جسور الطاقة العالمية الجديدة
تحولت الصين إلى المستورد الأول للنفط الخام العالمي، مزيحة الولايات المتحدة من هذا الموقع، والصين لا تغير فقط آليات تسعير النفط، وتنافس هيمنة الدولار على سوق تبادل الطاقة، بل هي تغيّر حركة النفط والغاز في آسيا وعبر العالم، باختيارها لشركائها النفطيين.
الطاقة وتبادلها جسور تعبّر عن عمق ارتباط العلاقات الاقتصادية، وبالتالي تستطيع خرائط توزيعها أن تؤثر إلى حد بعيد في التغيرات الجيوسياسية العالمية.
روسيا المُصّدر الأول
الترابط الروسي الصيني يتحول إلى وقائع ملموسة ومستدامة يوماً بعد آخر، والمفارقات غير المنطقية التي كانت سائدة خلال عقود مضت، أصبحت تتلاشى. وفي مقدمتها طبيعة التبادل الطاقي بين الدولتين.
حيث تحولت روسيا إلى المُصدّر الأول للنفط الخام إلى الصين منذ بداية العام الحالي: 1,32 مليون برميل يومياً، بنسبة نمو 17,8% عن العام الماضي. وقد ازداد تدفق النفط الخام الروسي إلى الصين، نتيجة إقلاع أنبوب النفط الروسي الصيني في الشهر الأول من العام الحالي. مما ضاعف قدرة الصين على استيراد النفط من الشرق السيبيري على المحيط الهادئ.
فروسيا كمنتج كبير، والصين كمستهلك كبير، لم تكونا تتبادلان الطاقة إلا بحدود دنيا... وهذا الانقطاع كان تعبيراً عن طبيعة العلاقات الدولية، التي يركز الغرب فيها على عزل القوى الاقتصادية الهامة في دول الأطراف عن بعضها البعض. ولكن هذا يتغير فخلال ست سنوات تضاعفت الصادرات النفطية الروسية إلى الصين، ووقعت شركتا روسنفت، وشركة cnpc (الشركة الصينية الوطنية للنفط) عقداً لمدة 25 عاماً في 2014 وبقيمة 270 مليار دولار، بناءً عليه: على روسيا أن تورد 360 مليون طن من النفط الخام إلى الصين. ومنذ أن بدأ العقد بالسريان أصبحت روسيا الشريك الأول للصين في قطاع الطاقة.
بين السعودية وأنغولا
أما علاقات السعودية مع الصين، فهي حرجة نسبياً، فالسعودية لا تريد أن تخسر سوقها الأكبر الصيني، ولكنها بالمقابل لا تملك أن تتحرك مع المتغيرات الصينية بسرعة. فهي تعلم أن الأولوية الصينية لن تكون للنفط السعودي، إلا في حال قبلت السعودية عاجلاً أم آجلاً التعامل بعقود النفط الصينية باليوان، وهو ما يعني مساهمة السعودية في مهاجمة الدولار!
وفي إفريقيا تُظهر خريطة الطاقة تغيرات أيضاً في القارة، فأنغولا على سبيل المثال، وهي المنتج الثاني للنفط في إفريقيا بعد نيجيريا، وعضو الأوبك بإنتاج يومي يبلغ 1,67 مليون برميل، قد رفعت صادراتها النفطية إلى الصين لتزيح السعودية من المرتبة الثانية في الشهر الأول من العام الحالي، لتصدر للصين 974 ألف برميل يومياً، ونسبة 60% تقريباً من إنتاجها! ورغم عودة السعودية إلى الموقع الثاني في شهر شباط، إلّا أنّ أنغولا قد حجزت لنفسها موقعاً في استهلاك الصين الكبير، وأرسلت الصين للسعودية رسالة بإمكانية تحويل البدائل إلى أمر واقع، وإمكانية أن تخسر السعودية موقعها الثاني بعد أن خسرت موقعها الأول.
