مؤتمر استثماري محلي... لأزمة سياسية دولية!
انتهى مؤتمر المستثمرين الذي أعلنت عنه هيئة الاستثمار بشراكة مع جهة منظمة خاصة، وأتى صدى المؤتمر خافتاً بمقدار حجم الأصوات المتعالية فيه... الحكومة السورية عرضت خارطتها الاستثمارية على الحضور، الذي شكل رجال الأعمال السوريون واللبنانيون عماده الأساس، ولكن إعلاماً كثيراً لا يغير بعض الوقائع الصلبة المرتبطة بالوضع السوري.
عرضت هيئة الاستثمار حوالي 62 مشروعاً استثمارياً، ضمن الخارطة الاستثمارية السورية، وبتكلفة استثمارية تقديرية قاربت 6,7 مليار دولار، وبوسطي 110 مليون دولار للمشروع. لم تعلن نتائج المؤتمر، ولكن الإعلام يتداول توقيع عقدين إلى أربعة عقود، اثنين منها عقود صناعية لشركات لبنانية لإنتاج الحبيبات البلاستيكية، والأخشاب المضغوطة.
الاستقرار والعقوبات والبنية الفاسدة
لدى هيئة الاستثمار الدلالات الكافية على أن المرحلة لا تتيح حالياً الوصول إلى نتائج استثمارية هامة، فالهيئة ذاتها أعلنت أن المشاريع الاستثمارية المرخصة، لم تدخل حيز التنفيذ منذ بداية الأزمة. حيث ينتظر أصحاب الأموال ظروفاً أنسب لا تبدو بعيدة.
فما يسميه الكثيرون (مناخ الاستثمار) ليس مناسباً حالياً في سورية، رغم أن سورية تتحول إلى (ظرف استثماري واعد) ويتربص الجميع بإعادة إعمارها. ويشتمل هذا المناخ الاستثماري السلبي الحالي على مناحٍ عديدة:
أولها وأهمها: هو مستوى الاستقرار السياسي، الذي إن تحسن الآن فهو سيتحسن لاحقاً بشكل أكبر، ولا داعيَ للعجلة بمفهوم أصحاب المال. فإنهاء التواجد الإرهابي في سورية، وإزالة الاضطرابات المتعلقة بالوضع في إدلب، وفي التواجد التركي، وبالوضع في المنطقة الشمالية الشرقية... كفيل بتأخير حماس هؤلاء.
والعامل الثاني: هو المرتبط بصعوبات التمويل والتسويق في الظروف السورية، نتيجة الحصار الاقتصادي الغربي على سورية الذي يجعل خطر فرض عقوبات على أعمال هذه الشركات قائماً، ويزيد من الكلف الاستثمارية، ويجعل الشراكات مع الجهات الحكومية مسألة معقدة ومكلفة.
أما العامل الثالث: فيرتبط بالبنية الاقتصادية السورية، قبل الأزمة، وخلالها... والذي يعبر عنه البعض بالفساد والبيروقراطية، وصعوبة الإجراءات وغيرها، إلا أنه يعبّر بالعمق عن التشابك الكبير بين الاحتكار الاقتصادي والنفوذ السياسي، والقدرة على التأثير، إلى حد تسيير أداء جهاز الدولة والمؤسسات. فما كان موجوداً سابقاً من ارتباط تسهيلات العمل بالعلاقات الضرورية مع قوى المال والنفوذ الكبرى في السوق السورية، تفاقم اليوم إلى حد بعيد. وتعدى الأمر اليوم قدرة هذه القوى على عرقلة العمل والتضييق بهدف المحاصصة، ليصل إلى إمكانية الاعتداء في ظروف بلاد أصبح للمليشيات فيها وظيفة هيمنة وسلب اقتصادي ممنهج. فالفساد والبيروقراطية في سورية كانا أداة النخبة المالكة والمهيمنة على أدوات الحكم لفرض شراكات واحتواء الأعمال في قطاعات مختلفة، وتفاقمت هذه الحالة اليوم لتصبح المسألة تتضمن: مستوى أعلى من الفساد والبيروقراطية مضافاً إليها (البلطجة). وهي عوامل تؤثر على معدلات الربح ومستوى استقرار ظروف العمل، واستمراريتها... حيث لا يمكن أن تشكل الدعوات والملاطفة الحكومية والمغريات التشريعية حافزاً كافياً في وجه الوقائع التي لم تغير من إمكانية هؤلاء وهيمنتهم.
