مسار التراكم الرأسمالي، وفي تغير التقسيم الدولي للعمل، هو حجم رأس المال المتراكم في مجالات التصنيع العليا.
أين تنتج القيم المضافة في التصنيع العالمي؟
في منتصف التسعينيات كانت الدول المتقدمة تساهم بثلاثة أرباع التصنيع العالمي، بينما كانت الدول النامية تنتج أقل من الربع، ولكن هذه النسب شهدت تغيرات ملفتة اليوم.
كانت الدول المتقدمة تنتج 75% من الحصة العالمية، وتراجعت في عام 2014 إلى 56% ومقابل هذا التراجع البالغ نسبة 18,9%، تقدمت الدول النامية*، لتزيد حصتها من القيم المضافة في التصنيع العالمي إلى 42%، بعد أن كانت في 1995 تساهم بـ 23% فقط.
على صعيد الدول الأولى، أصبحت الصين، المصنفة كدولة نامية لدى الأمم المتحدة، المنتج الأكبر عالمياً، بنسبة 20% من الإنتاج العالمي، لتسبق المنتج الصناعي الأكبر السابق أي: الولايات المتحدة الأمريكية التي تراجعت إلى 17,5% من حصة التصنيع العالمي (البنك الدولي)
ولكن ضمن التصنيع هنالك مؤشرات حساسة تدل على التغيرات، وأهمها: التصنيع عالي التكنولوجيا، والذي يشهد تغيرات كبرى أيضاً.
أين تتموضع الصناعة عالية التكنولوجيا؟
تراجعت حصة الدول المتقدمة من التصنيع عالي التكنولوجيا* كذلك الأمر... فبينما كانت كل من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تنتج 71% من منتجات الصناعة عالية التكنولوجيا عالمياً في عام 2003، فإن مساهمتها قد تراجعت لتصبح 53% في عام 2016.
وبالمقابل فإن الصين كأهم مساهم في معدلات الدول النامية، قد وسعت إنتاجها من الصناعات عالية التكنولوجيا أكثر من أربع مرات ونصف! فبينما كانت تنتج 69 مليار دولار في عام 2003، رفعت إنتاجها إلى مستوى 380 مليار دولار في 2016، ونسبة 23% من الإنتاج العالمي، وأصبحت المنتج الثاني العالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية التي أنتجت بمقدار: 495 مليار دولار، ونسبة 30%.
الابتكار وتغير في المؤشرات
يقدم قطاع الروبوتات مؤشراً هاماً على كثافة التصنيع، تعتمده الأمم المتحدة، حيث إن نسبة 60% من الروبوتات الصناعية العالمية موجودة في الدول المتقدمة، أكثر من نصفها تنتج في اليابان، ونسبة 72% من (العناقيد الروبوتية) تتواجد في تلك الدول أيضاً بينما 40% منها في الولايات المتحدة.
ولكن الصين التي لم تكن تدخل في تعداد إنتاج الروبوتات العالمية في عام 2010، انتقلت في عام 2015 إلى حصة مساوية لحصة ألمانيا من الإنتاج العالمي: 8%، وأخذت حصة 5% من (العناقيد الروبوتية)* (unctad trd 2017).
والأهم، أن الروبوتات الصينية تعطي دلالة على مستوى الابتكار في الصين: إن بيانات إنتاج الروبوتات الجغرافية لا تعطي دلالة كافية على القدرات الصناعية عالية التكنولوجية، لأن الإنتاج وبراءات الاختراع قد تكون عائدة إلى الشركات متعددة الجنسيات، وإلى الدول المتقدمة. ولكن الصين تسجل أعلى مستوى من براءات الاختراع في مجال الروبوتات عالمياً: حيث إنه من أصل 1000 شركة ومؤسسة تمتلك براءات اختراع الروبوتات عالمياً، فإن أكثر من نصفها صينية 524. وتعتبر تسع جامعات صينية حكومية بين المؤسسات العشر الأولى التي سجلت براءات اختراع في مجال الروبوتات عام 2015.