والملفت أن أنغولا قد أعلنت استعدادها لبيع نفطها بالذهب، وفكت ارتباط عملتها بالدولار، وأعلنت عزمها لتوسيع استثمارها المستقل لمناجم الذهب في البلاد. وبالتأكيد فإن كمية الاستهلاك الصيني من نفط أنغولا له تأثير هام على قدرة الدولة المذكورة، بالسير لخطوات من هذا النوع.
روسيا وألمانيا
وسط التصعيد السياسي الغربي الهائل على روسيا، أعلنت ألمانيا أنها موافقة على السماح باستكمال مد حصتها من خط الغاز الشمالي 2، لمسافة بطول 30 كيلومتر في المياه الإقليمية الألمانية، وأعلنت الشركة الروسية المنفذة بأن الحكومة الألمانية موافقة على مد كامل حصتها 85 كيلو متر من الخط العابر لبحر البلطيق والذي سيربط روسيا بألمانيا، مروراً بالمياه الإقليمية لفنلندا والدنمارك والسويد. وسيؤدي لمضاعفة قدرات الخط الحالي بمقدار 55 مليار متر مكعب سنوياً، ليكون طريقاً أساسياً لمرور الغاز الروسي إلى شمال أوروبا، وهو المشروع الذي يلقى معارضة كبيرة من دول في أوروبا الشرقية، وتحديداً أوكرانيا التي يتجاوزها الخط، وكذلك هددت الولايات المتحدة بمعاقبة الشركات التي تتعاون مع روسيا لإنشاء المشروع، ولكن المشروع بدأ بالعمل...
روسيا والهند
وصلت أول ناقلة غاز روسية من الشمال الغربي السيبيري إلى الهند، وفق خطة شركات الغاز الروسية لتوسيع تسويق الغاز الروسي في السوق الآسيوية.
الغاز المصدّر مستخرج من منطقة يامال في سيبيريا، بمشروع مشترك بين شركة نوفاتيك الروسية، وتوتال الفرنسية، وشركة النفط الصينية الوطنية cnpc، بالإضافة إلى صندوق طريق الحرير. بحصة 20% لكل من توتال وللشركة الصينية، و9,9% لصندوق طريق الحرير، والباقي لشركة نوفاتيك الروسية، بنسبة 70% تقريباً.
تستخدم كل من الصين وروسيا كأهم مستهلك ومنتج للطاقة عبر العالم، وزنهما الاقتصادي الهام في سوق النفط، لتغيير معالم هذه السوق التي كانت مكبلة بالدولار: حيث يُسعّر النفط في الأسواق الأمريكية الأساسية برنت وغرب تكساس، ويُسعّر بطبيعة الحال بالدولار، ويتم تبادله به، ويستطيع بالتالي مالكو الدولار أن يفرضوا عقوبات وتضييقات على تداوله. ولذلك فإن متغيرات خريطة الطاقة التي تربط آسيا مع بعضها، وتفتح فرصة للمنتجين والمستهلكين عبر العالم، بالتداول دون وسيط دولاري، هي متغيرات اقتصادية كبرى، ترسخ التغيرات السياسية الدولية، وتؤكد انتهاء مرحلة عزل دول الأطراف عن بعضها البعض، وربطها بضفتي الأطلسي. التداول العالمي للنفط والغاز يتحرر من قيوده، عندما فتحت الصين الباب لآلية تسعير جديدة للنفط، عبر عقود النفط القابلة للتداول باليوان والذهب في سوق شنغهاي... ولم تستطع الصين أن تفعل هذا إلا بتحولها إلى المستهلك الأكبر، أي: بزيادة قدرتها على الطلب، نتيجة توسع إنتاجها.
تضطر الولايات المتحدة للتسليم بالمنافسة العالية في سوق النفط، والأهم بالتسليم بخسارة الدولار القريبة، لينعكس ذلك متغيرات كبرى في وقائع السياسة والاقتصاد، وتحديداً في منطقتنا، حيث خزان النفط العربي- الفارسي، متغيرات أساسها هيمنة أمريكية أقل وأفق جديد للعلاقة مع قوى العالم الصاعدة.
a