شهادات الإيداع باب خصخصة الدين العام
اجتمع مجلس الوزراء اجتماعاً استثنائياً لمناقشة سعر الصرف، ونتج عن هذا الاجتماع الإقرار بما سبق وتم تداوله حول إصدار شهادات إيداع عن المصرف المركزي بالليرة، وثم بالدولار، وسيبدأ العمل بها منذ منتصف أيار القادم. وأياً كانت تسمية هذه الأوراق المالية، فإنها بالعمق تعني: تحويل الدّين العام من دين بين أطراف جهاز الدولة، إلى دين بين جهاز الدولة والسوق.
لم تتضح بعد تفاصيل إصدار شهادات الإيداع، وفي التفاصيل «يكمن الشياطين» كما يقال، وحين صدورها تتضح الصورة بشكل أكبر، ولكن النتائج العامة لهذا النوع من الإجراءات يمكن توقعها في ظل اقتصاد منهك يحاول التحرك وسط ضغوطات عالية من قوى المال الكبرى المهيمنة، التي ترى فرص مضاربة هامة تسعى لترسيخها قبل حدوث أيةِ تغيرات على الساحة السياسية.
تم الحديث سابقاً، عن أن هذه الشهادات ستصدر، وأنها ستكون قابلة للتداول، وتم الحديث أيضاً عن فوائدها المشجّعة للمستثمرين، التي أشار أحد المصادر أنها قد تبلغ 30%، وبكل الأحوال ستفوق نسبة 20% وهو أعلى سعر لفوائد الودائع الحالية قصيرة الأجل.
أما في أي سياق يأتي الحديث عن ضرورة إصدار هذه الشهادات... فالأمر يرتبط بإجراءات السياسة النقدية، ومحاولتها «ضبط كتلة الليرة في السوق»، والتي فاقت 6500 مليار ليرة، من ضمنها أكثر من 2250 مليار ليرة في المصارف نهاية عام 2016.
يسعى القائمون على السياسة النقدية إلى تجميع الجزء الأكبر من كتلة الليرة لدى المصارف، ولذلك فإنهم سيسعون إلى جذب حائزي الليرة ليودعوها في المصارف، وبالمقابل ستتعهد لهم الحكومة بأسعار فائدة مرتفعة، عبر شهادات الإيداع. وبالمقابل ستمول الحكومة عجزها المالي عبر هذه الكتلة النقدية، وسيتوقف إصدار الدين العام من المصرف المركزي للحكومة.
ولهذا مخاطر على المالية العامة، وعلى تكاليف الاستثمار، ومن ثم على قيمة الليرة.
خطر الفشل المالي
إن تجميع الليرات، أو حتى الدولارات من السوق، عبر شهادات الإيداع. يعني التزامات بسدادها خلال آجال قصيرة إلى متوسطة: (عادة ما تكون شهادات الإيداع بآجال من هذا النوع، بينما سندات الخزينة قد تكون طويلة الآجال). وستكون النتيجة على سبيل المثال، أنه إذا أرادت الحكومة أن تمول عجزاً بمقدار 700 مليار ليرة تقريباً، كما عجز الموازنة في العام الحالي... فإن عليها أن تصدر شهادات بهذا المقدار، وسيكون عليها أن تسدد عليها فوائد تتراوح بين 140- 200 مليار ليرة، بفرض أسعار الفائدة بين 20-30% تقريباً. خلال فترات قد تتراوح بين سنة وثلاث سنوات إذا ما أخذنا شهادات إيداع المصرف العقاري كنموذج. وهذه الآجال القصيرة تجعل إمكانية تحقيق عوائد من استثمار هذه الأموال عملية أصعب.
تعني هذه العملية نقل الدين العام من كنف الحكومة، وبينها وبين المصرف المركزي، إلى مستوى جديد... ليتحول الدين العام إلى علاقة بين الحكومة والسوق. أي: تصبح الحكومة مديونة للمستثمرين، وعليها أن تسدد لهم بالآجال والفوائد المستحقة، وإن لم تستطع فإنها عملياً ستلجأ للدّين مجدداً...
الملفت أيضاً، هو الحديث عن جعل هذه الشهادات قابلة للتداول في السوق المالية، أي: عملياً قابلة للمضاربة على قيمتها بشكل رسمي. فإذا ما تراجعت مؤشرات المالية العامة، أو أراد المستثمرون أن يخفضوا من قيمة هذه الأوراق المالية لسبب ما، فإن الحكومة ستضطر لرفع سعر الفائدة لاستعادة الجذب إليها. وهذا مثال فقط مما يمكن أن ينتج عن عملية إتاحة تداولها بين المستثمرين والطلب والعرض عليها، الأمر الذي سيجعل سعر فائدتها، والإقبال عليها مرتبطاً بعمليات المضاربة بين قوى السوق عبر البورصة، الامر الذي يؤثر على قيمة الليرة ذاتها.
إن اللجوء إلى استدانة الحكومة من السوق، هو فتح باب الفشل المالي، وهو أمرٌ نجاحه مرتبط بعدة شروط، أهمها: الآجال الزمنية الطويلة، ووجود أفق جدي لارتفاع الإيرادات العامة، عبر وجود مشروع وطني استثماري عام منظم ومدروس العوائد.
خطر عرقلة الإنتاج
إن اللجوء إلى هذه الخيارات سيعني عملياً من الجهة الأخرى رفع تكاليف الإقراض، ما يجعل النشاط الاقتصادي أعلى تكلفة، ويعيق حركته البطيئة حتى الآن. فعندما تكون الفوائد على الإيداع مشجعة، فإن الفوائد على الإقراض لن تبتعد عنها كثيراً، حتى تستطيع المصارف الملتزمة بسداد فوائد الودائع أن تحقق عوائد كافية لتدفع لزبائنها، وهذه العملية تؤدي إلى عرقلة توسع الاستثمار، والإنتاجي منه تحديداً، سواء كان العام أو الخاص، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تخفيض القيمة الحقيقية لليرة، وفتح باب التضخم مجدداً.
خطر توسيع مدى الخصخصة
إن عملت الحكومة باتجاه اللجوء إلى الدّين من السوق، فإن عليها أن تبحث عن موضع إيرادات تسدد منه مستحقاتها... وإن كانت إيراداتها تعتمد على الإيرادات العامة كالمنظومة الضريبية، فإن هذه عملياً ترتبط بالعمليات الإنتاجية، التي يؤثر عليها ارتفاع تكلفة الإقراض سلباً، والتي يؤثر عليها توجه كتلة السيولة نحو الاستثمار في الأوراق المالية الحكومية أيضاً سلباً. وتضطر الحكومة إلى البحث عن الإيرادات في تخفيف النفقات، أو في تحصيل إيرادات من خدماتها العامة، سواء عبر رفع أسعارها، أو عبر قبض عوائد من تشغيل المستثمرين لها.
ما يعني عملياً، البحث عن عوائد عبر عمليات الخصخصة، بمستوياتها من التشاركية وصولاً إلى البيع.