تمويل الإعمار السوري: من الغرب-الإقليم- الشرق!
تزداد اللوحة المالية الإقليمية قتامة عاماً بعد عام... حيث إن العجوزات المالية كسِمة عالمية، تتجلى بوضوح في «الشرق الأوسط» ولدى حلفاء الغرب. وهذا العجز المالي لا يمكن إلّا أن ينعكس عجزاً سياسياً، سيكون له أثر كبير على «الأفق التمويلي» للإعمار السوري، الذي يحتاج ما بين 300-500 مليار دولار، ولا يمكن إلا أن يكون دولي الطابع.
اجتمعت أكثر من 76 دولة و51 منظمة إقليمية في شهر 2 من العام الحالي في الكويت، تحت عنوان إعادة إعمار العراق... وقدّر العراقيون أن يحصلوا على 88 مليار دولار، جزء كبير منها منح، فحصلوا على 30 مليار دولار «وعوداً تمويلية» من القروض والاستثمارات، رغم كل الاهتمام السياسي الغربي والخليجي بملف إعمار العراق.
وانعقد كذلك الأمر مؤتمر «باريس 4» المتخصص بضخ الأموال الغربية والخليجية في نظام ديون النخب الاقتصادية اللبنانية، وتراوحت التعهدات بين 8-11 مليار دولار، مرفقة بالشروط الصعبة على الاقتصاد اللبناني، والتي كان آخرها مزيداً من تخفيض الإنفاق والخصخصة في مجالات الكهرباء والمياه والنقل، في بلد مضى على حربه أكثر من ربع قرن ولم يستطع أن يؤمن خدمات عامة أولية لسكانه.
مئات المليارات المطلوبة للإعمار السوري لن تجد «معيلاً جدّياً» في الغرب ومنظماته الدولية وحلفائه الإقليميين. حيث تتضاءل إلى حد بعيد إمكانات التدفق السهل لأموال المنح والمساعدات وحتى الاستثمار والإقراض، التي كانت متاحة سابقاً.
هل ستمولنا أمريكا وأوروبا؟
على مستوى التمويل الدولي_ المركزي الغربي، فما يحدد أفقه هو العتبة الجديدة التي تدخلها الأزمة المالية العالمية، مع ارتفاع احتمالات انفجار أزمة الدَّين العالمي. بعد أن بدأ رفع أسعار الفائدة لدى الفيدرالي الأمريكي، وانحسار موجة المال السهل الناتج عن ضخ الأموال من البنوك المركزية الأوروبية منذ عام 2009... فتمويل المنظمات الدولية وقدرتها على التمويل، ترتبط بدرجة الانخراط المالي الأمريكي، والأوروبي، والقدرة على استمرار خلق الديون. ولكن الأمريكيين يعلنون سياسة انكفاء عالمية، وتحديداً عن تمويل المنظمات وإطارات تحالفاته، بينما الأوروبيون المهتمون باستمرارية مثل هذا التحالف غير قادرين على تمويله، بل ينتظرون أن ينعشوا شركاتهم من تمويل الآخرين! وتحديداً أنهم الأكثر تهديداً بأزمة الدَّين العالمي.
ويضاف في مسألة تمويل الغرب للإعمار السوري، درجة المصلحة السياسية. فالغرب والأمريكيون تحديداً لا يريدون استقراراً سورياً، ولا يضمنون استمرار الفوضى عبر نموذج «إعادة إعمار غربي» كما حصل في لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها، بسبب الخسارة السياسية التي مُنوا بها... والتي تجعل مالهم غير مضمون النتائج، لذلك لن يبادروا ويدفعوه.
وماذا عن الخليج وتركيا وإيران؟
إذا ما كان هذا وضع المركز الغربي الدولي، فإن وضع الإقليم أسوأ.
فالخليج بعد حرب النفط في عام 2014، أوقد بيده نار العجز المالي لدول مجلس التعاون، ليبلغ 286 مليار دولار خلال عامي 2015-2016. وأصبح عجز الموازنة السعودية يقارب ربعها، وبدأ «التقشف السعودي» لتوقف الحكومة السعودية سيل مدفوعاتها الدورية للشركات السعودية الكبرى، التي بدأت خسائرها تظهر وضوحاً فعلى سبيل المثال: خسرت الشركات العقارية العشر الكبرى في السعودية أكثر من نصف أرباحها خلال العام الماضي، ومبالغ أكثر من مليار ريال سعودي.
