الذهب أيضاً... سيشعُّ من الصين
تتوجه الأنظار العالمية نحو الذهب باعتباره المرشح للتحول إلى «الملاذ الآمن» وسط العواصف السياسية-الاقتصادية التي تعصف بعالم اليوم وأسواقه... ويربط العديد من المحللين بين مخاوف الحرب التجارية، وبين ارتفاع أسعار الذهب العالمية، ولكن القوى الصاعدة تتعامل مع الذهب باستراتيجية أبعد من رد الفعل على «إجراءات ترامب»...
ارتفعت أسعار الذهب منذ الاضطرابات الناجمة عن السلوك السياسي الأمريكي المتهور اقتصادياً، ويتوقع البعض ارتفاع سعر الأونصة العالمية ليصل إلى 1400 دولار من مستوى 1337 تقريباً المسجل بتاريخ 28-4-2018.
يرتبط ارتفاع الذهب الحالي بالتوتر الاقتصادي العالمي، وهو يرتبط أكثر بتراجع الدولار عالمياً، وبحرب العملات التي قادتها الأموال الغربية ضد عملات القوى الصاعدة في عام 2014، حيث ارتفعت أسعار الذهب العالمية بنسبة 13% منذ عام 2015 وحتى الآن عندما كان السعر العالمي للأونصة 1175 دولار.
إلا أن تصاعد التوجه العالمي نحو الذهب يعود إلى الأزمة المالية العالمية، حيث حصلت الانعطافة.
القوى الصاعدة
تقتني الذهب منذ 2008
تقود الصين وروسيا الطلب العالمي على الذهب، عبر توسيع الاحتياطيات الذهبية السيادية. حيث رفعت الصين احتياطيها من 600 طناً في عام 2008 إلى 1054 طناًاً في عام 2014، ثم رفعته إلى 1842 طناًاً خلال السنوات الأربع الماضية، أي: أن الاحتياطي الصيني ازداد خلال عشر سنوات بنسبة: 207%.
وكذلك الأمر فإن روسيا بعد الأزمة المالية العالمية زادت احتياطيها من الذهب من مستوى 463 طناًاً في عام 2008 أيضاً إلى مستوى 1838 طناًاً، بعملية زيادة مستمرة وغير متقطعة منذ الأزمة المالية العالمية، وبنسبة زيادة: 296%.
القوى الصاعدة الأخرى زادت احتياطياتها ولكن بنسب متفاوتة وليس بالوتيرة ذاتها، فالهند مثلاً، رفعت احتياطياتها الذهبية في عام 2009 بنسبة 56% من 357 طناًاً وصولاً إلى 557 طناًاً ثم ثبتته. أما تركيا فلم ترفع احتياطياتها الذهبية مباشرة بعد الأزمة، بل في بداية عام 2011 من مستوى 116 طناًاً وصولاً إلى 564،8 طناًاً حالياً وبنسبة تزيد على 386%.
الخزان الذهبي للغرب والصين
لا تزال الاحتياطيات الذهبية لبعض دول الغرب ثابتة ولكنها مرتفعة، بالمقارنة مع مثيلتها المتصاعدة لدى القوى الصاعدة. فالولايات المتحدة تعلن بأن احتياطياتها الذهبية تبلغ 8133 طناً من الذهب، وهي ثابتة لا تتغير. أما ألمانيا فهي أيضاً تثبت كتلة احتياطياتها الذهبية، والبالغة 3373 طناً، ويتثبت الاحتياطي الإيطالي عند 2451 طناً، أما الاحتياطي الفرنسي فقد تراجع من مستوى 2985 طناً في عام 2004 إلى المستوى الإيطالي وثبت منذ ذلك الحين عند هذا الحد. وتتبقى احتياطيات اليابان وبريطانيا المنخفضة نسبياً، وهي ثابتة أيضاً ولكن عند مستويات 765 طناً للأولى، و312 طناً للثانية.
النقطة الهامة هي حصة الذهب من مجمل الاحتياطيات السيادية، فبينما يشكل الذهب نسبة 75% من احتياطيات الولايات المتحدة، و70% في ألمانيا، و67% في إيطاليا. فإن نسبته في الصين لا تتعدى 2،4% من الاحتياطيات الصينية الكبرى. ما يعني أن الجزء الأعظم من الاحتياطي الصيني هو بالعملات والأوراق المالية الغربية، بالإضافة طبعاً إلى عملتها التي أصبحت واحدة من العملات الاحتياطية العالمية. نسبة الذهب من الاحتياطيات في روسيا ترتفع وقد أصبحت 17،7% حالياً، بينما كانت في 2008 لا تتعدى 2،4% أيضاً، ما يعني أن روسيا تخفف بشكل منتظم نسبة احتياطياتها السيادية بالعملات والأوراق المالية الغربية.
