المفاوضات الاستثمارية (المستعجَلة)
يبدو من الإعلام الاقتصادي المحلي بأن رجال الأعمال الإقليميين والمحليين يدورون كالمكوك بحثاً عن فرصٍ في الرحاب السورية المدمَّرة...
تتصدر إعادة الإعمار أعلى التصريحات الرسمية، فمن تقديرات إعادة الإعمار بحوالي 400 مليار دولار، إلى التعهدات بدور الأصدقاء، إلى التصريحات في المؤتمرات الدولية حول الاستعداد للمساهمة في إعادة إعمار سورية وغيرها الكثير...
وبالفعل تنتقل مشاريع استثمارية محددة اليوم إلى مرحلة المصادقة على العقود كما في استثمار الفوسفات، وينتقل بعضها إلى تعهدات ومبادرات للتعاون، كما في مؤتمر يالطا الاقتصادي الأخير، وما شمله بيانه الختامي من حديث عن شراكات تجارية واستثمارية وأدواتها المؤسساتية، مثل: مركز الحبوب الروسي السوري، وتجهيز الجرف البحري، وإنشاء مؤسسة مشتركة للإشراف على تنفيذ المشاريع الاستثمارية لاحقاً... بالإضافة إلى المبادرات الأخرى التي لا تزال قيد الدراسة، كما في مبادرة مجلس الأعمال السوري الإيراني للمساهمة في الصناعة السورية العامة، وإعادة تفعيل الخط الائتماني الإيراني.
اللحظة المناسبة
بين الشراكات الاستثمارية مع الغرب، وبين الشراكات الاستثمارية مع دول الإقليم والقوى الصاعدة، يستطيع المرء أن يقول مباشرة: إن الثانية أفضل من الأولى، أو بالأحرى: (أحلى المريّن).
فالاستثمار هو الاستثمار أياً كانت مصادره، أي: أنه يسعى عملياً إلى أقصى ربحٍ ممكن، ومسعاه هذا يتناقض مع الحاجة السورية إلى كل مورد ممكن، حالياً وفي المستقبل. وهو ما يتطلب قوة تفاوضية للقائمين على المال العام مع المستثمرين، وهذه القوة ليست سمات ورغبات ونوايا الأفراد القائمين، بل لها محددات موضوعية تتعلق باللحظة السياسية، وبجاهزية المشروع الوطني، وتوفر البدائل، وكلها مرتبطة ببعضها البعض.
فعملياً، لحظة إعادة الإعمار في سورية تترافق مع انفتاح أفق تمويلي عالمي مختلف عن نمط التمويل الغربي، ومتمثل بالمبادرات الآسيوية التي تقودها الصين بالدرجة الأولى، وروسيا بالدرجة الثانية، مثل: مشروع الحزام والطريق الصيني، وتكامله مع المشروع الأوراسي الروسي، بالإضافة إلى المؤسسات والبنوك الأخرى، مثل: بريكس وبنك تمويل البنى التحتية وغيرها. ومقابل هذا النشاط فإن الغرب وسط أزمته الاقتصادية، والسياسية، وهو يعلن صراحة عدم استعداده للمشاركة إلا بشروط، ويرفض إزالة العقوبات والحصار أيضاً إلا بشروط، مما يجعل الأفق الاستثماري الواسع مفتوحاً حصراً من الشرق لسورية. وهو بتجربة الدول الأخرى يتيح فرصاً تمويليةً هامةً، منخفضةَ التكاليف، غير مشروطة، بالإضافة إلى فرص التعويضات والمساعدات التنموية الفعلية وغيرها.
(الالتقاط الوطني للحظة)
ولكن، هذا الجو العالمي يجب أن يلاقيه وعي ورغبة سورية بتحقيق أفضل الفرص الاستثمارية، أي: أن تطغى المصلحة العامة على عمليات التفاوض مع المستثمرين...
وعلى ما يبدو فإن هذه العقلية ليست حاضرة اليوم، وهي لا تحضر إلا عندما يكون الجو السياسي والاجتماعي في البلاد كافة، يسمح للناس بالدفاع عن مصلحتها العامة.
أما حالياً، فيتبين أن منطق (الاستعجال الاستثماري) سيؤدي إلى خسائر سيكون على السوريين ترميمها لاحقاً، كأن تستثمر الثروات الباطنية، مثل: الفوسفات بنسبة 30% فقط للجهة العامة، وأن يتم التجهيز لاستثمار أراضي الدولة، المنظمة وغير المنظمة، عبر شراكات استثمارات مع شركات خاصة عقارية تدير عملية إخلاء المناطق المأهولة، وإعمار مساكن مليارية، كما في تجربة مساكن الرازي التي يُراد تعميمها وفق القانون رقم 10 لسنة 2018.
يقول البعض: إن أي تحريكٍ مبكرٍ للعمليات الاستثمارية يساعد على إنهاض اقتصاد البلاد، وهذا صحيح بطبيعة الحال... إلا أن المشكلة أن أغلب مستثمري اللحظات الحالية التي تسبق الاستقرار، يفاوضون من موقع قوي، ودون توفر بدائل وخيارات واسعة في اللحظة الحالية. والمشكلة أيضاً أن جزءاً هاماً من (المستثمرين المستعجلين) هم من (مبيضي الأموال السوداء) التي جُنيت من الخسائر والدمار السوري، وجزءاً آخر ممن يبحثون عن صفقة رخيصة، وفرص ربح كبير وتكلفة قليلة، مع دولة في ظروف بلادنا وفي اللحظة الحالية.
إن تحريك العجلة الاستثمارية والتشغيل حالياً، ضرورة، ولكن إذا لم يترافق بقوة تفاوضية لدى الطرف السوري، مدفوعة بالمصلحة العامة والوطنية، فإنه سيتحول لاحقاً إلى أزمة جديدة، وسيكون على السوريين ترميمها.
إن الأداء التفاوضي الاقتصادي يجب أن يكون مدفوعاً بالمصالح الوطنية، ليسأل المستثمرين المحليين ووجوه الأثرياء الجديدة: من أين لك هذا؟ ويصادر (ثرواتهم المدماة)، وليضع المستثمرين الإقليميين أمام ضرورات المصلحة العامة السورية والنسب الضرورية للموارد العامة والنسب المتاحة لربح المستثمرين. ولكن هل مفاوضونا الحاليون مدفوعون بهذه المحددات، أو لديهم نوايا من هذا النوع؟ إن أداءهم الاقتصادي خلال سنوات الأزمة وما قبلها يقول غير ذلك...