أما تركيا فعدا عن كونها لا تعتبر قوة تمويلية إقليمية، إلا أنه حتى لو حاولت اعتبار نفسها، فإنها ليست بوضع مالي يسمح! فعدا عن العملة التركية التي تراجعت بنسبة 22% أمام الدولار خلال العام الحالي، فإن تركيا تفقد التمويل الخارجي الذي كان يتدفق في شريان اقتصادها الحقيقي وقطاعها المالي، وسيكون عليها أن تعبئ مواردها لتعويض هذا النقص الاستثماري في الاقتصاد التركي. وإن لم تفعل ستواجه فوضى اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة.
أما في الإطار الإقليمي الأوسع لدى إيران وصولاً لروسيا، فرغم كونهم معنيين سياسياً بإنجاح الإعمار السوري، إلا أن المستحقات الاقتصادية الداخلية الحادة، مع التحديات التي يفرضها الصراع الدولي على هاتين القوتين، تجعل من غير المنطقي اعتبارهما وزناً تمويلياً أساسياً لمئات المليارات من الاستثمارات المطلوبة.
لتتبقى قوة مالية جدية ووحيدة، هي الصين كما يتوقع الجميع، والتي تشكل الرافعة الحالية والقادمة لنظام تمويل دولي جديد، تلعب المساعدات التنموية فيه دوراً هاماً، ولا يرتبط بشروط اقتصادية وسياسية.
الصين مهتمة سياسياً قبل اقتصادياً
ستكون الصين مهتمة بإعادة الإعمار السورية، لأسباب سياسية قبل الاقتصادية. فعملياً ستمثل طريقة إنهاء الكارثة الإنسانية السورية الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، فرصة إعلان «الانقلاب» الاقتصادي العالمي، لصالح آليات التمويل الدولي الجديد التي تقودها الصين مع القوى الصاعدة المنخرطة في شنغهاي، وبريكس، وعبر البنوك التنموية الصينية، ومشروع «الحزام والطريق» وغيرها.
ستهتم الصين التي تقود منظمات التمويل الجديدة بإعمار سورية، كما اهتمت الولايات المتحدة بإعادة إعمار ألمانيا تحديداً، وأوروبا عموماً، بعد الحرب العالمية الثانية، حين أصبح مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، الدلالة الأوضح على القيادة الأمريكية للعالم الغربي.
ولكن هناك فارقاً كبيراً بين عام 1945 واليوم، وهو أن أحداً ما لن يستطيع أن يعيد خلق أدوات الهيمنة والاستغلال الأمريكية المندثرة: لا عبر المال، ولا السلاح، ولا التكنولوجيا. لأن هذه الجوانب الثلاثة للقوة أصبحت موزعة بين أطراف متعددة عبر العالم، ما يشكل جوهر توازن القوى الدولي الجديد. والأهم، أن تعميق مستوى الاستغلال لم يعد ممكناً، إلا إذا توسعت عمليات «الإبادة الحضارية» التي مارستها الولايات المتحدة خلال العقود الماضية. فشعوب العالم التي امتصها العصر الأمريكي للحد الأقصى، لم يبقَ لديها ما تعطيه لقوى هيمنة جديدة! والصين تعلم أكثر من غيرها، أن استمرار التقدم الصيني مرهون بالقدرة العالمية على تجاوز الأزمة الاقتصادية، عبر طريق واحد: خلق التنمية الجماعية، وإعادة توزيع الثروة من الأعلى إلى الأسفل.
الأفق التمويلي السوري سيفتح من الشرق، ولكن المعطيات تقول: إنه لن يكون موضع اهتمام سوري فقط، بل ستسعى قوى العالم الصاعدة، لتحوله إلى «مفصل سلم عالمي» تنموياً قبل تمويلياً، وسيكون على عموم السوريين أن يلتقطوا اللحظة ويصيغوا حاجاتهم الوطنية التي سيسمح الظرف الدولي بتلبيتها حكماً... ولكن كلما ازدادت فعالية السوريين وقواهم الحية، كلما استطاعوا أن يسرّعوا إزاحة العقبات المتمثلة بأحلام بضعة مليارديرية محليين، ممن يتوهمون نموذج إعمار لبناني يوسع نفوذهم ويطيل عمر نهبم... الأمر الذي سيكون مخالفاً لما تقتضيه ضرورات الظرف الدولي التي تطوّع القوى المحلية حكماً، وتجعل أماني هؤلاء «كأحلام إبليس بالجنة».