لا تزال عمليات الابتكار السابقة، والمسجلة كحقوقٍ ملكية لشركات المراكز الغربية، تحقق لهذه الشركات عائداً هاماً، وحصة من الإنتاج الصناعي عالي التكنولوجية حتى في الدول المتقدمة، ولكن كما حدثت التغيرات السريعة في التموضع الجغرافي لإنتاج التكنولوجيا عالية التصنيع، خلال أقل من عقد من الزمن، فإن إعادة تموضع في عمليات الابتكار في هذه القطاعات، ستحدث أيضاً. حيث تضع الصين الابتكار عنواناً لخطتها الخمسية الثالثة عشر بين (2016-2020)، الأمر الذي تدعمه بقوة مؤشرات الإنفاق الصيني الاستثنائي على البحث العلمي.
تغيرات كبرى في الإنفاق
على البحث العلمي
في مطلع الألفية كان الإنفاق الصيني على البحث العلمي لا يتعدى 4,5% من الإنفاق العالمي ومقداراً يقارب 33 مليار دولار. وقد ضاعفتها خلال 15 عاماً أكثر من 11 ضعفاً. لتصل إلى إنفاق 409 مليار دولار في 2015، ونسبة 21% من الإنفاق العالمي.
وبينما كانت الولايات المتحدة في عام 2000 تساهم بـ 37% من هذا الإنفاق وتنفق 270 مليار دولار تقريباً، فقد تراجعت مساهمتها العالمية إلى 26% في عام 2015، ولكنها بقيت الأعلى إنفاقاً بمقدار 497 مليار دولار. أما الدول الثلاث التالية: اليابان وألمانيا وفرنسا فقد كانت تنفق مجتمعة نسبة 26% من الإنفاق العالمي على البحث العلمي والتنمية في عام 2000، وتراجعت إلى 18%.
توسع انتقال التصنيع العالمي من بلدان المراكز إلى الأطراف خلال المرحلة النيوليبرالية، ولكن ما كان سابقاً قائماً على تموضع الصناعات كثيفة العمالة في الدول النامية... أصبح لاحقاً وتحديداً بعد الأزمة المالية العالمية انتقالاً للصناعة عالية التكنولوجيا إلى أقطاب في دول الأطراف. وهو انتقال رافعته الصين بالدرجة الأولى، التي تستكمل العملية بالتحول إلى مركز للابتكارات التكنولوجية، والإنتاج العلمي في هذا المجال، لأن الاحتكار الغربي للمنتجات التكنولوجية هو أداة لسحب القيمة حتى من منتجي هذه الصناعات. إن تعميم المعرفة، وتحديداً بمستوياتها العلمية والتقنية العليا، يُبنى تدريجياً، وهو يُفقد المركز الإمبريالي العالمي محتكر التكنولوجيا والسلاح والمال، أداته الرئيسة في المعركة مع شعوب العالم. فالاحتكار التكنولوجي، محدد في مستوى السلاح، ومحدد في الأداء الاقتصادي الذي بتراجعه في المركز تضعف قدرته على فرض المال العالمي كالدولار ومؤسساته والتمويل عبره، وهو ما نشهد معالمه الواضحة اليوم كنتيجة لهذه التغيرات.
هوامش:
1 الدول النامية وفق الأدبيات الاقتصادية الدولية هي مجموع دول العالم باستثناء الدول الأعلى دخلاً في أميركا الشمالية وأوروبا واليابان واستراليا و(إسرائيل) ودول الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، أي تضم دولاً مثل الصين وكوريا الجنوبية والهند وغيرها.
2 الصناعات عالية التكنولوجية وفق التصنيفات الدولية مصنفة في خمس قطاعات: الطائرات ومركبات فضائية ؛ المدخلات الصيدلانية، أجهزة الكمبيوتر والأجهزة المكتبية؛ أشباه الموصلات ومعدات الاتصالات، وأدوات القياس والطب والملاحة والبصرية والاختبار.
3 العناقيد الروبوتية تعبير عن صناعات الربط بين مجموعة من الروبوتات، لتشكل بنية واحد ومترابطة تؤدي مهمات أعقد.