ينتظر المال المحلي والإقليمي والعالمي، التغيرات والتسويات السياسية الكبرى التي تتيح: ضمان وضع أمني أفضل، ومرونة في التمويل والتسويق وزوال خطر العقوبات، وتراجع قدرة قوى النفوذ المالي- السياسي السورية على فرض حصصها وشروطها.
إعادة الإعمار عملية سياسية دولية
هناك جوانب أخرى ينبغي ألا تغيب عن التفكير بعملية الاستثمار في سورية في مرحلة إعادة الإعمار القادمة، وهي ستحدد إلى حد بعيد شكل عملية إعادة الإعمار، وتحديداً في مراحله الأولى.
فأولاً: إعادة إعمار سورية تجري في ظروف اضطراب اقتصادي دولي، وأزمات مالية واقتصادية مرشحة للتفاقم، ستجعل أطرافاً كثيرة خارج دائرة القدرة على التمويل. فلا الخليج قادر، ولا الغرب وتحديداً أوروبا... بل إن شركات وأعمال هؤلاء ينتظرون الحصول على فرص التشغيل والعقود، من التمويل الواسع لإعادة إعمار سورية. وفي مؤتمر تمويل إعمار العراق، ومؤتمر إنقاذ لبنان الأخير، خير دلالة على تضاؤل قدرات التمويل الإقليمي والغربي، وتراجع فاعليتها السياسية في منطقتنا.
وهذا سيجعل عمليات التمويل التنموية الكبرى المطلوبة، متوفرة لدى طرف أساس متمثل بالإمكانات التمويلية التنموية الصينية الكبرى، التي لا زالت حتى الآن خارج إطار المبادرة الفعالة في سورية، وتترقب الظرف السياسي المناسب.
وثانياً: وهو الأهم أن عملية إعادة إعمار سورية، هي جزء من العملية السياسية الدولية، وليست شأناً سورياً_ إقليمياً فقط، كما هي التسوية السياسية السورية. فالإعمار يرتبط إلى حد بعيد بحل الأزمات السياسية والاجتماعية الكبرى: ضمان ظرف لا يسمح بإعادة خلق الإرهاب مجدداً، وما يتطلبه هذا من استقرار وتنمية وتشغيل ومحاربة للفقر، وترميم للتهميش الكبير السابق واللاحق للأزمة. بالإضافة إلى حل ملف اللاجئين، وإعادتهم إلى مناطقهم، وكل ما يرتبط به من تهيئة البنى التحتية، وإعادة إعمار المناطق المدمرة، وكل المستلزمات الإنسانية الإسعافية الأولى.
يجري الربط الآن بين ملف إعادة اللاجئين، الذي يبدأ بـ 1,7 مليون سوري كأول رقم متداول وللمرحلة الأولى فقط... وبين التنسيق الدولي في عملية إعادة الإعمار، حيث يجري دفع الدول إلى المشاركة في عملية تأهيل البنى التحتية، وتقديم المساعدات، وتأمين تكاليف نقل اللاجئين، وغيرها من الإجراءات العملية الضرورية. التي ستعطي الإقلاع في عملية إعادة الإعمار، طابعاً عملياً... يتضمن إعادة اللاجئين، والحصول على تعويضات من دول ستنفق مباشرة على تأمين ظروف عودتهم، وتأمين البنى التحتية لاستقرارهم في سورية، وتأمين المساعدات الإنسانية الأولية. لا تزال هذه العملية في بداياتها، إلّا أن هذا يعطي الدلالة الكافية على الطريقة التي ستسير بها إعادة إعمار سورية في مراحلها الأولى...
إن تمويل إعمار سورية، وإعادة البناء، لا يمكن أن تتم بمنطق الدعوات الحكومية للمستثمرين، وتقديم المغريات لهم! ولا يمكن أن تكون هذه العملية إلا ذات طابع سياسي دولي، كما هي الأزمة السورية وحلها عموماً... حيث ستعكس المتغيرات الدولية، وستتحرك بمحدداتها، أي: وفق الضرورات الدولية لاستقرار سورية، وحل المشاكل الاجتماعية والتنموية الكبرى التي تواجه هذا الاستقرار... وستتم في ظرف أزمة مالية عالمية، وانحصار القدرة التمويلية التنموية للقوى الصاعدة والصين تحديداً. وستتطلب مستوى أعلى من الاستقرار السياسي الذي يتيحه إنهاء الوجود الإرهابي كاملاً، والوصول إلى إنهاء الحصار والعقوبات، والوصول إلى تسويات دولية لحل الأزمة حلّاً سياسياً يلتزم به المجتمع الدولي ككل.