ولكن رغم أن الصين تمتلك احتياطياً ذهبياً أقل من أغلب الدول الغربية، إلا أنها بالمقابل تمتلك أكبر خزان ذهبي إجمالي، حيث أن الاحتياطي الإجمالي من الذهب في الصين، والمكون من الإنتاج المحلي والمستوردات، يضع الصين في المرتبة الأولى عالمياً منذ عام 2007، حيث أصبحت الصين المنتج الأكبر للذهب عالمياً، بإنتاج 455 طناً سنوياً تقريباً، مضافاً إليه الذهب المستورد الذي يبلغ 2-3 أضعاف الإنتاج المحلي. وبالمحصلة فإن الاحتياطي الصيني الإجمالي من المعدن الثمين ارتفع من 4000 طناً في عام 2000، وصولاً إلى حوالي 21500 طناً في عام 2018.
سوق لندن مقابل سوق شانغهاي
هناك اعتقاد سائد بأن البنوك المركزية الغربية تكبح توسع سوق الذهب العالمية، أو بشكل أدق تريد أن تعيق اللجوء العالمي إلى توسيع الاحتياطي الذهبي. فالمعدن الثمين ينافس العملات الاحتياطية الرئيسة: الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني التي تصدرها البنوك المركزية الغربية. حيث يهدد الذهب هذه العملات لأنه أهم بديل عالمي حالي عن هذه العملات، ويأتي بعده اليوان. وعملية التحكم الغربي بسوق الذهب العالمية متعددة الأوجه، ولكن جوهرها بسيط ويقوم على احتكار سوق العرض والطلب، وبالتالي التحكم بالتسعير.
فعملياً تتحدد أسعار الذهب العالمية بالدرجة الأولى في أسواق لندن وزيوريخ ونيويورك، وتأتي بعدها سوق شانغهاي الحديثة في هذا المجال.
ووفق مجلس الذهب العالمي فإنه في عام 2011 على سبيل المثال: بلغت تجارة الذهب العالمية حوالي 50،4 مليار أونصة، بمقدار يقارب 62،4 تريليون دولار. وقد كانت حصة سوق لندن من هذه السوق الواسعة: 86،75%، بينما كانت حصة سوق شانغهاي لا تتعدى 1،38%.
ولكن هذا لا يحسم الأمر لمصلحة سوق لندن تماماً، فعملياً من المتعارف عليه أن سوق لندن هي سوق افتراضية، بينما سوق شانغهاي هي سوق فعلية، يتم فيها الطلب الفعلي على المعدن الثمين، وليس على أوراق أو رموز المعدن كما في حالة لندن. فالسوق الأولى سوق مضاربية، بينما السوق الثانية هي سوق فعلية. ولكن آليات تحديد السعر العالمي تجعل السعر يتحدد في الأولى، حيث تتحرك أموال مضاربية أكثر.
لذلك فإن الصينيين فتحوا سوق شانغهاي التي يُسعّر فيها الذهب باليوان وليس بالدولار للمستثمرين العالميين، وهذا من جهة، أما من جهة أخرى، فقد دخلوا كمستثمرين كبار في سوق لندن الإلكترونية للذهب، وأصبحت البنوك الصينية الحكومية الثلاثة الكبرى ضمن 13 من البنوك العالمية الكبرى المساهمة بشكل أساسي في سوق لندن. أي: أنهم دخلوا إلى مركز التسعير للتأثير فيه. وتوسعت كذلك الحيازات الصينية لمخازن ذهب غربية كبرى تابعة لروكفلر في نيويورك، ولبنك باركليس في بريطانيا.
يسعى الصينيون إلى ربط الذهب باليوان، وهذا عبر أدوات أساسية، أولاً: حصتهم الكبرى من الطلب الفعلي على الذهب العالمي، وإنتاجهم الكبير منه... ومن ثم تأثيرهم على أسواق تسعير الذهب العالمية، وتطوير سوق شانغهاي التي يباع فيها الذهب فعلياً باليوان. بالإضافة إلى الأداة الهامة المرتبطة بعقود النفط الصينية لشراء النفط مقابل اليوان المربوط بالذهب، والتي تتعزز بقوة الاقتصاد الصيني، وحصته من سوقي النفط والذهب العالميين... وكل هذا لا يُفهم فقط كعملية تعزيز للموقع العالمي لليوان فقط، بل هو ضربات كبرى للدولار.